أخبار الآن | أورفا – تركيا – (عزام الحاج)

يشتكي السوريون من جهل العالم بتاريخهم القريب، ويرى كثيرون منهم أن نظام الأسد الأب، ثم الابن، نجح في تصدير نسخة وحيدة عن تاريخ سورية المعاصر، نسخة تبدو سورية فيها بلداً ساكناً وخالياً من الصراعات السياسية ومن التبدلات الاجتماعية؛ بلداً آمناً ومستقراً؛ شعبه قانع وموال لنظامه ومحب لقائده؛ نسخة "سورية الأسد" المعممة الشهيرة.

وبالفعل لا يكاد المتتبع للتاريخ السياسي والاجتماعي لسورية المعاصرة يجد شيئاً ذا قيمة معرفية في ما كتب في هذا الميدان، فما يعثر عليه بكثرة هو مجلدات تتغنى بالبعث والجيش وقائدئهما الملهم والمفدى، فلا شعب ولا حركة اجتماعية ولا معارضة ولا تنوع سياسي ولا تغيرات في بنية المجتمع و لاتداول للسلطة، ولا حاجة لذلك ما دام الجميع في وطن حر، شعبه سعيد.

مقاومة استبداد الأب

لكن وراء هذا السكون وخلف هذه اللوحة الرعوية يبدو واقع سورية والسوريين مختلفاً كليةً. إذ لم تتوقف مقاومة السوريين لاستبداد البعث والأسدين منذ انقلاب العام 1963 سلماً وقتالاً.

لكن يصعب العثور على هذه النسخة من تاريخ سورية مكتوبة إلا في ما ندر، فيما هي متاحة بوفرة في عقول وقلوب عشرات الآلاف من السوريين ممن شهدوا وعايشوا صورة أخرى لـ"سورية الأسد"؛ تلك المنطقة المعتمة والمحاربة، المطموسة والمخفية من تاريخ السوريين القريب؛ بالفعل هي تاريخ السوريين الشفوي ولن تصبح تاريخ سورية ما لم تُعد كتابة تاريخ هذا البلد المعذب.

هذه النسخة المخفية المُتنكر لها محفوظة في ذاكرة المعتقلين السياسيين السوريين؛ معتقلين حلموا وأملوا وعملوا وقاوموا وحفظوا لشعبهم وبلدهم روح الاستمرار وكرامة الوقوف في وجه الاستبداد؛ هم خزنة وخزائن تاريخ سورية وحفظة آلامها لنحو نصف قرن من الزمن.

سرد تاريخ الاعتقال السياسي

"معبد مصطفى الحسون" هو واحد من هؤلاء الخزنة، حفظة سرد لا ينتهي من قصص الظل، تاريخ سورية المقموع. حوَّل "الحسون" صفحته على موقع الفيسبوك إلى مصدر لهذا التاريخ كما إلى مورد يومي للتحليل والرأي السياسيين، إضافة إلى نصوص لا تقبل التصنيف، لكنها تحمل نكهة كتابات كبار المتصوفة من أمثال النفري والحلاج.

"الحسون" يعيش اليوم مع أسرته في مدينة أورفا التركية، المدينة التركية الأقرب إلى الرقة، مسقط رأسه، يقتل الوقت بالقراءة والكتابة.

يقول الحسون لموقع تلفزيون الآن: "اُعتقلتْ عندما كنتُ في الثالثة والعشرين من عمري، وقضيتُ إثنا عشر عاماً في سجون الأسد الأب"، بين المزة وصيدنايا وتدمر؛ المعتقلات الأكثر إثارة للرهبة في نفوس عموم السوريين. ويستذكر: "هناك معلومات لم يُكشف عنها في أحداث العام1978، تفاصيل مهمة بدأت من علاقتي بالحزب الشيوعي(المكتب السياسي).

فهناك تنظيم سري عملت على تأسيسه داخل الحزب وبعد عمل متواصل ليل نهار لمدة تقرب من خمس سنوات مع الحزب [المكتب السياسي]، ثم قررت الانفصال عنه وتركه والعمل بصورة مستقلة".

ويستطرد: "أسستُ تنظيماً سرياً للعمل ضد كل مؤسسات النظام ورموزه في الرقة، المحافظ وأعضاء قيادة فرع حزب البعث والكثير من الشخصيات الأمنية والمقربة من النظام". إلا أن العمل لم يكتمل، فاعتقل النظام أعضاء المجموعة، "بعضهم اُعدم في المزة أو في مجزرة تدمر وبعضهم قضوا أكثر من عشر سنوات في السجن".

يعتبر الحسون أن سره وسر رفاقه هذا بقي طي الكتمان حتى هذه اللحظة "لم يتطرق إليه أحد الا فيما بيننا حين نلتقي…المشكلة أن معظمهم [الرفاق] ما يزال يعيش إما في مناطق واقعة تحت سيطرة النظام أو تحت سيطرة داعش … لذلك أمتنع عن ذكر اسمائهم". لقد كنَّا 15 شاباً … الأحياء منَّا أصبحوا في سن الستين عاماً اليوم".

الثورة السورية

وبالانتقال إلى الثورة السورية القائمة منذ ربيع العام 2011، ويسميها "الحسون" "الثورة الثانية"، يقول: "لا أُخفيك أيضاً أن كل ما عرف وكل ماكتب عن الرقة ابتداءاً من بدايات الثورة لم يُسجل ولم يُوثق، بل بصورة عامة مايزال مطوياً". لكنه يعاهد نفسه أن يعمل على توثيقه كما يجب وكما يستحق، رغم شجاعة المصارحة عندما يقول: "بصراحة أنا اليوم يائس جداً… يائس أكثر حتى من فترة السجن… كل شيء خططتُ له في السبعينات وصولاً إلى الثمانينات انهار… وكل ما حلمتُ به وخططت له في العام 2011 انهار أيضاً".

ويختم الحسون: "أنا اليوم مطلوب للنظام ولداعش… وإمكانيات الاستمرار والعيش في تركيا لي ولعائلتي باتت صفراً… أفكرُ في الهجرة والإستراحة والتقاعد، إذ لم أعد أجدُ أي شيء أفعله او أقدمه… لا أفكر سوى في التفرغ للقراءة والكتابة مرة ثانية بقية العمر".

يأس وهجرة وتقاعد، ربما تكون كل ما يحتاجه "الحسون" ليصب ما في ذاكرته تاريخاً كان مغيباً، تاريخ يحتاجه شباب سورية اليوم ليقرأوا فيه مستقبل بلدهم.