تعيش ماراوي اليوم الاثنين 23 مايو الذكرى الخامسة للحصار الدموي الأليم الذي خلف جروحا كبيرة على يد جماعات متشددة ارتبطت بتنظيم داعش المتشدد. المدينة الفلبينية المطلة على بحيرة تحاول اليوم أن تستنهض بنفسها رغم محاولات التنظيم المتشدد إعادة بسط نفوذه في شرق آسيا باستهداف القوات الحكومية، واستغلال الظروف الراهنة كالانتخابات لرمي شباكها في البلاد. غير أن الوضع قد لا يسير وفق ما يريده المتشددون. لكن كيف؟

القائد برافو.. من الإرهاب للبرلمان

من بين العديد من قادة الفصائل الإسلامية المسلحة الفلبينية برز اسم “عبدالله مكابار Abdullah Macapaar” المعروف بـ “القائد برافو Commander Bravo” كقيادي عنيد تركزت حوله أضواء الإعلام لفترة طويلة واقترن ذكره لعقود بالهجمات الخاطفة على طريقة حرب العصابات، في منطقة الجنوب التي لطالما كانت مسرحًا لمعارك طاحنة بين الجيش والفصائل المتحالفة معه من جهة، وبين الجماعات الانفصالية من جهة أخرى.

وحتى اليوم تعد أخبار برافو، وهو في العقد السابع من عمره، مادة ثرية للمتابعين رغم التحول الكبير الذي طرأ على مسيرته وانتقاله من مخابئ الغابات إلى تخت السلطة الإقليمية، بعد أن أصبح عضوًا برلمانيًا محليًا وقياديًا مدنيًا يكافح الإرهاب وحركات العنف.

النشأة والبداية

وقد حفرت ظروف النشأة القاسية آثارًا عميقة في نفس الرجل لم يتخلص منها على مدار سنوات عمره الطويلة، فقد نشأ في قرية صغيرة في جنوب الفلبين، وكان الأصغر من بين ستة أشقاء في أسرة تنتمي لعرقية ماراناو المسلمة التي تتركز في منطقة لاناو بجزيرة مينداناو، وهي جزء من القوميات التي تشكل شعب مورو المسلم.

وفي مقاطعة لاناو الشمالية حيث تهيمن عليها الأكثرية الكاثوليكية، وقع الحدث الأبرز في حياة برافو حين كان في سن 11 عامًا تقريبًا أي في عام 1971، عندما شنت ميليشيا “إيلاجا Ilaga” المؤيدة للجيش هجومًا على المنطقة، ففرت الأسرة إلى الغابات الاستوائية القريبة للنجاة بحياتها، ويحكي بنفسه عن تلك الواقعة فيقول:

جرينا مع والدينا إلى الغابة للاختباء، لكن حتى هناك، قصفنا الجنود.. مات العديد من أقاربي، وحُرقت بيوتنا ودُمرت ممتلكاتنا

عبدالله مكابار

ترك الصف الرابع الابتدائي ولم يعد ثانيةً إلى المدرسة، وبدلا من ذلك انضم مع شقيق له إلى الجبهة الوطنية لتحرير مورو (تشكلت في العام التالي، وأصبحت عضوًا مراقبًا في منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1977)، وخلال التدريبات القتالية كان مطلوبًا من المقاتلين استعمال أسماء مستعارة، فاختار عبد الله جولديانو ماكابار بن صابار، تسمية “القائد برافو” استوحاها من الدراما الإذاعية التي كان مغرمًا بها في طفولته، على اعتبار أن هذه الكلمة تعني “الانتصار”، وحينها تطوع الكثير من شباب مورو للقتال ضد ميليشيا إيلاجا والجيش الفلبيني وبدأ المنضمون الجدد بتجميع تجهيزات قتالية بدائية كالأسلحة البيضاء مثل الخنجر التقليدي المموج “كريس” الذي يظهر في شعار الجبهة.

في ذكرى حصار ماراوي.. من هو "القائد برافو" الجهادي السابق الذي يساعد الفلبين في محاربة داعش؟

صورة أرشيفية لأعضاء ميليشيا إيلاجا، وهي جماعة مسيحية متشددة اشتهرت بهجماتها الوحشية في مينداناو

استمر القتال بشكل مروع وسقطت أعداد كبيرة من القتلى من الجانبين إلى أن وقعت الحكومة اتفاقية طرابلس عام 1976، مع نور ميسواري Nur Misuari، زعيم الجبهة الوطنية لتحرير مورو، ونصت المعاهدة على منح شعب مورو حكمًا ذاتيًّا في مينداناو وجزر الجنوب، لكنه ظل حبرًا على ورق، فانشق الكثيرون عن الجبهة الوطنية وأسسوا “جبهة تحرير مورو الإسلامية Moro Islamic Liberation Front” عام 1977، واشتعلت المواجهات المسلحة من جديد، وانشق الأخوان ماكابار وانضموا للجبهة الجديدة.

واللافت أن شخصية الأخ الأكبر كانت تبدو أكثر حضورا حتى أنه لقب بـ”جيمس بوند” تشبيها له ببطل سلسلة الأفلام البوليسية الشهيرة، لكن موته المفاجئ أفسح المجال أمام شقيقه عبد الله ليظهر قدراته القيادية ولقبه من حوله بـ”جيمس بوند الثاني” على اعتبار أنه وارث مكانة أخيه الراحل.

ومع ذلك فقد سافر إلى المملكة العربية السعودية لكسب العيش وعمل كسائق لبعض الوقت في فترة ذروة الزخم الجهادي المرتبط بالغزو السوفيتي لأفغانستان، فذهب مع أفواج الشباب العربي إلى أرض الأفغان في بدايات العشرينات من عمره، وهناك التقى العناصر الذين أسسوا لاحقًا “تنظيم القاعدة”.

نور ميسواري Nur Misuari، مؤسس الجبهة الوطنية لتحرير مورو

نور ميسواري Nur Misuari، مؤسس الجبهة الوطنية لتحرير مورو

وفي لقاء تليفزيوني قديم يقول: “تعلمت الكثير من أساليب حرب العصابات من أسامة بن لادن الذي دربني في أفغانستان عام 1981″، وبعد عامين عاد إلى موطنه في مينداناو، وبدأ في تدريب الشباب في مقاطعة لاناو الشمالية على التكتيكات الحربية التي استُخدمت ضد الروس في أفغانستان، وطور العقيدة القتالية لعناصر جبهة مورو، وذاع صيته كأمير حرب مفوه يمتلك خبرة قتالية واسعة في حرب العصابات ضد الجيوش النظامية، وخطابًا حماسيًا مؤثرًا، واشتهر بارتدائه الزي العسكري المموه وحمله المستمر للقنابل والبندقية، وقاد قطاع شمال غرب مينداناو ضمن الجبهة الإسلامية، الذي يضم مقاطعتي لاناو الشمالية والجنوبية.

وظل الحرب سجالا بين الطرفين فيما كان يتحصن برافو ورجاله في الجبال وبين الغابات الكثيفة، وفي عام 1996 تم التوصل إلى اتفاق جديد بوساطة إندونيسية ينص على وقف القتال وإنشاء هيئة انتقالية لكنه لم يجد سبيلًا للتنفيذ أيضًا، واستمرت المواجهات التي أسفرت عن تهجير مئات الآلاف من السكان المحليين وأوقعت الكثير من الضحايا المدنيين.

وفي عام 2000 عندما استولى برافو على بلدة كوسواغان، تعرضت معسكرات جبهة مورو الإسلامية للقصف الجوي والأرضي ضمن حملة عسكرية شاملة شنها الرئيس السابق جوزيف استرادا (1998– 2001) لكبح التمرد لم تحقق هدفها رغم ما أوقعته من خسائر فادحة في صفوف الجبهة، وفي العام التالي تولت نائبته “جلوريا أرويو Gloria Macapagal Arroyo” الحكم (2001-2010)  وأطلقت مبادرة للسلام لم تكلل بالنجاح إلا عام 2008 بتوقيع اتفاق يتضمن تفعيل وتوسيع نطاق منطقة الحكم الذاتي الإسلامي في جزيرة مينداناو، إلا أن كبار السياسيين الكاثوليك أبدوا معارضة شديدة للحكومة وطعنوا في دستورية المعاهدة في المحكمة العليا التي أجهضت الاتفاق فاشتعل الوضع الميداني في الجنوب، ويُتهم برافو بأنه شن هجمات انتقامية مروعة استهدف فيها عدة قرى ساحلية في شمال مينداناو بعد قرار المحكمة العليا، رغم نفيه لذلك وتحميله مسئولية الهجمات لعناصر من خارج الجبهة.

ومع تولي الرئيس بنينو أكينو (2010  –2016) الحكم استطاع عام 2012 التوصل لتفاهم مع جبهة تحرير مورو الإسلامية لوقف العنف بعد جهود شاقة بوساطة ماليزية، يتضمن منح أقلية مورو حكمًا ذاتيًا، وأعقب ذلك توقيع اتفاقًا موسعًا عام 2014، لكن يبدو أن ما وقع سابقا للجبهة الوطنية تعرضت له الجبهة الإسلامية؛ فالمنشقون عنها قاتلوا الجيش بضراوة اعتراضًا على الاتفاق الذي لا يلبي طموحات شعب مورو، وتواصلت المواجهات المسلحة مع الفصائل الصغيرة المتمردة في مينداناو وجزر بحر سولو.

ولم يتم تفعيل الاتفاق طوال عهد الرئيس أكينو، وتكررت الخروقات للهدنة بين الحكومة والجبهة الإسلامية، وتعرض الطرفان لاختبار صعب عام 2017 عندما هاجم تنظيم داعش، مدينة ماراوي في مقاطعة لاناو الجنوبية، وحينها تعاونت الجبهة مع الجيش ضد داعش حتى تمت هزيمته في أكتوبر/تشرين الأول 2017 لكن بعد دمار المدينة.

وساهم هذا الموقف في تقريب المسافات بين الجبهة الإسلامية والحكومة، واتفق الجانبان على تفعيل اتفاق عام 2014، وهو ما تم مطلع 2019 عن طريق تنظيم استفتاء شعبي لتطبيقه.

أزمة لاناو الشمالية

مع بدء التحضيرات لإجراء الاستفتاء شن القائد برافو حملة لم تكن عسكرية هذه المرة، بل دعائية لإقناع السكان بالتصويت بـ”نعم” في الاستفتاء، لخشيته من عدم الموافقة على ضم ستة بلدات ذات أغلبية مسلمة في مقاطعة لاناو الشمالية التي ينحدر منها، وبذل قصارى جهده لهذا الغرض.

وبالفعل صوتت الأغلبية في البلدات الست بالموافقة باعتبارها من معاقل الجبهة الإسلامية لكن أغلبية سكان المقاطعة صوتوا ضد ضم هذه البلدات لمنطقة الحكم الذاتي، وهنا حبس الكثيرون أنفاسهم خوفًا من شن برافو أعمال انتقامية ردًا على رفض ضم موطنه للكيان الإسلامي الجديد، وبدأ بعض القرويين المسيحيين في الاستعداد للفرار إلى مناطق أكثر أمنًا.

لكن هذه المخاوف لم تكن في محلها، فأعلن برافو قبل ظهور النتائج أنه سيتبع موقف قيادة الجبهة أيا كان ما سيسفر عنه التصويت، وأكد تأييده للسلام وأن الحرب التي خاضها سابقًا كانت “ضد القمع”، وقد صوتت غالبية البلدات البالغ عددها 22 بـ”لا”، وعلى الرغم من إحباطه، احترم برافو نتيجة الاستفتاء، وتم إعلان إنشاء سلطة الحكم الذاتي لشعب مورو المسلم بمينداناو (BARMM) رسميًا.

وحتى لا يشعر مسلمو مقاطعة لاناو الشمالية بالعزلة والتخلي عنهم، تم الاتفاق على ترتيبات مع الحكومة تتضمن إمكانية استفادة هذه المنطقة من خدمات السلطة الإسلامية المحلية.

هيئة الحكم الذاتي

في فبراير 2019 تم اختيار برافو عضوا في برلمان سلطة بانغسامورو الانتقالية الذي يعمل كمجلس تشريعي مؤقت، وهنا تحول من قائد متمردين يتعقبهم الجيش في الغابات ودروب الجبال إلى جزء من السلطة الحاكمة، وتخلى عن عرينه الجبلي في مينداناو بعد حصوله على عفو حكومي، وذهب إلى قصر مالاكانانج الرئاسي في العاصمة مانيلا ليقف أمام الرئيس “رودريغو دوتيرتي Rodrigo Duterte” الذي ينحدر من مينداناو أيضًا، ويؤدى اليمين الدستورية ضمن هيئة الحكومة المحلية الجديدة.

وأثار حضور برافو في القصر الرئاسي ضجة إعلامية كبيرة، وتلقى عرضًا لتحويل حياته إلى مسلسل تلفزيوني ضخم، من قِبل الممثل ومنتج الأفلام، روبن باديلا (اشتهر باسم عبد العزيز بعد إسلامه)، الذي حقق نجاحًا في تقديم أفلام رجال العصابات، ويعد من المتعاطفين مع قضية شعب مورو بالرغم من انتمائه لمنطقة بعيدة في وسط البلاد.

واليوم يؤدي برافو في أواخر العقد السابع من عمره، دورًا معاكسًا تمامًا للدور الذي قضى فيه معظم سنين عمره، ويردد هو نفسه بأن كونه عضوًا في البرلمان أصعب من دوره القتالي السابق، ويُعزى هذا إلى تراكم المسئوليات وضعف الإمكانات المتاحة للحكومة المحلية، فقد انخرط في جهود إعادة الإعمار وبناء المرافق في منطقة تعد من أكثر المناطق فقرًا وحرمانًا، ويتضمن عمله التواصل مع السياسيين ورجال الأعمال لتوفير الأموال لبناء مدرسة أو عيادة طبية أو إقامة مشروع زراعي مثلاً، ولم تعد مسئولياته تنحصر في فئة بعينها بل أصبح مسئولا أمام جميع السكان على اختلاف أديانهم وأعراقهم.

في ذكرى حصار ماراوي.. من هو "القائد برافو" الجهادي السابق الذي يساعد الفلبين في محاربة داعش؟

 

كما أن مكافحة التطرف وحركات العنف مهمة لا تقل خطورة وأهمية عن المهام الخدمية فعودة تنظيم داعش أو ظهور حركات العنف قد يكون كفيلًا بإفشال عمل السلطة الانتقالية وإعادة الساعة إلى الوراء، ولذلك يعمل برافو اليوم ضمن الهيئة الانتقالية لمحاصرة التطرف بكل قوة.

وفي هذا الإطار تعد مهمة إعادة تأهيل مدينة ماراوي شرطًا أساسيًا لإقناع عرقية ماراناو – الذين يشكلون جزءًا كبيرًا من شعب مورو- بالسلام وقطع الطريق على الحركات المسلحة التي تعزف على وتر مظلوميتهم لإقناعهم باللجوء للعنف، ويضطلع برافو بدور رئيسي في هذه الجهود، وقد نجحت السلطة الانتقالية في اجتذاب عدد من هؤلاء المسلحين خاصة من “جماعة ماوتي Maute group” المؤيدة لداعش لكن النتائج ما تزال أقل من المطلوب، وأطلقت الحكومة المؤقتة مشروعا في أواخر عام 2020 ، يهدف إلى تقديم المساعدة الاجتماعية والاقتصادية لأعضاء الجماعات المسلحة في مورو خارج عملية السلام ممن لديهم استعداد للتخلي عن أسلحتهم.

ويعد نموذج القائد برافو أو عبدالله مكابار، مثالا عمليا على نجاح سياسة احتواء الحركات المسلحة عبر الحوار وتحويل جهودهم إلى طاقات بناءة من خلال إشراكهم في جهود حل الصراع وإعطائهم أدوارًا ومسئوليات ضمن صيغة الدولة تجعلهم جزءا من الحل بدلا من أن يكونوا جزءا من المشكلة.