أغاني المهرجانات في قفص الاتهام

  • أغاني المهرجانات تفتقر للنبض والحياة
  • نسبة كبيرة من هذه الأغاني تعاني فقدان الانسجام والترابط

الكلمة هي الأساس، أساس الفن والحياة، العنصر الرئيسي في صناعة السينما والدراما، في الأغاني، في كل شيء، ولما تقدمت الحياة والتجارب، وتغيرت بعض المفاهيم وأشكال الفنون، أصبحنا نبحر في الحديث والنقاش حولهم ولكن دون الاهتمام الكافي بالكلمة.

ومن ذلك الحديث حول أغاني العصر الحديث، الأغنيات المعبرة عن الزمن والأجيال الجديدة، أجيال الشباب، ولذلك في كثير من الأحوال نلاحظ سقوط الكلمة من الحسابات، رغم أن “الكلمات” هي الملعب الوحيد للمهرجانات، فالأصوات شاحبة في أغلب الأحيان، والجيد منهم يساويه “الأوتوتيون” بغيره من أصحاب المواهب الأقل، لذا يحاول بعض الموهوبون منهم الهرب في موال جانبي داخل المهرجان يعبر فيه عن قدراته الفنيّة، أما الألحان.

ورغم التطور الكبير الذي دخل مؤخرًا على المهرجانات وتطور النواحي التقنية والفنية من خلال المزج ما بين الشرقي والغربي بالإيقاعات الإلكترونية و”التراب” لكنها ستظل ألحان “إلكترونية” وليدة برامج وتطبيقات، تعبر عن ذوق البعض وعدد ليس بالقليل من الأجيال الجديدة، لكنها تفتقر للنبض والحياة.

لا يجب الحكم على الحاضر بعيون الماضي

هذا الانطباع مأخوذ بالفعل على صُنّاع الراب والمهرجانات الآن، فقطاعات كبيرة من المستمعين والراقصين عليها في الأفراح والمناسبات المختلفة مؤمنون بأنه لا يجب الحكم عليها بالطرق التقليدية لأنها لها حيز ونطاق تُسمع داخله، لكن الحقيقة أنها لا تعمل في صالات الرقص وقاعات الأفراح فقط، لكنك تسمعها في الشوارع والحارات، في صالونات الحلاقة والمطاعم والأسواق، في الأماكن الشعبية وصولا إلى الساحل الشمالي، بل وامتدت من المحيط إلى الخليج ومن إلى أمريكا إلى فرنسا. ولو قمت برحلة غطس في أعماق البحر الأحمر ستجد الشعاب المرجانية والمخلوقات البحرية تتراقص عليها، لذلك فاعتبار أنها للرقص وإخراج الكبت والمشاعر السلبية فقط مسالة تفتقر للدقة.

لكن بسؤال عدد من الشباب كان لديهم رأي بأن المهرجانات ومعها تراكات الراب ليست الوانًا طربية في المقام الأول، بل اعتمادها الأول على الإيقاع ولذلك نجحت في الانتشار، وأصبحت الأكثر طلبًا في الأفراح، إجمالا هي الوان موسيقية معبرة عن حالات شعورية صاخبة ومتوهجة، وهي لا تتعدى بحال من الأحوال على الطرب وأهله، فهي لن تحل محل أم كلثوم وفيروز وفايزة أحمد يومًا من الأيام.
أين الانسجام في كلمات الراب والمهرجان؟

البحث عن التناسق والانسجام في العملية الفنية هو ما يشغل الباحثون عن الأصالة

لكن الأمر الذي يشغل المهتمون بالأصالة، وبالكلمة كعماد أساسي هو البحث عن التناسق والانسجام في العملية الفنية، وعليه فهم يبحثون في الغناء عن معنى الكلمة ومدى الانسجام والتناغم والتكامل بين الكلمة واللحن.

وأصحاب هذه المدرسة يرون المهرجانات تعبث بالمنطق، وبالإرث الذي عرفناه وتربينا عليه منذ عشرات السنين في تاريخنا الغنائي، خاصة أن اللغة العربية والكلمة المقروءة والمسموعة تعاني من حالة تراجع خلال السنوات الأخيرة مما يفتح بابًا للنقاش حول تأثير الأغنية ومدى إسهامها في هذه الحالة من التراجع، لكن على الجانب الآخر يرى الشباب بأن الأغنية لم تعد فقط الكلمات، ولم تعد الكلمات هي “القواعد المسلح” الذي يقوم عليه هذا البناء، لذلك ستجد العشرات في قاعات الأفراح يتمايلون ويرقصون ويحتفلون بعروسين جديدين على أغنية كلماتها تقول “ينعل أبو الجواز” دون أي مشكلة أو استغراب من الحاضرين!

https://www.youtube.com/watch?v=9MDIf-96hOA

كلمات مثل اللوحات السيريالية

للشاعر جمال بخيت رأي مخالف حول كلمات أغاني المهرجانات: “أتحدى أي واحد يقرأ كلمات هذه الأغاني على الهواء أو يطلع بث مباشر ينطقها”.

والحقيقة إن نسبة كبيرة منها تعاني بالفعل من فقدان الانسجام والترابط الذي يخلق صور ومعاني واضحة يخلقها الشاعر في ذهن المستمع، بل إنها أحيانا تشبه لوحات سيريالية غير مفهومة، تخلق حالة من الضبابية والتشوش، فكلمات “دورك جاي” مثلا لويجز حين يغني “بفتنا تعاشر المظابيط يا سمك شعرة يا مصابيح” من يفسر لنا معنى المصابيح، ومن هم المظابيط!

أو حين يقول في أغنية “كيفي كده” “باجي وفي إيدي الرضعة عشان أغدي النونة، في الحرب دي أنا على وضعي مجيتش راجي في هدنة، عامل ليه فزلوكة مابل راب بفلو الشكشوكة أجيب أوتو جن وأسيب سكسوكة”.

أتحدى أي واحد يقرأ كلمات هذه الأغاني

الشاعر جمال بخيت

إلى آخر الكلمات الغريبة، وغيرها من أغنيات الراب، التي تشبه في كثير من الأحيان شفرات، ورسائل مبطنة، يفسرها محبو الراب على إنها شكل فني للراب الذي يتمتع بالخصوصية عن غيره من الأنواع الموسيقية على مدار تاريخه، وهو فن نوعي، لم يعرف الشهرة الواسعة والقاعدة الجماهيرية العريضة وملايين المشاهدات غير في السنوات الخمس الأخيرة، ما بعد “الجميزة” لمروان بابلو و”دورك جاي” لويجز، وفي ذلك الإطار هو فن له خصوصية معينة وتفرد لن تغيره مسالة الشهرة والقاعدة الجماهيرية التي اتسعت، فهو يسير وسط قوانينه، التي من ضمنها الكلمات المشفرة والملغزة، يسميها البعض مرحلة “ما بعد بعد الحداثة”!

لكن يبقى السؤال هل يستطيع الجمهور العادي غير المتخصص، هضم تلك التفصيلات، وهل تلك المبررات أو التخريجات تستطيع إخراج الكلمات ببساطة من المُعادلة باعتبارها موضة قديمة!
البحث في الملفات القديمة

يشتد الصراع حول كلمات المهرجانات، وكثيرًا ما يستدل هنا من باب الإدانة بمهرجان قديم غناه حمو بيكا بكلمات بذيئة قبل الشهرة وتبرأ منه مؤخرًا، وهناك العشرات مثله ومأزالت موجودة على يوتيوب، لكن الأزمة الأكبر في اللغة نفسها، في انتشار لغة أصحاب الحرف والصناعات وجلسات الكيف، التي لم تعد فقط منتشرة في كل قطاعات المجتمع خلال سنوات قليلة بعد ذيوع صيت المهرجانات، بل أصبحت مكتسحة، يتم ترديد تلك اللغة والكلمات في المدارس والجامعات وفي الأفلام والمسلسلات وفي قطاعات لم يكن من المنتظر أن تعرف تلك اللغة حتى ولو بعد مائة عام، والراب ليس بعيدًا عن ذلك، فمروان بابلو الملقب ب “الأب الروحي للتِراب” وأحد من أشهر الرابرز في مصر خلال الموجة الجديدة بعد عام 2018 يقول في تراك “عايز فين” “ملكش أمان، هتمطع وأديك أخد قلم لف دار، لحمي مر أنا صبار، صاحبي جايبين النص كيس، جايبنه تعاطي مش اتّجار”!

بينما في تراك “جيب فلوس” يقول: “زميلي روح جيب فلوس جيب فلوس، سكتي معروفة وفيها كلاب عمري ما قريت في حياتي كتاب، فتحت الصفحة قفلت الباب”

بينما يقول ويجز في تراك “إي تي إم” “مش عايز دكتور عايز إي تي أم” وغيرها الكثير من التراكات التي تدور حول نفس المفهوم من سنوات حتى الآن مما دفع الفنان هاني عادل ليكتب قبل أيام
مش متخيّل نوع موسيقى كامل مبيتكلمش عن أي حاجة في الأغاني غير إنه جامد وأنا معايا أجمد واحدة، وأنا مش فاضيلك وبعمل فلوس في البنك.

يا جماعة أنتوا ممكن تغيروا تفكير جيل كامل بيسمعكوا، اتكلموا عن مشاكلهم النفسيّة، مشاكلكم مع الجيل اللي مش فاهمكم، مشاكلكم العاطفية. مينفعش يبقى كلكم بتعرفوا واحدة عشان جامدة وبتسيبوها أول ما تشوفوا الأجمد منها؟

الماضي دليل على حرية الفن أم مبررًا للجرأة؟

كثيرًا ما يستدل الفريق المؤيد للمهرجانات والراب بحقبة بعيدة في تاريخ الغناء في مصر، تحديدًا “بالخلاعة والدلاعة مذهبي” التي غنتها أم كلثوم في ظروف غامضة ووصلنا منها تسجيلا بجودة ضعيفة، و”أرخي الستارة اللي في ريحنا” لمنيرة المهدية، وذلك لتمرير وتبرير الكلمات الغريبة للأغنيات الجديدة، فتوجهت بالسؤال للشاعر والناقد، ومعلم اللغة العربية الأستاذ إبراهيم حمزة حول تلك المسالة، وهل هذا يعتبر مبررًا لانتشار الكلمات الجريئة في الأغاني فقال:

“بالخلاعة والدلاعة مذهبي”.. أغنية غنتها أم كلثوم في ظروف غامضة

رغم أن رحلة الأغاني وكلماتها عبر الزمن ليست بريئة كل البراءة، لكن الكلمات المريبة السيئة نوادر قليلة وسط إبداع متدفق كشلال، تسمع عبد الوهاب يقول “أنا عندي مانجة وصوتي كمانجة”.
وأم كلثوم تغنى “بقى يقول لي وأنا أقول له وخلصنا الكلام كله”

وتسمع منيرة المهدية وهي تطلب “إرخي الستارة اللي في ريحنا”.

وهي كلمات الشيخ يونس القاضي، وهو من كتب أغنية أم كلثوم العجيبة “الخلاعة والدلاعة مذهبي من زمان أهوى صفاها والنبي”

ولكن هذه الكلمات لم تشكل ظواهر، بالعكس مجّتها الأذواق ونفرت منها، بل يقال إن الشيخ يونس حينما تولى الرقابة رفض هذه الأغنيات

نجوم الشباك في ملاحقة نجوم الراب والمهرجانات

لم يقتصر تأثير المهرجانات على قاموس اللغة، بل امتد إلى تيار الأغنية الكلاسيكية، ومع صيف 2018 حتى الآن قدم العديد من المطربين أغنيات بكلمات تلامس كلمات المهرجان حتى ولو داخل إطار الحان تقليدية، أملًا في إعادة البساط الذي سحبته المهرجانات، فقدمت هيفاء وهبي في أغنية “توتة” كلمات تقول:

“فكك مني ولا تكلمني ولا تفهمني ولا بتنجان”.
وقدم عمرو دياب في نفس الصيف “أنت مغرور أنت زي الزينة ديكور، واللي عاشرك معذور مغرور”.
والتحقت بهم سميرة سعيد، بل وزادت من الشعر بيت في “سوبر مان”:

“بقى بارد جدا، بقى دمه تقيل، بقى ندل قوي وطماع وبخيل، البيه اللي عاملي مؤدب وجميل، بيجيلي مدروخ نص الليل”!

وتصاعد صخب الكلمات، من صيف 2018 إلى الآن أملا في ملاحقة التريند وجذب ملايين المشاهدات الحائرة على اليوتيوب بين نجوم الراب والمهرجانات، فقدم أحمد سعد قبل أيام مهرجان”وسّع وسّع”: “لو كانت بالكلام أنا أسمعك الكلام، شوف أنت نمرة كام والكام منك بكام، أنا من غيرك تمام بس أنت مش تمام”

تصاعد صخب الكلمات، من صيف 2018 إلى الآن أملا في ملاحقة التريند

بينما طرحت روبي مؤخرًا “نمت ننة” وفيها تشدو: “طب والحب اللي بينا، مش هتكلمني سيكا، مش هتدلعني سِنة، فوق لي حبة، أنا أوفر دوز محبة”.

وغيرها الكثير من الأغنيات التي ربما تحاول الخروج عن المالوف، لكن يبقى السؤال، هل تحاول الخروج عن المالوف بطريقة فنيّة أكثر إبداعًا أم أنها تحاول فقط من أجل المحاولة فيأتي الخروج كمحاولات مشوهة لا تصمد عبر الزمن ولا تنتقل إلى الحاضر والمستقبل إلا من باب التندر والحكايات المسلية والتدليل على أن التاريخ لم يكن ورديًا وكان وسيظل يحمل الكثير من الإشارات والالغاز والسقطات الفنية؟

كما أعتقد أن التاريخ لن يتوقف أمام حقبة المهرجانات، فلو صمدت “إرخي الستارة اللي في ريحنا” أو الخلاعة والدلاعة” وغيرها سوف تصمد بنت الجيران وأخواتها، لكن الواقع أن الصمود كان من نصيب فكروني ووصفولي الصبر والأطلال الذين عبروا الزمن واستمروا، ولا يزال يستمع الناس إليهم، ويبحثون عنهم في محركات البحث وتطبيقات الموسيقى رغم مرور عشرات السنين، فهل بعد 100 عام سيبحث الناس عن بنت الجيران، أم أنها ستكون فقط وثيقة وذريعة تبرير لموجات غنائية أكثر صخبًا وعنفًا من المنتشرة الآن؟

 

تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن