أخبار الآن | ريف إدلب – سوريا (هاديا المنصور)

 

لم تستطع "وداد" 32 عاما، أن تخفي دموع ألمها ومعاناتها عندما بدأت تسرد قصتها مع الأفرع الأمنية التي بدأت إثر اعتقال زوجها "سامر السبع" 37 عاما، ضابط الهندسة البحرية في اللاذقية الذي كان يخطط للانشقاق عن النظام مع عدد من زملائه منذ بداية الثورة السورية.

تقول وداد: "في ذلك اليوم 23/11/2011 ذهب زوجي لقطعته العسكرية كعادته في كل يوم، ولكنه لم يعد". بدأ الخوف ينتاب وداد فهي لا تعرف ما الذي حدث مع زوجها وما الذي ستفعله؟، سارعت للاتصال بقسمه والسؤال عنه فأخبرها أحد الضباط بلهجة ساخرة بأن زوجها ذهب في مهمة خاصة ويتمنى له العودة سالما، عندها شعرت وداد بأن زوجها قد تم اعتقاله وخاصة وأنها تعلم بمخطط زوجها المبني على محاولة الانشقاق.

الاعتقال والبحث

هنا بدأت رحلة وداد في البحث عن زوجها والتقصي عن مصيره فهي قررت منذ البداية بألا تتخلى عنه مهما كانت الأسباب.

كانت تعيش في اللاذقية مع ابنتها "روز" 4 سنوات، بحكم عمل زوجها ودراستها في جامعة تشرين قسم الشريعة،  بينما يعود أصلها هي وزوجها إلى قرية "بسقلا" إحدى قرى ريف إدلب الجنوبي، ورغم أنها بعيدة عن أهلها ولا يوجد من يساعدها فقد توجهت لمختلف الأفرع الأمنية في اللاذقية للسؤال عن زوجها دون نتيجة، إلى أن استدلت على أحد الضباط في البحرية ويدعى "أحمد الشيخ" ظنا منها بأنه سيساعدها باعتباره من منطقتها، ولكنه أمرها بالرحيل مع ابنتها عن المنطقة فورا دون إعطائها أي معلومات عن مكان تواجد زوجها.

لم تيأس وداد وقصدت قائد القوى البحرية "طالب بري" الذي لم يسمحوا لها بمقابلته إلا بعد أن أخبرتهم أن الأمر هام ويمس أمن الوطن.

أكثر من ساعة قضتها وداد في مكتب الأخير وهو يستجوبها ويسألها عن مدينة كفرنبل المجاورة لبسقلا واصفا هذه المناطق بالمتمردة والتي لن تنجو من انتقامهم، وفي نهاية حديثه التهديدي التفت إلى وداد قائلا: "طلبك في دمشق وتحديدا في فرع 93".

تفاءلت وداد وشعرت بالرضا كونها خرجت بنتيجة أخيرا وعرفت مكان زوجها، لم تتردد في قصد دمشق في اليوم التالي بصحبة ابنتها متحدية كل الظروف وإمكانية تعرضها للاعتقال، هذا عدا عن معارضة أهلها لسفرها والذين أمروها هاتفيا بالتوجه إلى بسقلا ولكنها تمردت على أوامرهم: "من لا يستطيع مساعدتي فلا يقف في وجهي ويزيد من معاناتي".

في دمشق وعلى حاجز القابون واجهت وداد توبيخ حاد اللهجة من إحدى الضابطات في اللجان الأمنية، واضطرت لأن تصمت بعد أن وجه إليها أحد العساكر إشارة بعدم الرد لكي لا تقع بالمشاكل.

قصدت الفرع 93 ولكن لم يسمح لها بالدخول، فتوجهت لمكتب أحد المحامين علّه يساعدها، فأخبرها بعد التقصي عن وضع زوجها بأنه لا يستطع مساعدته لأن محاكمته ميدانية وحكمه غيابي، فطلب من وداد أن تقصد القضاء العسكري، وهناك تم اخبارها بأنه محكوم بعشر سنوات غيابيا بدون محكمة.

اللقاء من خلف القضبان

أكبر إنجاز حققته وداد، على حد قولها، هو حصولها على بطاقة زيارة لزوجها السجين حصلت عليها من الشرطة العسكرية في القابون بعد الكثير من العناء والتوسلات.

هناك في السجن الأحمر بصيدنايا حيث يقبع زوجها السجين، لأول مرة بدا زوجها غريبا عنها ولم تستطع وداد معرفته لولا أنه ناداها باسمها من وراء شبك السجن الذي يقف خلفه عدد كبير من السجناء بانتظار رؤية ذويهم.

كان هزيلا بشكل غير طبيعي، شاحب الوجه، بالكاد يستطيع الوقوف على قدميه ومع ذلك كان مكبلا كما بقية السجناء، عندها علمت وداد أي جحيم يعانيه زوجها، كانت مدة الزيارة لا تتجاوز العشر دقائق، حاولت خلالها وداد أن تعرّفه على ابنته التي كبرت في غيابه وطمأنته على أوضاعها وأعطته أملا بأنها ستراه دائما. لم يسمحوا لوداد أن تدخل لزوجها أي طعام أو نقود ما عدا الملابس وتحديدا أن يكون لونها سوداء حتى لا يتم الكتابة عليها وتكون وسيلة للتواصل ونقل الأخبار بين أهل السجين والسجين نفسه.

تقول وداد: "حاولت وضع صورة ابنتي روز بين الملابس لإدخالها لزوجي علها تكون له مؤنسا في سجنه، ولكنهم لم يسمحوا لي بإدخال الصورة وقاموا بتمزيقها"، وعندها خطرت لوداد فكرة بأن تقوم بتصوير ابنتها على ملابس داخلية سوداء ووضعت عليها تاريخ اليوم ليتسنى للسجناء معرفة التاريخ واليوم فلا يوجد لديهم أي وسيلة تواصل مع العالم الخارجي، وفعلا نجحت هذه الخطة في زيارتها الثانية.

قامت وداد بزيارة زوجها كل 45 يوما وهي المدة المسموح بها بين الزيارات، وفي كل زيارة كانت تلاحظ بأن وضع زوجها يتدهور بشكل مستمر، لم تمنعهم وحشيتهم من ضرب المعتقل وإهانته حتى أمام ذويه وفي وقت الزيارة، ومع ذلك لم تتوقف وداد عن زيارة زوجها وطمأنته بتقدم الثوار وانتصاراتهم بطريقة تمويهية وكان يفهم عليها ويبدو عليه الانفراج والأمل.

في كل مرة كانت وداد تقدم كتاب استرحام لزوجها للقضاء العسكري فشمله العفو وبالتالي خروجه من السجن بعد ثلاث سنوات قضاها في سجون النظام.

الخروج من المعتقل

عقم، عظام مفتتة، كسور، تقرحات جلدية وأمراض نفسية هذا هو حال الزوج الطليق، حتى سعادة وداد بحرية زوجها تلاشت بفقدانها لوالدها الذي استشهد في القصف في اليوم التالي.

راح "سامر" يخبر زوجته وذويه عن بعض معاناته في السجن وهو التعذيب اليومي الوحشي خاصة قبل زيارة السجين من أحد ذويه وبعد الزيارة، ومع ذلك لم يكن ليخبر وداد بذلك حتى لا تكف عن زيارته، فهو كان يعيش على أمل هذه الزيارة لرؤية زوجته وابنته.

وجبتان من الطعام الرديء الخالي من الملح تقدم للسجناء يوميا بعد أن يقوم السجانين بتلويثه بأحذيتهم ثم يأمروهم بأكله كله. سجون بظلمة القبر لم يروا الشمس أبدا إلا لحظة دخولهم السجن وخروجهم منه.

في ألمانيا للعلاج

علاج سامر من كل الأمراض والإصابات التي يعاني منها كان صعبا في المشافي السورية لقلة الكوادر والإمكانيات ولذلك قامت وداد ببيع كل ما تملكه لتتمكن من علاجه، وها هو اليوم يقبع تحت العلاج في ألمانيا منذ ثمانية أشهر بينما تنتظر هي أن يستطيع زوجها أن يرسل لها طلبا بلم شمل العائلة بعد كل هذا الفراق أو أن تنتصر الثورة في النهاية ويعود كل المهاجرين إلى أهاليهم وذويهم، وتختم وداد حديثها قائلة: الأمل وحده من يساعدنا نحن السوريون على البقاء، والإيمان العميق بأن هناك صباح مشرق سيبدد ظلام هذا الليل الطويل". 

من معتقلات الأسد إلى ريف إدلب فألمانيا.. رحلة منشق يحلم بلم شمل العائلة