أحوال مجتمع الأرض

نحن نتناول اللحوم والخضار والفواكه والقهوة والشاي يومياً، نأخذ أقساطاً من الراحة على الأرائك والكراسي المصنوعة من الخشب في بيوتنا ومكاتب عملنا، ونستمتع بالمناظر الطبيعية وأصوات الطيور المغرِّدة خلال رحلاتنا والعُطل، إنما يغيب عن أذهاننا السؤال عن أحوال الأرض الأم التي توفر لنا كل ذلك. لا ندير بلاً بأحوال سكان مجتمع الأرض حيث تعرضت أعداد هائلة منه الى الإفناء واختفت عن الأنظار فيما يمكن ان تتعرض الأنواع الأخرى الى انقراض جماعي شامل. والسؤال المحرج الذي تواجه البشرية اليوم هو: هل يمكننا الاستمرار وضمان مصادر عيشنا دون الأنواع (النبات والحيوان) على الكوكب؟

لم تبق سوى أيام من قمة (كوب15) المتعلقة بالتنوع الأحيائي والتي بدأت في 7 كانون الثاني (ديسمبر) وتستمر لغاية 19 من الشهر ذاته، ويبقى السؤال عن مصير الأنواع معلقاً في المفاوضات الجارية من أجل التوصل الى ميثاق عالمي جديد يجنب هلاك الأنواع. تشير التوقعات الى ان التوقيع على اتفاقية من شأنها وضع حد للتدهور الحاصل في النظم البيئية على الكوكب، لا زال رهن الخلافات حول التمويل والأموال اللازمة. تطالب الدول النامية، منها البرازيل ودول أفريقية والهند وإندونيسيا والفلبين بمئة مليار دولار سنوياً بغية حماية النظم البيئية واستعادة ما تم فقدانه جراء النشاطات البشرية، الأمر الذي لم توافق عليه الدول المتقدمة وقد يعرقل الخلاف حول هذه النقطة التوصل الى اتفاق عالمي جديد يسمى بإتفاق ما بعد 2020 لحماية التنوع البيولوجي.

ولكن ماذا يحدث على الأرض وفي المحيطات؟ وماذا يمكن ان يتوصل اليه هذا المؤتمر العالمي الذي يعقد بمدينة مونتريال في كندا برئاسة الصين؟ بناءً على البيانات المتوفرة عالمياً، يتزايد اختفاء الحياة البرية في المحيطات وعلى اليابسة بسرعة كبيرة في العالم، والسبب الرئيسي والأكثر وضوحاً هو استيلاء البشر على جزء كبير من الكوكب وافناء ما كان موجوداً من قبل. كما جعلت أزمة المناخ والضغوطات الأخرى من بقاء الأنواع أمراً صعباً. ان الأرقام حول فقدان الغابات البكر وانقراض الأنواع جراء الاستيلاء على الأرض وهدم موائل الحيوانات البرّية، تصدم وتلوح الى أخطار بيئية قد تشلّ الى حد كبير قدرة النظم البيئية الطبيعية في توفير خدمات الغذاء والمياه اللازمة للبشرية والأنواع الأخرى.

لا يمكن ضمان مصادر الغذاء والرفاه دون حماية التنوع البيولوجي

على الرغم من بعض الجهود المبذولة لمكافحة إزالة الغابات، فإن ما يقرب من 10٪ من الغابات البكر على كوكب الأرض قد تم تجزئتها أو ازالتها ببساطة منذ عام 2000، أي ان الكوكب فقد بمعدل أكثر من 200 كيلومتر مربع كل يوم لمدة 17 عامًا. بين عامي 2014 و 2016 فقط. تم القضاء بذلك على مساحة قدرها 90 ألف كيلومتر مربع كل عام من الغابات البكر، ما يعادل مساحة بلد مثل النمسا. يذكر ان وتيرة هذا التدمير غير المسبوق بدأت بالتسارع منذ بداية هذا القرن.

يكشف مؤشر الكوكب الحي الذي يراقب الثدييات والطيور والأسماك والزواحف والبرمائيات عن انخفاض بنسبة 69٪ في مجموعات الحياة البرية التي تم رصدها منذ عام 1970. ويعود سبب ذلك الى الاستيلاء على معظم الأراضي البرّية وتحويلها الى أراض زراعية وإزالة الغابات الطبيعية من أجل رعي الماشية أو زراعة المحاصيل. يضاف الى ذلك تحويل الموائل البرية الأخرى إلى مدن وبلدات وطرق مواصلات، بخاصة في ظل النمو السكاني حيث تجاوز عدد السكان 8 مليارات هذا العام (2022) الأمر الذي يزيد من استهلاك الفرد للموارد.

الأهداف والطموحات

يوفر مؤتمر الأمم المتحدة العالمي لما بعد عام 2020 للتنوع البيولوجي، رؤية إستراتيجية وخارطة طريق عالمية للحفاظ على التنوع الأحيائي والنظم البيئية وحمايتهما والإدارة المستدامة لهما للعقد القادم، ناهيك باستعادة ما تم فقدانه في العقود الماضية.

لا يمكن ضمان مصادر الغذاء والرفاه دون حماية التنوع البيولوجي

الهدف الرئيسي للمؤتمر (الاجتماع الخامس عشر لمؤتمر الأطراف COP-15 لاتفاقية التنوع البيولوجي) هو اعتماد إطار التنوع البيولوجي العالمي لما بعد عام 2020. ويستند مشروع الإطار الأول، الذي صدر في يوليو 2021، إلى الدروس المستفادة من الخطة الاستراتيجية للتنوع البيولوجي 2011-2020 وأهداف اتفاقية أيشي للتنوع البيولوجي. ويقر المؤتمر بالحاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة على مستوى السياسات على الصعيد العالمي والإقليمي والوطني لتحويل النماذج الاقتصادية والاجتماعية والمالية، بحيث تستقر الاتجاهات التي أدت إلى تفاقم فقدان التنوع البيولوجي، بحلول عام 2030 وتسمح باستعادة النظم البيئية الطبيعية، مع تحسينات صافية بحلول عام 2050.

تدعم أكثر من 100 دولة في العالم الى وضع وثيقة عالمية مقترحاً للحفاظ على 30٪ على الأقل من اليابسة والمحيطات بحلول نهاية العقد الحالي. ويهدف المؤتمر، إضافة الى توسيع المناطق المحمية الموجودة، الى استعادة ما لا يقل عن مليار هكتار (2.47 مليار فدان) من النظم البيئية الأرضية والبحرية والساحلية المتدهورة، أي بحجم مساحة دولة مثل الصين تقريباً. ويمكن ان توفر إعادة بناء واستعادة منطقة بهذا الحجم واحياءها فوائد كبيرة للتنوع البيولوجي والمناخ بحسب موقع اتفاقية التنوع البيولوجي.

تحتل المبيدات الحشرية وكثافة استخدامها في الممارسات الزراعية حيز واسع من مناقشات المؤتمر، ذلك ان الاستخدام المكثف لها بحسب العلماء يقضي على الحشرات والأحياء الدقيقة التي تعتبر ضرورية للتربة ولنظم البيئية الصحية في كل مكان. ويطمح Cop15 الى تقليل استخدام مبيدات الآفات بنسبة الثلثين على الأقل بحلول نهاية العقد الحالي، فيما يتوقع ان يخفض الاتحاد الأوروبي المبيدات بنسبة 50٪ في ذات الفترة. ولكن من المرجح أن تواجه هذه النقطة معارضة كبيرة من المنتجين الزراعيين.

تساهم الإعانات الحكومية بشكل كبير في التدهور البيئي الحاصل في العالم ويصل حجم الانفاق العالمي الذي يؤدي إلى إبادة الحياة البرية وزيادة الاحتباس الحراري الى حوالي ترليوني دولار سنوياً. وتنفق الحكومات مبالغ ضخمة على سياسات تلحق الأضرار بالنظم البيئية، مثل الإعفاءات الضريبية في منطقة الأمازون من أجل صناعة الحوم البقرية انما على حساب الأنظمة الأيكولوجية، أو الدعم المالي لاستخراج المياه الجوفية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا ننسى بطبيعة الحال بأن هناك أسباب وجيهة للقيام بذلك في بعض الأحيان لمواجهة الفقر.

إضافة الى أزمة التلوث التي يشكلها استخدام البلاستيك على النظم البيئية والأضرار التي تلحقها الأنواع الغازية (الطفيليات) بالنظم ذاتها، احتل انقراض مساحة يمكن وصفها بغير مؤثرة داخل المؤتمر. وبهذا الصدد تم اقتراح بنود الخاصة بحماية المليون نوع اذ تشير التقديرات إلى أنها تواجه خطر الانقراض جراء النشاط والسلوك البشريين، انما لا ترغب بعض الدول ذكر هذه الأزمة البيئية على الإطلاق.

وتتضمن المسودة الأخيرة مقترحات أخرى مثل الصيد المستدام والذي يحظى بدعم كبير من دول الجنوب الأفريقي، وكذلك الحد من الصراع بين الإنسان والحياة البرية، الذي أصبح الآن التهديد الرئيسي للأنواع مثل فيل السافانا الأفريقي.

واقع التنوع الأحيائي عربياً

تحتاج المنطقة العربية أكثر من غيرها الى حفظ النظم البيئية “المتبقية” واستعادة ما تم فقدانه ليس بسبب أزمة المناخ فقط، بل بسبب الحروب والصراعات والإدارة الفقيرة غير الفعالة للموارد الطبيعية. ويحدث التدهور البيئي في مناطق تعد غنية ومهمة من ناحية التنوع الأحيائي مثل المغرب، اليمن والعراق. في المغرب الذي يعد  أغنى بلد جنوبي البحر الأبيض المتوسط بعد تركيا، ما يقارب 1700 نوع من النباتات النادرة مهددة بالانقراض ناهيك بـ 40 نوعاً من بين الحيوانات الثدية.

لا يمكن ضمان مصادر الغذاء والرفاه دون حماية التنوع البيولوجي

أما العراق الذي يعد ممراً طبيعياً للكثير من الأنواع بسبب موقعه الجغرافي المهم، فيتعرض بدوره الى تدهور غير مسبوق من ناحية التنوع البيولوجي. وتشير البيانات الى ان الانقراض يهدد أكثر ما يقارب 100 نوع من النباتات وليست هناك أرقام دقيقة حول الأنواع الأخرى المعرضة للانقراض، انما التدهور البيئي الحاصل يعطينا صورة قاتمة حيال الحيوانات. فالأهوار الواقعة جنوبي العراق تعد موطناً طبيعياً لأكثر من 40 نوعاً من الطيور والعديد من الأسماك، علاوة على آلاف الأنواع من الطيور المهاجرة، انما تعرضت هذه المنطقة الغنية في السنوات الأخيرة الى جفاف كبير ما أدى تدهور مخيف في هذا الموئل الرطب الطبيعي، ناهيك بفقدان مصادر الرزق للسكان المحليين.

ولا يختلف حال اليمن المصنف ضمن النقطة الساخنة في القرن الأفريقي والأغنى في الجزيرة العربية بتنوعها الأحيائي الفريد، عن حال المغرب والعراق والبلدان العربية الأخرى من ناحية فقدن الأنواع.

تعود أسباب فقدان التنوع البيولوجي في البلدان العربية الى الجفاف والتصحر، الإدارة غير المستدامة للموارد الطبيعية المتجددة، التوسع العمراني على حساب الأنظمة الأيكولوجية، الرعي والصيد الجائرين، عدم الالتزام بالمعايير البيئية التي تنص عليها الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة بالتنوع البيولوجي. ويمكن إضافة آثار الحروب والصراعات الداخلية في الحالة اليمينية والعراقية، ناهيك بسياسات مائية غير عادلة تمارسها كل من تركيا وإيران بحق العراق الأمر الذي نتج عنه خراب بيئي في الأهوار الطبيعية التي تعد رئات العراق تاريخياً.