“سهام” باطرفي
عجز خالد باطرفي أمير القاعدة في اليمن، عن تقديم أي مساعدات وعن تلبية إحتياجات عناصر وقادة عمليات أبين، أدى إلى توقف شبه كامل لتنفيذ عمليات العبوات الناسفة في محافظة أبين خلال الأسابيع الماضية، مما أرغم خالد باطرفي إلى اللجوء للقيادي أبو أسامة الدياني لإنقاذه من فشل ادارة التنظيم.
أبو أسامة الدياني والذي تربطه علاقة جيد مع قيادات مليشيات الحوثي في صنعاء، تدخل محاولاً إنقاذ باطرفي من خلال توفير الطيران المسير. وهو ما يبدو أثره واضحا في انتهاج تنظيم القاعدة في اليمن استراتيجية جديدة تداركاً لخسائره المستمرة في المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية.
وفي خلال أسبوع واحد، أعلن تنظيم القاعدة في اليمن عن 4 هجمات مسلحة بطائرات بدون طيار، كلها في محافظة شبوة جنوب اليمن، واستهدفت قوات دفاع شبوة، بعد أشهر من تنفيذه عمليات بالعبوات الناسفة في حربه التي اطلق عليها بـ”سهام الحق”.
وكشفت هجمات الطائرات بدون طيار الأخيرة حقيقة “سهام” باطرفي. لا علاقة لهم بـ “الحق” وليسوا تعبيراً مجازياً، سهام باطرفي هي طائرات إيرانية بدون طيار تهاجم أبناء وموارد الجنوب لصالح الحوثيين وخدمة الأجندة الإيرانية في اليمن.
التطور النوعي في إمكانيات التنظيم بامتلاكه الطائرات المسيرة، يأتي بسبب الدعم المستمر الذي يتلقاه تنظيم القاعدة من مليشيات الحوثي، التي ركزت في استخدام وتطوير الطائرات المسيرة خلال السنوات الماضية، بهدف ضرب خصومها السياسيين.
سيف العدل والمصالحة السعودية الإيرانية
كان متوقعًا أن يتصدر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب قائمة المتضررين من أي تهدئة إقليمية وذلك بعد أن أحكم الجهادي المصري “سيف العدل” زمام سيطرته على الفرع اليمني مستفيدًا من الدعم الإيراني السخي ومن حالة الاستقطاب الإقليمي.
ومثلّت الانعطافة الإيرانية امتحانًا حقيقيًا لتماسك شبكة وكلائها المسلحين في المنطقة، ومدى سيطرتها على حلفائها المارقين ومن ضمنهم تنظيم القاعدة في اليمن.
وقد جاءت ردود الأفعال الجهادية إزاء المصالحة “السعودية الإيرانية” كاشفة لحجم الانقسام الداخلي الذي بات يعانيه التنظيم في اليمن، ومدى التناقض الشديد في توجهات ومصالح الأجنحة المتصارعة على قيادته، والتي يمكن إجمالها في ثلاث مجموعات رئيسية:
المجموعة اليمنية بقيادة سعد العولقي، والمجموعة السعودية الحضرمية بقيادة باطرفي، وأخيرًا المجموعة المصرية بقيادة نجل سيف العدل والقيادي المصري إبراهيم البنا.
العولقي.. فرصة لإعادة التموضع
على مدار الأعوام الماضية كان سعد بن عاطف العولقي، الذي يحظي باحترام القبائل اليمنية، أهم قيادي جهادي في اليمن، يتبنى موقفا معارضا تجاه سياسات القيادة العامة للتنظيم، وقد تمحور موقف العولقي حول مجموعة من المطالب في مقدمتها: تعطيل التنسيق العملياتي مع جماعة الحوثي والعودة مجددًا إلى مواجهته عسكريًا واستهدافه أمنيًا، أو على الأقل تجميد العمليات الجهادية في المناطق اليمنية المحررة أسوة بسياسة التنظيم تجاه المناطقة المحتلة من قبل الحوثي.
وفي الوقت الذي يحاول فيه الأجانب في قاعدة اليمن دفع التنظيم للتماهي الكامل مع أجندة الحرس الثوري، يصر العولقي على موقفه الواضح ضد التدخل الإيراني. وهو ما حاول ترسيخه بعد المصالحة السعودية الإيرانية التي أعلنت في مارس الماضي، كي يدفع التنظيم نحو مواقف أكثر تشددًا إزاء طهران وحلفائها يماثل على الأقل موقف التنظيم من الرياض وحلفائها المحليين في اليمن.
وفي إبريل المنصرم عقد اجتماع موسع ضم النخبة القيادية لتنظيم القاعدة، وفي الاجتماع قدم العولقي خطة عمل جريئة هدفها الأساسي تحويل المصالحة الإيرانية السعودية إلى فرصة تاريخية لإعادة إنتاج التنظيم إعلاميًا وعمليًا باعتباره آخر كيان مسلح قادر على مواجهة الحوثي بعد أن قررت الرياض الانفتاح على طهران وصنعاء.
وبهذه الطريقة يتم استمالة القوى الفاعلة والقطاعات الشعبية التي مازالت معادية للحوثي والتي تعاني من سياساته الطائفية العنيفة، وفي الوقت نفسه يتمكن التنظيم من تفنيد السردية الشائعة حاليًا حول علاقته الوثيقة بإيران، وفي ذات السياق يسهم هذا التوجه في تعزيز التماسك الداخلي للتنظيم واستعادة جاذبيته الأيديولوجية والقبلية مثلما كان عليه الحال في العام 2015.
وقد تضمنت خطة العولقي محورين: الأول هو المحور الإعلامي، وبحسب قيادي جهادي، فإن تنظيم القاعدة في اليمن كان يعتزم إصدار بيان رسمي مكتوب لإدانة المصالحة، إلا أن العولقي اقترح أن يكون هناك ظهور إعلامي بكلمة مصورة لأحد قادة التنظيم، ليهاجم فيها المملكة العربية السعودية والنظام الإيراني، ويؤكد على مواصلة العداء مع ميليشيات الحوثي، وتقديم دعوة إلى قبائل أهل السنة وشباب الإخوان في اليمن، ليلتحقوا بالتنظيم الذي مازال يخوض الحرب ضد ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران.
أما المحور الثاني فقد تضمن القيام بحملة تواصل مع كبار شيوخ القبائل وقيادات دينية وحزبية في مختلف المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية، للتأكيد على استعداد لوقف العمليات في المناطق المحررة والتحالف مع أي جهة ترفض التقارب مع ميليشيات الحوثي.
لقى مقترح سعد بن عاطف العولقي، قبول وتفاعل كبير من معظم قيادات التنظيم، الذين لم يوافقوا على تطبيق المقترح فحسب، بل أكدوا على ترشيح سعد العولقي للظهور في الكلمة وتوفير الدعم لإنجاح تطبيق المقترح على الأرض، لا سيما أن العولقي يُعد أبرز القيادات القبلية داخل التنظيم، وتربطه علاقات واسعة مع القبائل اليمنية.
باطرفي.. الانتقام من رجال طهران في التنظيم
كانت قيادة باطرفي لتنظيم القاعدة هي اللحظة الأساسية التي بلغ فيها نفوذ سيف العدل – ومعه إيران- ذروته في اليمن، لكن حسابات باطرفي تغيرت منذ بداية العام الجاري، وذلك بعد أن تيقن الرجل من أنه لم يكن بمثابة الحليف الحقيقي لسيف العدل، بل كان مجرد جسر مؤقت لتأمين عبور نجله الشاب إلى قمة هرم القيادة.
لذلك لم يجد باطرفي بديلا غير استغلال قوة سعد العولقي وثقة القبائل اليمنية به في محاولة للحفاظ على وجوده في السلطة لأطول فترة ممكنة.
وبناء على ذلك وافق باطرفي، كحل مؤقت، على الشق الإعلامي من مقترح العولقي، لكنه طلب أن يكون أمير التنظيم بنفسه من يتحدث في المقطع المصور، ويعلن موقف القاعدة المعادي للسعودية وإيران على حد سواء.
حل باطرفي المؤقت لن يكون بدون عواقب، فالعولقي ليس ساذجا ولن يظل يقبل وعودا فارغة من باطرفي. العولقي سيبقى يراقب ما يفعله باطرفي على الأرض وليس فقط ما يقوله في رسائل القاعدة، وإذا لم يقم باطرفي باتخاذ إجراءات فعلية ضد الأجندة الإيرانية في اليمن، فإن الكلمات لن تحل الأزمة القادمة.
وفي المقابل فقد قام خالد باطرفي بمناقشة الشق العملي من المقترح مع تحفظه على إبداء أي موقف حاسم تجاه استئناف المواجهة العسكرية مع الحوثي وتجميدها مع قوات الشرعية، وهو ما فضحته تحركات القاعدة الأخيرة في محافظة أبين واستهدافها للقوات العسكرية والأمنية في المحافظة، وكشفت موقف باطرفي الحقيقي من المسألة وأنه كان يناقش الشق العملي فقط لشراء الوقت، وللضغط أكثر على المجموعة المصرية.
ووفق قيادي جهادي مقرب من القيادة العامة، فإن خالد باطرفي كان يراعي بالأساس مصالحه الذاتية وقد سعى إلى إنقاذ نفسه من خلال ظهوره الإعلامي الأخير، وبذلك حاول أن يضرب عصفورين بحجر، من جهة منع العولقي من الظهور باعتباره مازال منافسًا له، ومن جهة أخرى تأكيد موقعه القيادي ردًا على مساعي تقليص نفوذه لمصلحة نجل سيف العدل.
المجموعة المصرية.. امتصاص الأزمة
كان اجتماع إبريل الموسع قد ضم أيضا نجل سيف العدل “ابن المدني” والقيادي إبراهيم البنا، لم يستطع القياديان مواجهة موجة الغضب العارمة ضد إيران داخل التنظيم، لكنهما حاولا التكيف معها وامتصاص تداعياتها من خلال خطوتين:
أولا: تعطيل ظهور العولقي إعلاميًا لأن ذلك سوف يمنحه زخما أكبر لتنفيذ مقترحه، والقبول بظهور باطرفي لمهاجمة إيران باعتبار ذلك أهون الشرين.
ثانيا: تعطيل الشق العملي من مقترح العولقي، والإبقاء على سياسة سيف العدل على الأرض وإن تم تغير الخطاب الإعلامي بشكل مؤقت.
وربما أوحت هذه المناورة إلى زعيم القاعدة خالد باطرفي بأنه قد نجح بالضغط على سيف العدل المقيم في طهران، وتقويض رجاله الفاعلين في اليمن وثنيهم عن خطتهم الطموحة لإعادة الهيكلة الشاملة للتنظيم، والتي تقود بالمحصلة إلى إبقاء باطرفي كزعيم شكلي مع تسليم زمام القيادة إلى نجل سيف العدل.
لكن قيادي جهادي قريب من زعيم التنظيم، رأى عكس ذلك تمامًا، وقال لـ”أخبار الآن”: “خالد باطرفي تعامل بتهور وأنانية مع تطورات الاجتماع الأخير الموسع للقاعدة؛ فلا هو الذي طبق مقترح العولقي بالشكل الأمثل، ولا هو الذي تجاهله لمصلحة سيف العدل والتزم بتوجهه المعتمد منذ عامين”.
ثم أضاف القيادي الجهادي: “ظهور باطرفي في الإصدار الأخير هو محاولة يائسة للحفاظ على موقعه ونفوذه، لكن الأكيد أنه سوف يرسخ قناعة الزمرة المصرية التي ترى أنه قد أصبح كرتًا محروقًا، وقد تسرع من تحركاتها للتخلص منه”.
نقطة اللاعودة
يبدو أن العلاقة ما بين القاعدة من جهة وطهران والحوثيين من جهة أخرى قد بلغت نقطة اللاعودة ولا يمكن الفصل بينهما.
صحيح أن وتيرة التعاون سوف تتباين صعودًا وهبوطًا وفق المتغيرات المحلية والإقليمية، لكن محاولة الفصل النهائي بين الطرفين باتت مستعصية للغاية.
وقد جاءت التفاصيل التي أحاطت بكواليس خطاب باطرفي الأخير لتؤكد هذه الخلاصة؛ فمن جهة يتحرك باطرفي للحفاظ على نفوذه الذاتي دون أن يكون لديه رغبة في إعلان انعطافة استراتيجية شجاعة، ومن جهة ثانية يبدو العولقي أضعف من أن ينفذ أجندته الاستقلالية الجريئة في الوقت الحالي، ومن جهة ثالثة فإن ميزان القوى التنظيمي بات يميل بشدة لمصلحة سيف العدل ومقاربته الاستراتيجية على مستوى القيادة المركزية للتنظيم العالمي ولمصلحة رجاله الخلص على مستوى القيادة العامة في اليمن.
وفي المحصلة، منح العولقي باطرفي فرصة أخيرة ولكن الأخير أساء استغلالها في محاولة لكسب الوقت والحفاظ على السلطة بين يديه. وأثبت باطرفي مرة أخرى أنه لا يمكنك عقد صفقة معه ما لم يحصل هو على كل شيء؛ فقد استفادت طهران وحلفائها الحوثيين من هجوم القاعدة الإعلامي عليهم، وحاولوا توظيفه ضمن حملة إعلامية أوسع لتبرئة أنفسهم من تهم دعم الإرهاب التي اكتسبت مؤخرا مصداقية علمية وسياسية بفضل الوقائع المنشورة حول ذلك والموقف الدولي في مجلس الأمن.
أما على الأرض فإن شيئا لم يتغير، ومازال باطرفي يرفض ترجمة خطابه العدائي الى سياسية عملية مؤذية بالنسبة للحوثيين، وقد اكد عمليا تمسكه الراسخ بنهجه المعتاد والذي يركز على مناطق الشرعية ويستهدف قواتها العسكرية والأمنية.
ومن شأن هذه المحصلة ان تنضج اكثر شروط الانفجار الداخلي في تنظيم القاعدة، وقد اكدت مصادر جهادية أن ثمة غضب متفاقم من قبل قيادات التنظيم نظرا لتحركات باطرفي والمجموعة المصرية الذين أفرغوا مقترح العولقي من محتواه.
وقد وصف أحد القيادات الجهادية اليمنية ما جرى بكثير من التشاؤمية قائلا “لقد وقف التنظيم أمام مفترق طرق: اما إعادة هيكلة بشكل جذري لاستعادة التماسك الداخلي والتأثير الخارجي، أو التهرب من المشاكل ومحاولة كل جناح توظيفها لصالحه. لقد مال باطرفي والقيادات المؤثرة الى الخيار الثاني وسوف يكون لذلك عواقب وخيمة قد تؤدي الى تفكك التنظيم أو في أحسن الأحوال إصابته بمزيد من الضعف والاختراق”.
الصراع بين باطرفي ونجل سيف العدل يدور فقط حول من سيقود أنصار إيران في القاعدة. أما بالنسبة لأبناء اليمن الحقيقيين، فإن المعركة الحقيقية تدور حول من سيكون لديه الشجاعة الكافية لإزالة السرطان بينما لا تزال هناك فرصة لإنقاذ الجسد. أبو عمر النهدي تردد في إتخاذ موقف حاسم وربما فقد فرصته. هل سيكون العولقي هو النهدي الجديد أم أنه سيتخذ موقف قوي وهو لا يزال قادرا على ذلك؟