القاعدة في اليمن يخالف نفسه
في شهر أغسطس الماضي، وبعد أيام من تحرير الموظف الأمم آكام سوفيول أنعم الذي كان مختطفًا لدى تنظيم القاعدة في اليمن منذ أكثر من 18 شهرًا، تم تحرير بقيّة موظفي الأمم المتحدة اليمنيين المختطفين من قبضة تنظيم القاعدة في اليمن.
وخلال العام الماضي أعلن تنظيم القاعدة في اليمن عن اختطافه لعدد من الموظفين الأمميين العاملين في اليمن وقد كان من بينهم موظف أجنبي؛ حينها بدا هذا السلوك صادمًا فهو يتعارض مع “السياسة الشرعية” للتنظيم، ويمثل سابقة في تاريخ الفرع اليمني الذي يقدم نفسه باعتباره الأكثر التزامًا بوصايا الأب المؤسس للحركة الجهادية أسامة بن لادن.
لكن مع الوقت اتضح أن ظاهرة استهداف الأجانب لم تكن مجرد استثناء، كما أنها لم تقتصر على الاختطاف بل تعدت ذلك إلى تنفيذ عمليات اغتيال وتحويل التنظيم لعصابة من قطاع الطرق.
وفي شهر أغسطس الماضي تعرض موظفان أجنبيان يتبعان منظمة أطباء بلا حدود إلى الاختطاف شرقي البلاد، ورغم أن تنظيم القاعدة لم يكن المسؤول المباشر عن العملية إلا أنه استطاع لاحقًا أن يحتفظ بالمخطوفين في حوزته عبر صفقة مبهمة لم يعرف تفاصيلها حتى الآن.
ولا يبدو أن سلوك التنظيم سوف يتوقف عند هذا الحد، فقد أفادت مصادر جهادية وأمنية بأن تنظيم القاعدة أخبر قيادته عن سياسته الجديدة التي تنوي استهداف المنظمات الأجنبية وموظفيها ورموزها داخل المناطق اليمنية المحررة التابعة للحكومة الشرعية.
وقد دفعت هذه التطورات بعض المراقبين إلى الاعتقاد بأن سلوك القاعدة يحمل دلالتين مهمتين: أولاً مرورها بأزمة مالية خانقة جعلتها تتخلى عن “الكود الأخلاقي” الذي تتبناه، وتقبل القيام بأعمال ذات طابع مافيوي على غرار ما حدث للحركات المسلحة المتطرفة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وعلى غرار ما يقوم به داعش و حزب الله، ورغم وجاهة هذا الاستنتاج إلا أنه يظل قاصرًا وحده عن تفسير هذه الظاهرة الجديدة المتمثلة باستهداف الأجانب.
أما الدلالة الثانية فتمثلت باعتقاد البعض أن نشاط القاعدة الأخير إنما يشر إلى قدرة التنظيم على استعادة عافيته وتماسكه، وتحصل على قدرات تنظيمية وتسليحية تمكنه من انتهاج سياسة هجومية نوعية.
وقد يبدو هذا الاستنتاج منطقيًا على المستوى النظري إلا أن واقع الحال يقول عكس ذلك تمامًا؛ ويمكن وصف سلوك التنظيم “بالهروب الى الأمام” ذلك أن استهداف الأجانب العاملين في اليمن عكس ديناميكيات التآكل الذاتي في التنظيم، كما أنه جاء بنتائج عكسية فجرت أكثر تناقضاته الكامنة.
وهم باطرفي
لقد تصورت القيادة الحالية لتنظيم القاعدة، والتي يمثلها الثلاثي خالد باطرفي وإبراهيم البنا وابن المدني نجل سيف العدل؛ أن بوسعها الهروب من محنتها من خلال استهداف الأجانب (بالاختطاف أو الاغتيال)؛ من جهة فإن ذلك يمنح التنظيم موردًا ماليًا جديدًا، ومن جهة أخرى فإن هذه العمليات تخلق زخمًا إعلاميًا ودعائيًا يعوض حالة التراجع الاستراتيجي للقاعدة، وأخيرًا فإن هذه العمليات تمثل ضربة لخصوم التنظيم في اليمن ممثلين بمعسكر الشرعية اليمنية ودول التحالف العربي.
لكن هذا السلوك جاء بنتائج عكسية؛ تماما وللمرة الأولى برز تيار واسع انتهج معارضة شديدة ضد سلوك القيادة الجهادية الحالية في اليمن تزعم هذا التيار كلا من سعد العولقي و خبيب السوداني وكذلك عدد من أعضاء اللجنة الشرعية للتنظيم الذين أعلنوا عجزهم عن تبرير هذا السلوك، وقد فجرت هذه العمليات جملة من الخلافات منها مهو هو ذو طابع أخلاقي ومنها ما هو مادي، ومنها ما هو استراتيجي.
أخلاقيًا اعتبرت الأوساط الجهادية هذه العمليات بمثابة خيانة رسمية لإرث بن لادن و الوحيشي والريمي الذين شددوا دائمًا على أن استهداف المنظمات الإنسانية الدولية والعاملين فيها انما هو استهداف الحواضن الشعبية السنية المستفيدة منها؛ ولم يقتصر الأمر على ذلك فقد أخذ الاحتجاج في صفوف التنظيم طابعًا قبليًا ومناطقيًا.
وقال العديد من العناصر الجهادية اليمنية وفي مقدمتهم سعد العولقي أن هذه العمليات تزرع شرخًا حادًا بين التنظيم و بين الحواضن القبلية لاسيما في محافظات أبين وشبوة ومأرب، وأن هذه السياسة تمثل إساءة لهم وتشوه صورتهم وتوصمهم بالإرهاب والإجرام.
وبعد ان تم الافراج عن المختطفين الأمميين في الشهر الماضي، انفجرت في صفوف التنظيم ازمة حادة ؛ فمن جهة تم الإعلان عدن هذه الصفقة بشكل مفاجئ دون استشارة قياديي التنظيم وقام باطرفي والبنا بإبرام الصفقة بشكل شخصي دون الإفصاح عن تفاصيل الوساطة التي حدث والمقابل المادي الذي تحصلوا عليه.
ورغم نفي قيادة التنظيم وكذلك الأمم المتحدة تقديم أي مبالغ مالية، إلا أن ذلك لم يحول دون تنامي الأصوات الغاضبة والمشككة في صفوف التنظيم والتي اشارت بأصابع الاتهام إلى البنا وباطرفي باعتبارهم قاموا بالاستيلاء على الأموال التي تحصلوا عليها بشكل سري من الصفقة وانهم يحاولون التنعم بها في حين يعاني التنظيم من ضائقة مالية خانقة.
بمعنى آخر فإن هذا السلوك لم يؤدي إلى تخفيف الأزمة المالية بل فاقم من تداعياتها، ومع ذلك فإن الخلاف الأخطر الذي انفجر مؤخرًا في القاعدة تمثل باتهام باطرفي والبنا وابن سيف العدل بالتواطؤ مع جهات أخرى لتنفيذ اجندة مشبوهة على حساب التنظيم وسمعته.
فشل استراتيجية باطرفي
وقد تحدثت مصادرنا الجهادية عن أن قيادات وعناصر التنظيم حاولت أن تقبل على مضض نفوذ سيف العدل المقيم في إيران ويعتبره بعض أعضاء ومناصري القاعدة بمثابة حصان طروادة للإيرانيين، كما انها حاولت ان تتفهم استراتيجية باطرفي التي تركز على المناطق المحررة وترفض المواجهة مع الحوثي؛ لكنها لم تعد قادرة على أن تتفهم كيف أن التنظيم يتخلى عن مبادئه ويبرم صفقات مع الحوثي للقيام بالمهام القذرة التي يعجز الحوثيون عن تنفيذها.
اتهامات القيادات الساخطة تؤيدها معطيات الواقع، على سبيل المثال فإن اغتيال الموظف الأردني في تعز جاء بعد أسابيع من قيام الأمم المتحدة بفتح مكتب مستقل لها في محافظة تعز، وهو ما كان يرفضه الحوثيون مطالبين ببقاء مركز الدعم الإنساني الأممي في صنعاء.
أيضًا فإن القاعدة من خلال سياستهم الجديدة يحاولون أن يقوضون التعاون الخارجي بين الحكومة الشرعية وبين المؤسسات الدولية وتعزيز الرواية القائلة بان مناطق الشرعية غير آمنة، وذلك بعد أيام فقط من قرار الأمم المتحدة وقف تعاونها مع السلطة الحوثية في صنعاء وتكثيف نشاطها في المناطق المحررة.
كل انحراف لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية عن مساره الأصلي يثير تساؤلات جدية حول الأجندة التي تتبعها المنظمة حقاً.. لأنه من الواضح أنها ليست أجندة يمنية، أو حتى أجندة عربية.