إيران تُزود روسيا بمسيرات لاستخدامها في غزو أوكرانيا

  • طهران تعتمد على أسطول طيران متهالك يعود جانب منه إلى حقبة زمنية ماضية
  • إيران أكدت لأوكرانيا أنها لن تقدم أي طائرات إلى روسيا

تعد الطائرات المسيرة ظاهرة حديثة نسبياً غيرت أشكال المواجهات العسكرية في أنحاء العالم، فهذا السلاح الصغير بات يهدد الجيوش النظامية ويتخطى الحدود غير عابئ بدفاعات الأعداء، وقد حققت إيران شهرة كبيرة في هذا المجال بسبب القصور التسليحي الكبير الذي تعاني منه قواتها بسبب العقوبات الدولية، فلجأت إلى تطوير أسلحة رخيصة بأيدي محلية بالاعتماد على سرقة التكنولوجيا الغربية ومحاكاتها لتعويض هذا القصور الفادح.

فمع معاناة قطاع الطيران الحربي الإيراني من تأخر كبير بسبب نقص قطع الغيار والاعتماد على أسطول طيران متهالك يعود جانب منه إلى حقبة زمنية ماضية، طور الإيرانيون طائرات غير مأهولة لتنفيذ مهام هجومية محددة، وذاعت شهرة هذا السلاح مع استخدامه بكثرة من جانب الميليشيات الشيعية كجماعة الحوثي في اليمن، والدول الحليفة لطهران خاصة روسيا التي باتت تعتمد عليه بشدة وتستورد منه كميات كبيرة، وفق تقارير الرصد الغربية.

التورط في أوكرانيا

خلال الغزو الروسي لأوكرانيا تكررت الاتهامات الغربية لطهران بالتورط في الحرب وأنها شريكة لموسكو في الغزو بسبب دعمها بالطيران المسير.

ونفى الروس هذه الاتهامات، وأكدت طهران هذا النفي على لسان المتحدث باسم خارجيتها، ناصر كنعاني، وممثلها الدائم بالأمم المتحدة، أمير سعيد ايرواني، ووزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان، لكن الأخير عاد ليعترف صراحةً لأول مرة في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بالتورط في تزويد روسيا بالمُسيرات، لكنه ادعى أن ذلك لا علاقة له بحرب أوكرانيا بل تم قبل اندلاعها بأشهر وأن بلاده لم ترسل سوى عدد قليل فقط من هذه المسيرات.

 

إلا أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، رد عليه قائلاً إن إيران تكذب حتى، لأن القوات الأوكرانية تُسقط في اليوم الواحد عشر مسيرات إيرانية على الأقل، متهماً طهران بدعم الإرهاب الروسي ضد بلاده، وذلك في رسالة عبر تطبيق تيليغرام.

وكذلك أصدر المبعوث الأمريكي الخاص بإيران، روبرت مالي، تكذيبًا للاعتراف المنقوص لعبد اللهيان، مبيناً في منشور على حسابه الرسمي على تويتر أن هناك عسكريين إيرانيين في مناطق أوكرانية تحتلها موسكو، وظيفتهم مساعدة الروس على استخدام المسيرات، مشدداً على أن الدليل على استخدامها ضد المدنيين الأوكرانيين “واضح كوضوح الشمس”.

ومع تردد أنباء عن مقتل 10 إيرانيين في تلك الحرب، كشف المتحدث باسم القوات الجوية الأوكرانية، يوري إحنات، عن إسقاط 85 في المائة من المسيرات الإيرانية التي يستخدمها الجيش الروسي، مبيناً أن قواته تمرست على اكتشاف هذه الطائرات وإسقاطها بشكل أكثر فعالية، وأسقطت أكثر من 300 واحدة منها.

وكانت الولايات المتحدة قالت في يوليو/ تموز الماضي إن طهران تستعد لتزويد موسكو بمئات المسيرات، لكن هذا الإعلان المبكر لم يردع الإيرانيين عن مواصلة عملهم، كما كشف وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، في مقابلة له مع موقع “أكسيوس” الأمريكي، عن أن بلاده حينما وجدت شواهد على عزم طهران تزويد موسكو بالمسيرات، تواصلت معها منذ عدة أشهر، وتلقت منها تأكيدات خطية وشفهية بأنها لن تفعل ذلك أبداً، لكن الأوكرانيين وجدوا بعد ذلك المئات من تلك المسيرات.

الطائر المأجور.. هدية إيران القاتلة لحلفائها

وقد أعلنت واشنطن أن هناك قوات إيرانية في شبه جزيرة القرم المحتلة -أقصى جنوب أوكرانيا-، موجودة بغرض تشغيل المسيرات، وهو ما يتطابق مع ما سبق وأعلنه المتحدث باسم القوات الجوية الأوكرانية، أن كل المسيرات دخلت إلى أجواء بلاده من الجنوب، لافتاً إلى احتمال مشاركة القوات الإيرانية في العمليات القتالية.

وفي مقابل هذا الدعم العسكري تم رصد دفع موسكو 140 مليون يورو لطهران في إحدى الشحنات، كما اتفق الطرفان مؤخراً على صفقة بقيمة 200 مليون يورو حسبما تسرب للإعلام الدولي.

والأخطر أن ثمن المُسيَّرات لم يقتصر على المال فقط، بل تضمّن أسلحة غربية كانت ضمن شحنة معدّات عسكرية مخصصة للجيش الأوكراني وسقطت في أيدي الروس؛ فقد نقلت طائرة عسكرية روسية، إلى جانب المبلغ المالي، نماذج من صاروخين أمريكي وبريطاني مضادين للدبابات، وصاروخ ستينجر مضاد للطائرات، إلى مطار في طهران في الساعات الأولى في 20 أغسطس/آب.

ومن المعروف أن وصول تلك الأسلحة إلى أيدي الحرس الثوري الإيراني يمنحه فرصة الاطلاع على التكنولوجيا الغربية ومعرفة أسرارها باستخدام الهندسة العكسية، كما أن هناك تقارير تحدثت عن طلب طهران مواد نووية حساسة من موسكو أيضاً.

العقوبات

رغم تأخر الاعتراف الإيراني لأشهر فإن الغرب اتخذ إجراءات ضد طهران على خلفية صفقات المُسيرات؛ فطردت كييف السفير الإيراني في سبتمبر/ أيلول الماضي، وفي نفس الشهر فرضت واشنطن عقوبات على جهات إيرانية ضالعة في تلك الصفقات، وفي أكتوبر/ تشرين الأول، تبعتها الحكومة البريطانية، والاتحاد الأوروبي، ففرضوا عقوبات مماثلة، وعقد مجلس الأمن الدولي جلسة مغلقة لمناقشة الأمر.

وبعد ثبوت عدم جدوى العقوبات الرمزية السابقة في ردع طهران عن المضي قدماً في إرسال المسيرات لروسيا، توعدت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون باتخاذ إجراءات أشد قسوة لردعها، فالأمر لم يعد مقتصراً على تهديد أمن منطقة بعينها بل باتت طهران حاضرة في مسألة دولية شديدة الحساسية مرتبطة بميزان القوة الدولي وصراع القوى الكبرى.

وغني عن البيان أن مشاركة طهران في تدمير دولة أوروبية حليفة لفرنسا وبريطانيا وألمانيا، الدول الثلاث الشركاء في الاتفاق النووي الإيراني، قد يكون له تأثير سلبي على مفاوضات فيينا الخاصة بإحياء الاتفاق، بعد أن كانت الدول الثلاث تتخذ مواقف مهادنة نوعاً ما لطهران وتتوسط بينها وبين واشنطن.

القاتل الرخيص

اعتبر الساسة الغربيون أن لجوء الروس للمسيرات الإيرانية علامة على حرج وضعهم في أوكرانيا ونجاح الخطة الغربية لاستنزافهم، خاصةً بعد أن تراجع الموقف الميداني للجيش الروسي في خاركيف وخيرسون في شرق وجنوب أوكرانيا خلال الشهرين الماضيين، وبات جلياً عجز موسكو عن حسم الحرب التي باتت تستنزف ميزانيتها وأسلحتها بشكل هائل.

ومع زيادة خسائرها لجأت موسكو إلى الدول التي تخضع مثلها لعقوبات دولية مثل إيران من أجل تأمين حاجتها التسليحية، ووفر الإيرانيون ما تحتاجه موسكو بالضبط؛ فالمسيرات سلاح رخيص جداً إذا تمت مقارنته بالصواريخ مثلاً، فالطائرة المسيرة الواحدة تكلف نحو 20 ألف دولار، بينما تقدر تكلفة الصواريخ بملايين الدولارات.

ومع عجز موسكو عن صد الهجمات العسكرية الأوكرانية لجأت إلى استهداف البنية التحتية في المدن الأوكرانية مثل محطات الكهرباء والمياه وبالتالي أصبح أمامها بنك أهداف كبير من الصعب استهدافه بالصواريخ فقط، فأحياناً تكون كُلفة الهدف أقل كثيرا من كُلفة الصاروخ أي أن الروس سيكونون هم الطرف الأكثر خسارة في حالة نجاحهم في إصابة الهدف.

أما المسيرات الإيرانية فرغم عيوبها الواضحة مثل بطئها وسهولة إسقاطها إلا أن رخص ثمنها يجعلها ذات ميزة كبيرة؛ فلو تم إطلاق عدد كبير من تلك المُسَيّرات معاً يمكنها الوصول إلى أهدافها بسهولة وذلك لصعوبة استهداف كل المُسَيّرات في وقت واحد، لذا فإنها تُهاجم في أسراب، كما أن كلفة الاستهداف الصاروخي لطائرة واحدة فقط قد تكون أكبر من ثمن السرب كاملاً، وقد تكون أيضاً أكبر من قيمة الهدف ذاته، لاسيما وأن الروس عادة ما يستهدفون بها مواقع ليست بالغة الأهمية.

الطائر المأجور.. هدية إيران القاتلة لحلفائها

وفي هذا الصدد برز اسم المسيرة الإيرانية الانتحارية “شهيد 136″، يمكنها الطيران لمسافة 2000 كيلو متر حاملة 50 كيلوجراماً من المتفجرات، وتصطدم بالنقطة المقصودة لتنفجر فيها، وتُعد الأكثر شيوعاً في الحرب الحالية، وهناك مسيرة أخرى أقل ذكرًا هي “مهاجر 6″، تستخدم في مهام الاستطلاع والتصوير الجوي والهجوم، تستطيع التحليق لمدة 12 ساعة على ارتفاع كبير، وهي مجهزة بكاميرات وقنابل ذكية.

وتحولت أوكرانيا إلى ساحة للاختبار المكثف للأداء القتالي لتلك الطائرات مما أظهر نقاط ضعفها في أرض المعركة.

مُسَيّرات الحوثي

تعد “شهيد 136” من أهم المُسيرات الانتحارية الإيرانية، وتركز ميليشيا الحوثي التابعة لطهران على استخدامها في اليمن، ويقود الضباط الإيرانيون عناصر الميليشيا ويدربونهم على استخدام الطائرات المسيرة في حربهم ضد الحكومة الشرعية.

ويجري تجميع المسيرات في مناطق الحوثي على أيدي الخبراء بعد تهريب مكوناتها عبر الحدود وتجميعها عبر شبكات معقدة وفقًا لتقرير من 300 صفحة قدمه خبراء الأمم المتحدة لمجلس الأمن في يناير/ كانون الثاني 2022.

فمثلاً تم العثور عام 2020 على حطام طائرة انتحارية أطلقتها ميليشيا الحوثي تضم محركاً أنتجته شركة ألمانية وباعته لشركة صينية قبل ذلك بعامين، مما يكشف عن مدى تعقيد شبكات التهريب الدولية المخصصة لدعم إنتاج هذه الطائرات، كما تم فتح تحقيقات مؤخراً بعد اكتشاف أن معظم المسيرات التي تم إسقاطها في أوكرانيا، أتت معظم مكوناتها من أكثر من 70 مصنعًا في 13 دولة ومنطقة مختلفة، منها شركات مقرها في الولايات المتحدة، فشكلت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، فريق عمل مشترك بين وزارات الدفاع والخارجية والعدل والتجارة والخزانة للتحقيق في وصول المكوّنات والتقنيات الأمريكية والغربية إلى طائرات إيران المسيرة.

وتتخذ طهران من الحوثي ذراعاً طولى لتهديد أمن منطقة الخليج للتهرب من المسؤولية المباشرة للهجمات بهذه المسيرات، وتعد أبرز الحوادث في هذا الصدد هجوم 14 سبتمبر/أيلول 2019، الذي استُخدمت فيه 18 مسيرة و8 صواريخ واستهدف منشأتي بقيق وخريص التابعتين لشركة “أرامكو” السعودية وأدى لوقف نصف الإنتاج النفطي للمملكة، وأعلن الحوثيون مسؤوليتهم عنه، وهو إعلان لم تثبت مصداقيته لأن التحقيقات أثبتت أن المُسيرات جاءت من مكان آخر.

الطائر المأجور.. هدية إيران القاتلة لحلفائها

وتعتمد الميليشيات الحوثية على المسيرات في شن هجمات نوعية في الحرب الأهلية الدائرة في اليمن حالياً، فمن المعروف أن الحوثيين يملكون إحدى أخطر ترسانات الطائرات المسيرة مقارنة بالميليشيات الشيعية الأخرى التابعة لطهران في المنطقة، استخدموها خلال السنوات الماضية لضرب أهداف مدنية وعسكرية على السواء.

ومؤخراً ابتز الحوثيون الحكومة اليمنية من أجل تمديد الهدنة الإنسانية، فاشترطوا في اللحظات الأخيرة أن تدفع الحكومة رواتب مقاتلي الميليشيا، مما أدى لانهيار مفاوضات تمديد الهدنة التي بدأ العمل بها مطلع أبريل/نيسان الماضي، وعلى إثر ذلك توعد الحوثي بالانتقام، وبالفعل شن عدواناً بالطائرات المسيرة لمنع الحكومة من تصدير النفط، فاستهدف ميناء النشيمة بمحافظة شبوة في 18 و19 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وشن هجوماً بطائرتين مسيرتين على ميناء الضبة النفطي في مدينة المكلا بمحافظة حضرموت جنوب البلاد في 21 أكتوبر/ تشرين الأول، مما جعل سفينة ترفع علم جزر المارشال تترك الميناء بعد أن وقع انفجاران في المياه أمام رصيف الميناء الذي يحوي خزاناً نفطياً سعته مليون برميل.

وبعد الهجوم توقف ضخ النفط من حقول المسيلة لميناء الضبة، مما من شأنه أن يحرم الحكومة الشرعية من عائدات كبيرة ويفاقم الأزمة الإنسانية في مناطقها بعد أن سجلت صادراتها النفطية ارتفاعا ملحوظا العام الماضي، واستنكر أعضاء مجلس الأمن بشدة “الهجمات الإرهابية بالطائرات المسيرة” على الميناء النفطي معتبرين ذلك “تهديدا خطيرا لعملية السلام واستقرار اليمن والأمن البحري.”

ومع فشل تمديد الهدنة الإنسانية في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإنه من المحتمل تزايد هجمات الطائرات المسيرة على أهداف اقتصادية مما يزيد من معاناة المدنيين الأبرياء.

الطائر المأجور

مع انخراط طهران في أكثر من جبهة فإنها لجأت إلى استخدام مسيراتها على تلك الجبهات وهي مهمة ذات حدين؛ فبينما يتيح ذلك لها مزيد من الخبرة بهذا السلاح ومعرفة عيوبه ومزاياه، فإنها تتيح أيضاً للعدو نفس الميزة فيتعرف بدقة على ما وصلت إليه إمكانيات طهران في هذا المجال؛ فحزب الله اللبناني استخدمها في مناسبات عديدة في الأجواء الفلسطينية، وفي الساحة السورية تم استخدام تلك المُسَيّرات في المعارك ضد فصائل المعارضة وفي هضبة الجولان السورية المحتلة، وسبق أن وقعت في أيدي إسرائيل التي قصفت قواعدها مراراً داخل الأراضي السورية، ولذلك حاول الجيش الأوكراني الاستفادة من الخبرة الإسرائيلية في التصدي للمسيرات الإيرانية، ولكن تل أبيب تلقت تهديدات روسية بوقف تعاونها معها في سوريا، مما جعلها تخشى تقديم هذه المساعدة لكييف، فرفضت إعطاء أنظمة دفاع جوي للجيش الأوكراني لصد المسيرات.

وفي العراق تستخدم ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لطهران تلك الطائرات خاصةً “كتائب حزب الله” المتهمة باستهداف القواعد الأمريكية في العراق، ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، بثلاث مُسيرات عام 2021.

الطائر المأجور.. هدية إيران القاتلة لحلفائها

وقد أصبحت إيران مورداً للمسيرات لعدد من الدول والميليشيات؛ فخلال الحرب الدائرة بين الجيش الإثيوبي وجبهة تحرير تيغراي، رصدت تقارير استعانة أديس أبابا بالمسيرة “مهاجر -6” في المعارك، وفي فنزويلا ظهرت نسخة من مسيرات “مهاجر -2″، لكن تحت اسم “أنطونيو خوسيه سوكري”.

ويبدو أن تلك المُسَيّرات بات ظهورها متوقعاً في أي مكان في العالم يصل إليه نفوذ إيران وحلفائها، وهو تهديد خطير للأمن والسلم الدوليين بات يحتم على جميع الدول مراجعة تطوير منظوماتها الدفاعية لمواكبة هذا التحدي المستجد خاصةً مع انتشاره في بلدان تموج بالاضطرابات والفوضى ووقوعه في أيدي المنظمات الإرهابية المسلحة العابرة للحدود.