الحديث عن المصالحة “التركية السورية” يأتي بعد عقد من العداء

  • في ظل تغير دراماتيكي في الخطاب الرسمي التركي تجاه سوريا يكثر الحديث عن مصالحة تركية سورية مدعومة من روسيا
  • يسعى الرئيس التركي من التقارب مع دمشق إلى إضعاف رهان المعارضة التركية التي تصر على لقاء الأسد لحل أزمة اللاجئين السوريين والتعامل مع وحدات حماية الشعب
  • تأمل أنقرة أيضا الحصول على ضوء أخضر روسي لعملية عسكرية محدودو في سوريا.
  • في المقابل تريد دمشق انسحاب تركي كامل من الأراضي السورية
  • على الرغم من غياب أفق تطبيع حقيقي في العلاقات بين البلدين، يمكن للأطراف المنخرطة في التقارب أن يجدوا حلولا وسطى تمكنهم من تحقيق بعض المكاسب المرحلية

يقول السياسي الأمريكي بيل كلاي: هذه هي لعبة سياسية. لا يوجد أعداء دائمون، ولا أصدقاء دائمون، فقط مصالح دائمة.” تساعدنا هذه المقولة على فهم التحول الدراماتيكي الأخير في الخطاب السياسي التركي تجاه سوريا.

فبعد عقد من العداء بين أنقرة ودمشق نتيجة وقوف تركيا مع المعارضة السورية خلال سنوات الحرب، ظهرت مؤخرا تصريحات لمسؤولين أتراك رفيعي المستوى تتحدث عن رغبة تركيا في دعم المصالحة السياسية بين النظام السوري والمعارضة السورية.

المسؤولون الأتراك، بما فيهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أيضا اقترحوا بشكل صريح احتمال لقاء الرئيسين، بعد الاجتماع الثلاثي لوزراء دفاع سوريا وتركيا وروسيا، الذي عقد في في موسكو في ديسمبر من العام الماضي.

مما لا شك فيه بأن إعادة المياه إلى مجاريها بين دمشق وأنقرة سيكون لها أثر كبير على المنطقة ككل، وتحديدا على الشمال السوري حيث نفوذ تركيا المباشر في مناطق الجيش الوطني السوري المدعوم من قبلها والمعروفة باسم (درع فرات، غصن زيتون، نبع السلام)، أو منطقة إدلب التي تتمتع أنقرة فيها بنفوذ غير مباشر من خلال علاقتها مع الفصيل الحاكم هيئة تحرير الشام.

إعادة المياه إلى مجاريها بين دمشق وأنقرة سيكون لها أثر كبير على المنطقة ككل، وتحديدا على الشمال السوري حيث نفوذ تركيا المباشر

يحاول هذا المقال الإجابة عن بعض الأسئلة التي يطرحها التطور الأخير مثل: ما مدى جدية أنقرة في رغبتها التطبيع مع الأسد، وما العوائق التي قد تحول دون تحقيق المصالحة بين البلدين. وأخيرا، في حال تمت المصالحة، ماهي السيناريوهات المتوقعة وكيف سيكون أثرها على الشمال السوري؟

لماذا الآن؟

يجادل كريستوفر فيليبس في كتابه “المعركة من أجل سوريا، التنافس الدولي في الشرق الأوسط الجديد” بأن قرار أردوغان بالانقلاب على الأسد في المراحل الأولى من الانتفاضة السورية يمكن أن يُعزى، من بين عوامل أخرى، إلى قدرة أردوغان على اكتساب مكانة البطل في الشوارع العربية التي سمحت له بتعزيز قوة تركيا الناعمة في العالم العربي خلال فترة ثورات الربيع العربي.

وبالتالي قد يكون لارتباط أردوغان بالأسد تأثير سلبي على سمعته السياسية. في الوقت ذاته، فإن هذا الارتباط من شأنه أن يضع تركيا في مواجهة غير ضرورية مع أعداء الأسد من الدول الغربية والعربية التي اتخذت موقفا حاسما من نظامه تجلى بقطع العلاقات الدبلوماسية والدعوات المتكررة له بالرحيل من السلطة.

لكن الربيع العربي فقد زخمه في سوريا بعد التدخل العسكري الروسي في سبتمبر 2015، والذي عزز بشكل كبير موقف الأسد وقضى على آمال معارضيه.

بالإضافة إلى ذلك، أدى صعود داعش الملحوظ وقدرته على بسط سيطرته على مساحات شاسعة من الأراضي بين سوريا والعراق في عام 2014 إلى تغير المناخ السياسي لصالح الأسد، حيث بدأت القوى الغربية والإقليمية في إعادة توجيه طاقاتها لمحاربة داعش، الأمر الذي أفقد شهيتها لمحاربة الأسد أو تغيير نظامه.

لكن كما يشير تشارلز ليستر, مدير برنامج سوريا في معهد الشرق الأوسط, أنه منذ عام 2017, ومع فقدان تركيا الأمل في تغيير النظام في سوريا، ركزت السياسة التركية على هدفين محددين: منع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب المرتبطة بعدو تركيا التاريخي حزب العمال الكردستاني، من تأسيس كيان سياسي كردي مستقل بالقرب من الحدود التركية الجنوبية، ومنع تدفق المزيد من اللاجئين السوريين إلى تركيا بعد أن بلغ عددهم أكثر من 4 ملايين لاجئ.

لتحقيق هذه الأهداف، شنت تركيا بمساندة الجيش الوطني المدعوم من قبلها 4 عمليات عسكرية في الشمال السوري بغية إنشاء منطقة آمنة تمتد على طول الحدود السورية التركية بعمق 30 كم.

يرى الكثير من المراقبين أن أهداف أنقرة في سوريا ترتبط بشكل وثيق في السياسة الداخلية للبلاد وتحديدا قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة في الشهر الخامس من العام الحالي. حيث ترى المعارضة التركية أن تطبيع العلاقات مع الرئيس الأسد ومساعدته على بسط سيطرته على كامل الأراضي السورية وتحديدا المناطق التي تسيطر عليها قسد في شمال وشمال شرق البلاد ستحد من خطر وحدات حماية الشعب.

أضف إلى ذلك، فإن التوقف عن دعم المعارضة السورية وإجبارها على القبول بحكومة الأسد، بحسب المعارضة التركية، قد يؤدي إلى إنهاء النزاع في سوريا وتحقيق الاستقرار، الأمر الذي سيساعد تركيا على ترحيل اللاجئين السوريين إلى بلادهم، بعد أن تحولوا إلى الشماعة التي يٌعلق عليها تدهور الأوضاع الاقتصادية الهائل الذي تعيشه البلاد.

من الواضح أن المعارضة التركية نجحت في إقناع جزء كبير من الشارع التركي في صوابية إعادة إحياء العلاقات مع الأسد، وقد أظهر استطلاع للرأي أجري في ديسمبر 2022 في جميع أنحاء تركيا أن 59٪ من الأتراك يؤيدون هذا الموقف.

لذلك فإن إعلان أنقرة عن نيتها في تطبيع علاقاتها مع دمشق سيساعد الرئيس أردوغان على مواجهة خطاب المعارضة قبل الانتخابات، وإرسال رسالة للناخبين، وتحديدا من حلفائه من أصحاب النزعة القومية، أن حزبه مستعد لاتخاذ أي إجراء من شأنه التعامل مع هذه القضايا الملحة، بغض النظر عن النتائج.

ما مدى جدية المصالحة التركية السورية وكيف سيكون أثرها على شمال سوريا؟

قد يكون للمصالحة التركية السورية أيضا منافع أخرى لتركيا على صعيد سياستها الخارجية وتموضعها الجيوسياسي. العمليات العسكرية التركية سوريا منذ عام 2016 (بما فيها درع فرات، غصن زيتون، نبع السلام) أمنت لأنقرة نفوذا مباشرا على جزء كبير من الشمال السوري.

وحتى في منطقة إدلب فقد مكنتها من إيجاد صيغة تفاهم مع هيئة تحرير الشام تسمح لها بأن تكون صاحبة الكلمة العليا على الرغم من قدرة هيئة تحرير الشام على خالق هامش محدود للمناورة، والسعي لتحقيق أجندتها الخاصة والمتمثلة في ضمان تفوقها العسكري على فصائل الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا.

لطالما عبرت أنقرة خلال العامين الفائتين عن نيتها شن عملية عسكرية جديدة في سوريا لإكمال خطة المنطقة الآمنة وتوسيع نفوذها في الشمال السوري. غير أنها اصطدمت برفض دولي وتحديدا من الولايات المتحدة وروسيا.

يجادل سام هيلير بأن تركيا لم تحتاج للضوء الأخضر الأمريكي للتحرك العسكري في سوريا، فباستثناء عملية نبع السلام في أكتوبر عام 2019، التي بدأت مباشرة بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من بعض مناطق شمال سوريا والذي سمح لتركيا في التوغل جنوبا، كل عمليات العسكرية التركية السابقة لم تحصل على موافقة الولايات المتحدة الأمريكية.

على عكس روسيا، والتي كان لها الدور الأبرز في السماح للعمليات التركية السابقة داخل سوريا. لربما يأمل الرئيس التركي في الحصول على ضوء أخضر روسي لعملية جديدة في سوريا من خلال تلبية طلب موسكو بالتقارب مع الأسد.

فبالنسبة للكرملين توحيد صف الدول الفاعلة في الملف السوري ضد الوجود الأمريكي في البلاد، وتعميق الخلاف بين حلفاء الناتو وتحديدا أنقرة وواشنطن، التي ترفض بشكل قطعي أي محاولة لتعويم الأسد في المنطقة، يعد مكسب سياسي لروسيا المعزولة دوليا.

هل المصالحة ممكنة؟

من المعلوم أن المفاوضات الناجحة بين الدول تعتمد على عدة العوامل، أهمها استعداد الأطراف المتفاوضة لتقديم تنازلات من أجل التوصل إلى اتفاق مقبول من الجميع.

لكن شرط دمشق الصارم لبدء المصالحة مع أنقرة والمتمثل بانسحاب تركيا الفوري من الشمال السوري وعودة الجيش السوري للسيطرة عليه لا يبدو مطلبا قابل للتنفيذ بالنسبة لأنقرة (على الأقل في المدى المنظور) التي تسعى بشكل مستمر لزيادة نفوذها بسوريا، لا العكس.

الانسحاب التركي يعني بالضروري تقليص دورها وخلق مساحة آمنة لوحدات حماية الشعب لزيادة نشاطه الأمني والعسكري على القرب من حدودها الجنوبية، أضف إلى ذلك أن عشرات الآلاف من السوريين الذين سيفرون إلى تركيا في حال عودة النظام إلى السيطرة على الشمال السوري، الأمر الذي ترفضه أنقرة بشكل تام.

كذلك هي رغبة أنقرة بالحصول على ضوء أخضر لعملية جديدة في سوريا، فكيف لدمشق القبول بهذا التصور في ظل تعنتها فيما يخص الانسحاب التركي من سوريا. غياب القدرة على التنازل قد يحول دون تحقيق أي مصالحة ذات قيمة بين البلدين على الرغم من الدعم الروسي والإقليمي لها.

لدمشق أيضا حساباتها الخاصة المتعلقة بعلاقتها مع حليفتها طهران التي تبدو غير راضية من التقارب مع أنقرة، لما قد يشكله من خطر على نفوذها في سوريا والتي حصلت عليه من خلال تواجد ميليشياتها على الأرض واعتماد النظام السوري عليها لتأمين احتياجات مناطقه، إضافة إلى دورها في محادثات أستانا التي تجمعها مع روسيا وتركيا وتضمن لها مصالحها.

ما مدى جدية المصالحة التركية السورية وكيف سيكون أثرها على شمال سوريا؟

الأمر الذي يفسر تكرار تشديد الرئيس الإيراني على أهمية مسار أستانا خلال حديثه مع الرئيس الروسي الأسبوع الفائت. تبدو طهران ممتعضة من دمشق، حيث تشهد مناطق النظام السوري خلال الأشهر الماضية أزمة محروقات هي الأشد خلال الحرب السورية نتيجة قرار إيران وقف إرسال النفط إلى سوريا إذا لم تدفع الأخيرة نقدا، وهو أمر تدرك طهران استحالته بسبب إفلاس دمشق.

وفي حين أنه من الصعب الجزم بوجود علاقة بين الموقف الإيراني من التقارب السوري التركي، إلا أن دخول الإمارات، على خط المصالحة والتسريبات التي أشارت إلى أن الاجتماع المحتمل لوزراء خارجية سوريا وتركيا سيكون في أبو ظبي، قد يكون وراء شعور إيران بمحاولة إقصائها من الطاولة السورية.

سيناريوهات

في ظل كل هذه التعقيدات يمكن القول بأنه من المستبعد أن تتم مصالحة حقيقية بين البلدين في الوقت القريب، لكن بنفس الوقت علينا ألا نستهين بتأثير موسكو على الأسد، والبراغماتية الفجة التي تتميز بها أنقرة والتي من شأنها أن تقدم حلولا وسطية تمهد على الأقل للقاء الرئيسين التركي والسوري.

بالإضافة إلى سيناريو إبقاء الوضع على ما هو عليه وعدم حدوث تقدم في ملف التقارب السوري التركي، يمكن الحديث عن سيناريوهين آخرين للتقارب بين البلدين:

 

  • السيناريو الأول (درعا): يتحقق بانسحاب القوات التركية من سوريا، وحل جميع فصائل الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام بإشراف تركيا ودمجها ضمن الجيش السوري، أو ضمن لواء جديد، يشبه اللواء الثامن في درعا، والذي توكل له مهمة محاربة داعش والحفاظ على أمن المنطقة. هذا السيناريو لا يمكن ترجيحه لعدة أسباب أهمها رفض الشارع له، والذي سيترجم بموجات لجوء كبيرة نحو تركيا رفضا للعيش تحت كنف النظام. إضافة إلى حالة الفوضى الأمنية التي قد تنتج عنه بسبب رفض بعض الفصائل الجيش الوطني القبول به والتمرد عليه. الأمر الأخر هو أن تركيا قد تتمكن من إجبار بعض الفصائل التابعة لها في هكذا حل، لكن من المستبعد أن تستطيع إجبار هيئة تحرير الشام على ذلك. وما العمليات الإنغماسينة التي شنتها مجموعات تابعة لهيئة تحرير الشام ضد قوات النظام السوري خلال الفترة الماضية إلا رسالة للأتراك مفادها أن الهيئة غير راضية عن التحول التركي الجديد. تمتلك الهيئة أوراق مهمة كقدرتها على فرض الأمن في إدلب ومحاربة خلايا داعش والقاعدة ومنع السوريين الموجودين في إدلب من العبور إلى تركيا، التي لا تبدو جاهزة لواقع جديد في إدلب.

 

  • السيناريو الثاني: يتحقق من خلال إجبار تركيا هيئة تحرير الشام على تسليم طريق M4 الواصل بين اللاذقية وحلب والذي يعتبر الشريان الاقتصادي لمناطق النظام في الشمال السوري. باستطاعة تركيا أيضا فتح المعابر بين مناطق المعارضة في الشمال والنظام السوري مما يخفف من الضائقة الاقتصادية التي يمر بها. على الجهة المقابلة تتغاضى دمشق عن عملية عسكرية تركية محدودة في شمال سوريا وتحديدا في المناطق التي يريدها الأتراك والتي تقع تحت السيطرة الفعلية لقوات سوريا الديمقراطية مع نفوذ محدود لدمشق وموسكو مثل تل رفعت، منبج وحتى عين عرب. هذا السيناريو ممكن ليس فقط لأنه يسمح للطرفين بالحصول على مكاسب (ولو حتى أنها محدودة)، بل أيضا لأنه يوحد جهود الطرفين في تحقيق هدف مشترك، وهو الضغط على القوات الأمريكية للانسحاب من شمال شرق سوريا وإجبار قوات سوريا الديمقراطية على القبول بعودة النظام للسيطرة على أراضيها أو مواجهة الجيش التركي. يذكرنا هذا السيناريو بشكل كبير بالاتفاقات الروسية التركية السابقة حول سوريا والتي تمكن من خلالها الفريقين إلى الوصول إلى حلول وسطية على الرغم من اختلاف الرؤى الشديد بين البلدين. حيث أن كل العمليات التركية في سوريا كانت مسبوقة بمفاوضات صعبة ولكنها مثمرة بين أنقرة وموسكو، قدم الطرفان تنازلات جزئية من أجل التوصل إلى اتفاقات.

يمكن القول إن تغيير الموقف التركي تجاه الأسد مازال في بدايته، وكما يشير أرون لوند، الباحث المتخصص بالشأن السوري، إلى أنه وحتى في غياب أفق تطبيع حقيقي في العلاقات بين البلدين، يمكن للأطراف المنخرطة في التقارب أن يجدوا حلولا وسطى تمكنهم من تحقيق بعض بعض المكاسب المرحلية. وفي حين أن تعنت دمشق قد يساعدها على الحصول على المزيد من المكاسب من تركيا الراغبة بالتقارب معها، إلا أنها يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أن ديدن السياسة التركية هو التبدل وفق المصالح المتغيرة. ما قد تستطيع دمشق تحصليه اليوم، قد لا يكون أمامها غدا. أما بالنسبة للرئيس أردوغان، مجرد الحديث العلني عن رغبته بلقاء الأسد للتعامل مع مسألتي وحدات حماية الشعب واللاجئين السوريين، سيضعف رهان خصومه من المعارضة ويعزز علاقته بموسكو صاحبة مبادرة. أخيرا، على المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري أن تدرك حساسية الوضع الراهن الذي يضعها أمام خيارات محدودة. إما استكمال مشروعها في الحرب ضد النظام, والذي يمنحها شعبيتها المحلية، أول الوقوف مع الداعم والانصياع لتصوراته ومواجهة غضب الشارع في المناطق التي تسيطر عليها.