معركة الدعاية.. الغزو الروسي الخفي للغرب وأفريقيا

في معركة بلا نيران أو دماء، يخوض الروس حربًا ذخيرتها القصص والشائعات بهدف كسب ساحات جديدة للنفوذ في الدول المختلفة.

ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، نشطت الأجهزة الدعائية الروسية في العديد من الدول للتأثير على شعوبها، ومحاولة توجيه الرأي العام العالمي لإعادة تشكيل وجهات نظر المواطنين حول العديد من القضايا المحلية والدولية بما يخدم أهداف السياسة الخارجية الروسية.

وكان لافتًا العام الماضي مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، أن الأخيرة ناشدت مواقع التواصل الاجتماعي حظر الدعاية الروسية، وقال وزير التحول الرقمي في أوكرانيا ميخائيل فيدوروف Mykhailo Fedorov، إن هذه الخطوة أتت بهدف حماية شباب بلاده من التعرض لهذه المواد الدعائية.

فبالتوازي مع الهجوم العسكري الروسي، شنت موسكو حربًا دعائية ضارية لضرب الروح المعنوية للأوكرانيين وحلفائهم الغربيين.

معركة التضليل.. هكذا تغزو الدعاية الروسية دول العالم

الماكينة الدعائية الروسية

يشكل التلاعب بالمعلومات إحدى أهم أدوات السياسة الخارجية الروسية، وتنشط هذه الأدوات في أوقات الصراع والتنافس الدولي.

ومنذ بداية حكمه ركز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ملف الإعلام وسعى إلى إقامة شبكة دعائية قوية تدعم نفوذه داخل روسيا؛ ففي عام 2000 اعتقل بارون الإعلام فلاديمير جوسينسكي Vladimir Gusinsky وأجبره على بيع ممتلكاته الإعلامية، وبمرور الوقت استطاع حصار الإعلام والسيطرة عليه.

معركة التضليل.. هكذا تغزو الدعاية الروسية دول العالم

وإمعانًا في تحصين بلاده من التأثيرات الإعلامية الغربية، اعتمد بوتين موقع “فكونتاكتي” (VKontakte) ليكون النسخة الروسية البديلة لموقع فيسبوك المحجوب في هذه الدولة، ومع توسع نطاق المواجهة مع الغرب استطاع الروس توسيع نطاق عملهم الدعائي ليشمل العالم كله وأصبحت الأداة الدعائية تستخدم بشكل هجومي وليس دفاعي فقط.

ففي 2011 استخدم المحتجون منصات التواصل الاجتماعي لتنظيم مظاهرات ضد حكم بوتين ويتهمونه بتزوير الانتخابات، وكذلك اشتعلت الاحتجاجات ضد نظام بيلاروسيا المجاورة، ولاحظ الكرملين عمق التأثير السياسي لهذه المواقع، وهو ما تكرر أيضًا عام 2013 في أوكرانيا حيث نجحت الاحتجاجات في الإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لموسكو، فيكتور يانوكوفيتش، ومن هنا قرر بوتين إيلاء أهمية قصوى للدعاية عبر الإنترنت كأداة لمحاربة خصومه الخارجيين في أنحاء العالم.

ومع احتلالها عدة مناطق من الأراضي الأوكرانية، حجبت موسكو عن السكان إمكانية الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي الغربية، وتمت برمجة هواتفهم لتتصل بموقع فكونتاكتي الذي يخضع الموقع لرقابة حكومية صارمة ويُستخدم لتجنيد المرتزقة لدعم الجيش الروسي في معركته.

وكان الموقع مملوكًا جزئيًا لعليشر عثمانوف Alisher Usmanov، أحد رموز الأوليغارشية الروسية (الأقلية من رجال الأعمال الأثرياء) قبل أن يشتري يوري كوفالتشوك Yury Kovalchuk المقرب من بوتين حصة فيه بالإضافة إلى مجموعته الإعلامية التي تضم العديد من القنوات الإخبارية.

ويُعرف كوفالتشوك على أنه الرجل الثاني بحكم الأمر الواقع في روسيا، والأكثر نفوذاً بين حاشية الرئيس، فهو يفهم أولويات وأهداف الرئيس ويعمل على تكييف سياسة وسائل الإعلام مع هذه الأهداف بعيدًا عن تعقيدات ورتابة عمل المؤسسات البيروقراطية.

وكذلك تعد وكالة أبحاث الإنترنت (IRA) التي يمولها الأوليغارشي يفغيني بريغوجين، من أبرز الجهات العاملة في هذا الصدد ضمن الماكينة الإعلامية التابعة للكرملين مباشرة.

فغالبًا ما يكون عمل هذه الماكينة غير منظم بشكل فضفاض، ويتم تفويض الأعمال إلى مجموعة متنوعة من الجهات، وتتيح هذه الطريقة أقصى قدر من المرونة والسرعة والقدرة على التكيف والإبداع، بما يسمح بالعمل بطريقة التجربة والخطأ.

معركة التضليل.. هكذا تغزو الدعاية الروسية دول العالم

وتشمل خطة الدعاية الروسية استغلال الأشخاص المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي في الدول الأخرى، ودفعهم لترديد روايات تؤيد أهداف موسكو نظير مبالغ مالية كبيرة، وكذلك اللجوء لما يُعرف باسم “العلاقات العامة السوداء” لتدمير سمعة السياسيين والمسؤولين من خصوم الكرملين.

الحرب النفسية

على مدار السنة الماضية تكثفت الحرب النفسية الروسية على كل المستويات مستهدفة ليس فقط التأثير على سير المعركة بل على المعسكر الغربي الداعم لكييف، وشارك في تلك الحملة الدعائية الإعلاميون والدبلوماسيون ومسؤولون ورجال أعمال وحتى مواطنون عاديون.

وعملت الماكينة الدعائية على التأثير في الدول الداعمة لكييف عبر إقناع شعوبها بعدم جدوى تقديم المعونات لكييف، ونشر مزاعم على غرار القول إن العقوبات الدولية المفروضة على روسيا هي سبب ارتفاع الأسعار العالمية للغذاء والوقود، أو أن أوكرانيا تمنع تصدير الحبوب عمدًا أو أنها تمنحها إلى الأوروبيين في مقابل تزويدهم لها بالأسلحة تاركة الدول الأخرى تواجه خطر المجاعة، أو أن أوكرانيا تواجه حربًا أهلية وموسكو تريد حماية السكان الناطقين بالروسية من خطر الإبادة.

التمدد في أفريقيا

اعتمدت روسيا على ماكينتها الدعائية للتمدد في القارة السمراء على حساب فرنسا، وذلك من خلال ركوب موجة العداء لباريس لدى الرأي العام الأفريقية اعتمادًا على عدم وجود لها سوابق استعمارية في القارة على غرار الفرنسيين.

ولاقى الروس ترحيبًا شعبيا ورسميًا من الأفارقة الذين رأوا فيهم طرفًا أكثر مصداقية من الفرنسيين، بدلا من أن يعتبروا هذا التمدد الروسي محاولة من مستعمر أجنبي للحلول محل مستعمر بآخر.

وأصبحت منطقة غرب أفريقيا معقلا للاحتجاجات الشعبية ضد كل ما له صلة بباريس بعد أن كانت في السابق فنائها الخلفي وساحة نفوذ لا منازع للفرنسيين فيها، لكن اليوم تتأجج المشاعر الشعبية المناهضة للفرنسيين في أرجاء المنطقة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ضمن حملة مدعومة روسيًا لم تستطع باريس حتى الآن التصدي لها.

فالأفارقة باتوا يلوحون بالأعلام الروسية في أكثر من دولة خلال مظاهراتهم واحتجاجاتهم أمام السفارات الفرنسية؛ ومؤخرًا غداة زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لجمهورية الكونغو الديمقراطية لوح المتظاهرون بالعلم الروسي خارج السفارة الفرنسية بكينشاسا وهتفوا ضد فرنسا، ومثل هذا المشهد تكرر قبل ذلك في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد إذ رفعت الأعلام الروسية في المظاهرات كيدًا في الفرنسيين.

وعمدت روسيا لاصطناع نخب حاكمة موالية لها في أفريقيا وإزاحة النخب الموالية لفرنسا، فشهدت مالي انقلابين عام 2020 أوصلا إلى السلطة عسكريين معادين لباريس وطردوا قواتها من بلادهم رسميًا في أغسطس 2022.

معركة التضليل.. هكذا تغزو الدعاية الروسية دول العالم

ووقع انقلابان عسكريان أيضًا في بوركينا فاسو خلال 2022، وطردوا القوات الفرنسية رسميًا في فبراير 2023، وحصل قادة الانقلاب على دعم شريحة من السكان مساندة لروسيا.

وبعد وقوع انقلاب 30 سبتمبر 2022 ببوركينا فاسو اتهم قادته فرنسا بإيواء الرئيس المخلوع في قاعدة عسكرية تابعة لها، ورغم نفي الخارجية الفرنسية وإصدار الرئيس الهارب أيضًا نفيًا لذلك لكن المتظاهرين هاجموا سفارة فرنسا في العاصمة واغادوغو وأمطروا المركز الثقافي الفرنسي ببوبو ديولاسو Bobo-Dioulasso بالحجارة، وفي يناير، قررت بوركينا فاسو إلغاء اتفاق التعاون مع القوات الفرنسية وأمهلتها شهرا للمغادرة، وبالفعل تم إعلان إنهاء الوجود الفرنسي بشكل رسمي في الشهر التالي.

فالقادة الجدد الباحثون عن الشعبية بعد نجاح انقلاباتهم يتقربون من موسكو ويبتعدون عن باريس ذات الوجه الاستعماري البغيض، فيكتسبون تلقائيًا تأييدًا شعبيًا من الجماهير التي تناهض النفوذ الفرنسي في بلادها.

وقبل مالي وبوركينا فاسو أخرجت جمهورية أفريقيا الوسطى الفرنسيين منها عام 2018 لتحل محلها مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية الخاصة التي تصدت لمحاولة انقلابية على الرئيس فوستان آرشانج تواديرا عام 2020، مما شجع الدول الأفريقية الأخرى على استبدال الجيش الفرنسي بالفاغنر التي اعترف رجل الأعمال الروسي المقرب من بوتين، يفغيني بريغوجين، بتأسيسها بعد سنوات من تنصل الكرملين منها ظاهريًا.

وكذلك اشتعلت الاحتجاجات في تشاد والنيجر وساحل العاج للمطالبة برحيل القوات الفرنسية، وفي مارس 2021 نهب المحتجون متاجر فرنسية في العاصمة السنغالية داكار معتبرين أن فرنسا سبب مشاكلهم، وكذلك يعاني الفرنسيون في بنين وتوغو من تراجع نفوذهم وسيطرتهم شيئًا فشيئا.

وتقدم روسيا عروضًا لهذه الدول للتعاون الأمني والعسكري والاقتصادي وتتمدد على حساب النفوذ الفرنسي والغربي بصفة عامة حتى بات يُنظر إلى موسكو في الغرب على أنها المسؤول الرئيسي عن تغيير خرائط النفوذ في القارة السمراء.

تقسيم المجتمعات

عمد الكرملين إلى استخدام سلاح آلته الدعائية لتقسيم المجتمعات الغربية عن طريق تأجيج التوترات العرقية وإشغال هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بمشاكلها الداخلية وإضعافها.

ونجحت الخطط الروسية في تأجيج نيران الانقسام بين مكونات المجتمع الأمريكي، وإثارة العداوات العرقية.

معركة التضليل.. هكذا تغزو الدعاية الروسية دول العالم

وتم رصد تورط الروس في إنشاء مجموعات مزيفة على مواقع التواصل للأميركيين السود ونشر معلومات مضللة لثنيهم عن الإقبال على الانتخابات، وفي نفس الوقت دعم الروس صعود الجماعات اليمينية المتطرفة التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض والنازيين الجدد، وتشجيع انتشار خطابات الكراهية وتحفيز السود على ممارسة العنف.

وسعيًا لإضعاف حكم القانون، وعسكرة الجماعات العرقية، ظلت الدعاية الروسية تروج لروايات عنصرية تثير الانقسام، كنشر القصص والأخبار عن إساءة معاملة الشرطة والجيش الأمريكيين للسود أو ما شابه، والترويج لفكرة انهيار الولايات المتحدة قريبا بسبب الحروب العرقية.

التدخل في الانتخابات

أصبح واضحًا أمام العالم حقيقة تورط موسكو في التدخل في الانتخابات الأمريكية والغربية بعد اعترافات يفغيني بريغوجين (المعروف أيضًا بطباخ بوتين) بالتدخل في الانتخابات الأمريكية في اعتراف الأول من نوعه من شخصية روسية بهذا الحجم، وذلك بعد الإنكار الرسمي لبلاده مرارا على مدار السنوات الماضية لتلك الاتهامات.

وكانت واشنطن عرضت مكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار مقابل معلومات عن صلة هذا الرجل بالتدخل في الانتخابات الأمريكية، وتعرض لعقوبات دولية، وبعد اعترافه الأخير أعلن البيت الأبيض صحة تلك التصريحات.

فقبل هذا الاعتراف تم رصد وتتبع العديد من التدخلات الروسية؛ فشركة فيسبوك (ميتا) رصدت نشر حوالي 80 ألف رسالة قادمة من روسيا على شبكة التواصل الاجتماعي ووصلت ل 126 مليون أمريكي باستخدام حسابات وهمية بهدف التأثير على السياسة الأمريكية

وقدمت فيسبوك تفاصيل مكتوبة لمشرعين أمريكيين حول هذا الأمر حيث حاولت موسكو نشر معلومات مضللة في الشهور السابقة على انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016 وأيضًا الشهور التالية لها.

وأعلنت وكالات المخابرات الأمريكية بالإجماع في عام 2017 أنها خلصت إلى أن الحكومة الروسية حاولت التأثير على الناخبين لصالح الرئيس ترامب وضد منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، لكن ترامب حينها حاول التشكيك في هذا الاستنتاج.

وواصل الروس استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتأثير على الجدل السياسي في الولايات المتحدة، وهو ما يخشى الأمريكيون من تكراره في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2024.

كما انخرطت روسيا في حملات دعائية سرية للتأثير على نتيجة استفتاء استقلال اسكتلندا عام 2014،

ووجدت وكالات المخابرات البريطانية معلومات “موثوقة” تشير إلى تدخل عملاء روس في الاستفتاء، مع أن التصويت حُسم بفارق ضئيل لصالح بقاء اسكتلندا جزءًا من المملكة المتحدة.

ولكن على الرغم من ذلك ، تقاعست الحكومة البريطانية المحافِظة في النظر في تهديد الكرملين للديمقراطية البريطانية خلال التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، نظرا لتوافق نتيجة الاستفتاء مع رغبات المحافظين، مما أثار انتقادات وجدل سياسي كبير.

 

معركة التضليل.. هكذا تغزو الدعاية الروسية دول العالم

كما تجمعت أدلة متضافرة على التدخل الروسي في 19 دولة أوروبية على الأقل، وتوصلت أجهزة الاستخبارات الأمريكية إلى أن مقدار ما أنفقته موسكو سرًا بين عامي 2014 و2022 للتأثير على السياسيين والمسؤولين ومراكز الفكر في أكثر من عشرين دولة يصل إلى أكثر من 300 مليون دولار.

ووصف المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس التمويل الروسي السري بأنه “اعتداء على السيادة” و”محاولة لتقليص قدرة الناس في جميع أنحاء العالم على اختيار الحكومات التي يرون أنها الأنسب لتمثيلهم، وتمثيل مصالحهم وقيمهم”.

وحاول الروس التأثير على نتائج الانتخابات الأخيرة في ألبانيا والبوسنة والجبل الأسود وجميع دول أوروبا الشرقية التي واجهت ضغوطًا تاريخية من موسكو.

وبناء على ذلك اتخذت وزارة الخارجية الأمريكية خطوة غير عادية العام الماضي بإطلاق برقية دبلوماسية غير سرية للسفارات والقنصليات الأمريكية في الخارج ، والعديد منها في أوروبا وإفريقيا وجنوب آسيا تدعو الدبلوماسيين الأمريكيين لإثارة قضية التدخل الروسي مع الحكومات المضيفة والتوصية بكشف التمويل السري.

وذلك بناء على كشف المخابرات الأمريكية عن خطط روسية لتحويل “مئات الملايين على الأقل” من الدولارات لتمويل الأحزاب والمسؤولين المتعاطفين في جميع أنحاء العالم.

وقد تفاوتت الجهود الروسية على نطاق واسع، فعلى سبيل المثال، يُتهم الكرملين بتدبير محاولة انقلاب في أكتوبر 2016 لمنع الجبل الأسود من الانضمام إلى الناتو، وفي عدد من الدول الأوروبية ساعدت موسكو في تمويل الأحزاب اليمينية المتطرفة، وشنت حملات تضليل في دول أخرى.

ففي ألمانيا تُتهم روسيا بشن هجمات إلكترونية واختراق البرلمان الألماني في عام 2015 وسرقة 16 غيغابايت من رسائل البريد الإلكتروني وخلصت وكالات الاستخبارات الألمانية إلى أن الكرملين يقف بشكل مباشرة وراء العملية، لكن لم يتم نشر هذه المواد – على عكس رسائل البريد الإلكتروني المنسوبة إلى حملة ماكرون في فرنسا أو فريق هيلاري كلينتون في الولايات المتحدة-

وواجه قادة ألمانيا وفرنسا مقاومة من الأحزاب المدعومة من روسيا؛ فحزب البديل من أجل ألمانيا جعل العلاقات الوثيقة مع روسيا إحدى الأولويات القصوى له، ونظم حملات قوية في المقاطعات ذات التركيز العالي من المتحدثين باللغة الروسية، وقدمت وسائل الإعلام الحكومية الروسية تغطية مواتية لتلك الحملات.

معركة التضليل.. هكذا تغزو الدعاية الروسية دول العالم

وفي فرنسا كان الدعم الروسي لجبهة ماري لوبان اليمينية المتطرفة أكثر شمولاً، فحصلت على قروض من البنوك الروسية وأشادت مرارًا ببوتين، وفي المقابل دعمتها وسائل الإعلام الحكومية الروسية علانية في الانتخابات الفرنسية، وكانت مدعومة من قبل حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التي ترعاها روسيا.

وفي إيطاليا تصدرت حركة خمس نجوم الشعبوية المؤيدة لتوثيق العلاقات مع روسيا، ولم تستطع دحض الاتهامات الموجهة لها بالتعاون مع روسيا.

وفي ضوء السعي الروسي لإضعاف حلف الناتو وتقليص التعاون الأوروبي مع واشنطن، استغلت موسكو الفرص للتدخل كالأزمة المالية العالمية التي فاقمت الانقسام الاقتصادي بين الشمال والجنوب في أوروبا، وكذلك أزمة تدفق المهاجرين على أوروبا عام 2015، مما أدى إلى صعود الأحزاب والحركات الشعبوية فدعمها الروس بقوة.

ونشطت الماكينة الدعائية الروسية في تمهيد الأرضية لليمين المتطرفة، ومن أشهر حالات التضليل في هذا الصدد ترويج وسائل الإعلام الروسية لمزاعم اختطاف واغتصاب لفتاة روسية ألمانية قاصرة في يناير 2016 على يد ثلاثة رجال تم تحديدهم على أنهم “مسلمون” أو “عرب”، وتسببت هذه التقارير الكاذبة في قيام مظاهرات بألمانيا.

وزعمت قصة كاذبة أخرى في يناير 2017 أن جنود الجيش الألماني اغتصبوا فتاة أثناء تواجدهم في ليتوانيا كجزء من مهمة للناتو، وذكرت تقارير أخرى أن اللاجئين دمروا أقدم كنيسة في ألمانيا، وأن 700 ألف ألماني غادروا البلاد بسبب سياسة اللاجئين التي انتهجتها المستشارة السابقة أنجلا ميركل، وحصل مقطع فيديو يصور المستشارة الألمانية على أنها مريضة عقليًا على أكثر من مليون مشاهدة، وغير ذلك كثير من الروايات المضللة التي تتحدث عن جرائم مزعومة ارتكبتها واشنطن أو الناتو أو المهاجرين أو المسلمين والعرب، وتدعو الغرب لوقف دعم أوكرانيا.

كما تم تشكيل جماعات ضغط مكونة من نخب موالية لموسكو في العواصم الأوروبية تضم سياسيين وأكاديميين ورجال أعمال لهم مصالح اقتصادية في روسيا، وأصبحت هذه الجماعات صوتًا تقليديًا للمصالح الروسية في تلك البلدان.

وضمت خليطًا من الأحزاب اليمينية واليسارية والمجموعات المتطرفة المناهضة للإسلام والمهاجرين مثل حركة “بيغيدا” الألمانية التي تجهر بولائها لموسكو وترفع الأعلام الروسية في مَسيراتها!

إذ تستغل الدعاية الروسية وجود توجهات مشتركة مع بعض الأطراف في الدول الأوروبية وتلعب على الأوتار المؤثرة لديهم؛ فغالبًا ما يكون التعاطف مع حكم الكرملين نتيجة ميل بعض أصحاب التوجهات المحافظة لهذا النموذج الاستبدادي، أو بسبب مشاعر معاداة الهيمنة الأمريكية، أو تبنيهم مواقف سلبية تجاه العولمة والتكامل الأوروبي، ويبرع الروس في استغلال هذه المداخل للنفاذ إلى قطاعات أوروبية مؤثرة.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن القائمين بهذه المهمات الدعائية ليسوا بالضرورة عملاء للكريملين، فهناك الكثيرمن المتعاطفين بشكل حقيقي مع موسكو ويعملون لخدمة قضاياها بدوافع أيديولوجية دون وعي بوظيفتهم وموقعهم في ماكينة الدعاية الروسية ودون أن يتقاضوا على عملهم هذا أجرًا.

وهذه الظاهرة أيضًا ليست عفوية بل هي نتاج عمل الدعاية الروسية التي استطاعت حشد جمهور مؤثر من المؤيدين المتأثرين بأفكارها.

الغرب يتصدى للتدخلات الروسية

من المهم حقا التعرف على ردود الأفعال الغربية تجاه حملات التضليل الروسية، فقد تباينت الاستجابات بحسب اختلاف توجهات نظم الحكم وتعدد الرؤى لمعالجة هذا الأمر؛ ففي فرنسا اتهمت حملة ماكرون الرئاسية الكرملين بالتدخل في الانتخابات، ورجحت تورط قراصنة مرتبطين بروسيا في الاختراق الإلكتروني للحملة لمساعدة مارين لوبان منافسة ماكرون.

وحينها التقى الرئيس الروسي في مارس 2017 بلوبان في موسكو في الفترة التي سبقت السباق على الإليزيه في ربيع ذلك العام في خطوة غير مسبوقة، وكانت المرشحة اليمينية أعلنت آنذاك عزمها رفع العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا، وقالت: “الخطوط السياسية الكبيرة التي أدافع عنها هي الخطوط الكبيرة التي يدافع عنها السيد ترامب ، والتي يدافع عنها بوتين”، وأعلنت اعترافها باعتبار أوكرانيا جزءًا من دائرة نفوذ روسيا.

وتعاملت باريس مع عملية الاختراق الروسي بمسؤولية حيث أبلغت السلطات جميع الأحزاب الرئيسية بخطر التدخل الخارجي ونصحتهم بكيفية جعل عملياتهم أكثر أمانًا، واحترمت وسائل الإعلام الفرنسية قوانين الانتخابات الصارمة في البلاد وامتنعت عن الإبلاغ عن محتواها.

لكن بصفة عامة فإن مكافحة الأخبار الكاذبة أو عمليات التدخل أمر صعب، بسبب عدم تقبل فرض قوانين تزيد من الرقابة على شبكات التواصل الاجتماعي، وإثارة جدل حول كيفية رسم الخط الفاصل بين حرية التعبير والإضرار بالصالح العام.

وتجنبًا لمثل هذا الجدل قرر فريق العمل المعني بمكافحة الأخبار المزيفة في التشيك الرد على الأكاذيب وتفنيدها بدلا من حظر المواقع الإلكترونية، ومع ذلك فإن المشكلة في هذه الفكرة هي أن قطاعا من جمهور مواقع نشر الأكاذيب يتجاهل وسائل الإعلام التي تنشر التصحيحات.

وفي ألمانيا بذلت المؤسسات المختصة جهودًا كبيرة في تحصين المنظومة الانتخابية من الاختراق الروسي لكن المعضلة التي بقيت بدون حل هي كيفية تحصين رؤوس الناخبين من اختراق الدعاية الروسية لعقولهم.

كما نشطت الجهود غير الحكومية الغربية لتقليص قدرة موسكو على التدخل في الانتخابات المستقبلية في الولايات المتحدة وأوروبا، فمثلا تعاون الحزبان الأمريكيان الديمقراطي والجمهوري عام 2017 في تدشين مشروع يهدف إلى تتبع الدعاية المدعومة من روسيا على موقع تويتر.

وحذف موقع “فيسبوك” الحسابات المزيفة المرتبطة به التي روجت للسياسة الروسية في العديد من البلدان.

“شكرا فاغنر”

أنشأت روسيا شبكة معلومات متخصصة يقودها خبراء في مخاطبة الشعوب المختلفة على وعي بثقافاتها وخصوصياتها، ففي أفريقيا على سبيل المثال قبل أيام فقط من غزو أوكرانيا تم إنشاء شبكة معلومات روسية التوجه باللغة الفرنسية تروج لأفكار معادية للغرب ومؤيدة لموسكو تسمى “روسوسفير” (أي الفضاء الروسي) استقطبت عشرات الآلاف من المتابعين.

ويقود هذه الشبكة السياسي البلجيكي الموالي لموسكو، لوك ميشيل،  الذي يقول: “أنا أدير الحرب السيبرانية، الحرب الإعلامية ..وبريغوجين (مؤسس فاغنر) ينفذ الأنشطة العسكرية”، ويعلن بصراحة “روسيا يجب أن تحل محل الفرنسيين في كل أرجاء أفريقيا”.

وتم الكشف تقنيًا عن صلة ميشيل بمجموعة “شكرا فاغنر” التي تضم إعلاميين موالين لجيش المرتزقة الروس، وتعد هذه الشبكة مثالا واحدا فقط على عمل المجموعة التابعة للكريملين.

وتحفل الشبكة بمنشورات تصف الجانب الفرنسي بـ”الاستعماري”، وتصف جيش أوكرانيا بأنه تجمع من متطرفين نازيين وعبدة شيطان، بينما تمتدح روسيا وتحث على الانضمام لمرتزقة فاغنر، وتبين كيفية الالتحاق بها.

ولا يخفى ما لهذا النموذج من تأثير كبير في أفريقيا ودعم للتيار الناشئ الموالي لروسيا، ولعل هذه الشبكة وأشباهها من ضمن العوامل التي حشدت الرأي العام في دول جنوب الصحراء لصالح موسكو وأفضت في النهاية إلى طرد القوات الفرنسية.