الجزء السادس من سلسلة “فانية وتتدهور”

بالتزامن مع الذكرى الرابعة لانهيار آخر معاقل الخلافة المكانية في قرية الباغوز السورية، في مارس/ آذار 2019، نشر منشقون عن داعش وثائق من أرشيف ديوان الجند، تُظهر حالة الفوضى والفشل العسكري شبه الكامل التي أدت لحصار ما تبقى من مقاتلي داعش وأسرهم في الباغوز من قبل قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، المدعومة بالتحالف الدولي لدحر داعش.

وأكدت الوثائق التي تداولها منشقون عن التنظيم، بما في ذلك قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي”، أن التنظيم فشل فشلًا ذريعًا في العمل العسكري عمومًا وخاصةً في التخطيط والتطبيق وعملية القيادة والسيطرة وهو ما أدى إلى مقتل المئات من عناصر التنظيم وأسرهم بجانب مدنيين من المناطق التي نشط فيها داعش.

كما أثبتت تلك الوثائق أن قادة داعش يفتقرون للكفاءة والقدرة على إدارة التنظيم أو خوض المعارك العسكرية، مبينةً أن الخلافة المكانية الداعشية كانت ستسقط عاجلًا أم آجلًا لأنها لم تكن سوى “وهم” و”خلافة مزعومة ما لبثت أن تبددت في مناطق النشاط الرئيسية للتنظيم، الذي حاول بعد أن تبدد وهمه في العراق وسوريا أن يعيد ترويج تلك المزاعم في القارة الإفريقية، واعدًا أنصاره هناك بأنه خلافته “باقية وتتمدد”، في حين أنها كانت “فانية وتتدهور“، وتُصارع ضد الجميع بما في ذلك أعدائها وخصومها، وحلفائها القدامى- كجماعة بوكو حرام- الذين انفضوا عنها وأعلنوا الحرب عليها مؤخرًا.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

 حبل الكذب قصير

فعبر إصدارات مرئية نشرها الجناح الإعلامي لجماعة أهل السنة للدعوة والجهاد والشهيرة بـ”بوكو حرام“، في يناير/ كانون الثاني 2023، أعلنت الجماعة أنها لن تُوقف قتالها ضد تنظيم داعش وفرعه المحلي المسمى بـ”ولاية غرب إفريقيا” في منطقة حوض بحيرة تشاد، مضيفةً أنها اختارت أميرًا جديدًا لها هو أبو أميمة “باكورا مودو“، الأمير الحالي لبوكو حرام والذي قادها بعد مقتل أبو بكر شيكاو على أيدي مقاتلي داعش في غابات سامبيسا، في يونيو/ حزيران عام 2021.

وجاءت الإصدارات الأخيرة لجماعة بوكو حرام لتضرب رواية ومشروع داعش في غرب إفريقيا في مقتل، فبعد أن أعلن التنظيم على لسان متحدثه الإعلامي (السابق) أبو حمزة القرشي، في يونيو/ حزيران 2021، وأد واستئصال ما أطلق عليه “فتنة الخوارج في إفريقيا” بقتل أبو بكر شيكاو ومجموعة من رفاقه وإعلان مجموعات من جماعته بيعتها لخليفة داعش، عادت بوكو حرام مرة أخرى لتهاجم الفرع المحلي للتنظيم، مؤكدةً أن خلافة داعش في إفريقيا ليست باقية على حالها كما يحاول التنظيم أن يُصور لأتباعه.

وعلى الجهة الأخرى، التزم داعش وآلته الدعائية الصمت، وتجنب الإشارة إلى الاقتتال الجديد بين ولاية غرب إفريقيا وبوكو حرام، محاولًا احتواء الصراعات الجديدة التي تفجرت في نيجيريا ومنطقة حوض بحيرة تشاد، التي كان يُعول عليها لتكون قيادة إقليمية جديدة له بحيث تُجدد آمال انبعاث خلافته المكانية، مجددًا، من إفريقيا، كما تُظهر مراسلات مُسربة من داخل تنظيم داعش.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

رسالة عبد الرؤوف المهاجر عن أبو الوليد الصحراوي

فوفقًا لرسالة بعثها عبد الرؤوف المهاجر/ أبو سارة العراقي، أمير الإدارة العامة للولايات بداعش والمسؤولة عن أفرع التنظيم الخارجية/ البعيدة خارج سوريا والعراق والذي قُتل في غارة أمريكية على طريق “قاح دير حسان” بريف إدلب في 24 فبراير/ شباط الماضي، إلى أبو مصعب البرناوي، والي ما يُعرف بولاية غرب إفريقيا فإن الفرع المحلي لداعش في حوض بحيرة تشاد هو المسؤول عن مكتب الفرقان، أحد المكاتب الخارجية الثمانية المسؤولة عن ولايات داعش وأفرعه الخارجية، وهذا المكتب لا تقتصر حدود نشاطه وسلطاته على نيجيريا ودول جوارها بل تمتد لتشمل فرعي الساحل الإفريقي (ولاية الساحل)، ووسط إفريقيا (ولاية وسط إفريقيا)، والذين كانا تحت إمرة أبو الوليد الصحراوي قبل مقتله في أغسطس/ آب 2021.

إفريقيا وأمل داعش في تأسيس خلافة جديدة

وتُعطي الرسالة السابقة مع رسائل ووثائق داعشية أخرى لمحة عن طموح وخطة داعش في التمدد داخل القارة السمراء، التي بدأها قبل نحو 4 سنوات على انهيار خلافته المكانية في سوريا والعراق، في مارس/ آذار عام 2019.

فحينما بدأ داعش يخسر معاقله واشتدت حملة القصف الجوي التي قادها التحالف الدولي لدحر داعش “قوة المهام المشتركة لعملية العزم الصلب”، والتي رافقتها حملات عسكرية برية قامت بها القوات العراقية في العراق، وقوات سوريا الديمقراطية في مناطق شمال وشرق سوريا، سعى التنظيم للقفز على خسائره وإعلان التمدد في ساحات عملياتية جديدة.

وفي يناير/ كانون الثاني 2015، أكد المتحدث (الأسبق) باسم داعش أبو محمد العدناني، في كلمة صوتية بعنوان: “فيَقُتلون ويُقَتلون” أن التنظيم قبل بيعة جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد “بوكو حرام“، مضيفًا أن الانتصارات التي أعلن عنها خصوم التنظيم في تلك الوقت ليست انتصارات إلا انتصارات وقتية في معارك كر وفر، وإن التنظيم بقي قويًا وتمدد في غرب إفريقيا التي قال إنها ساحة جهادية مفتوحة أمام من فشل في الالتحاق بداعش في العراق وسوريا أو اليمن أو أفغانستان.

وعقب بيعة جماعة بوكو حرام لداعش، في 2015، قامت مجموعات جهادية أخرى في إفريقيا بإعلان ولائها للتنظيم أبرزها تنظيم “المرابطون” فرع أبو الوليد الصحراوي الذي بايع خليفة داعش في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وجماعة الشباب الموزمبيقية- بخلاف جماعة/ حركة الشباب الصومالية المرتبطة بتنظيم القاعدة- التي بايعت داعش عام 2019، لكن التنظيم لم يقبل تلك البيعات رسميًا حتى سقطت خلافته المكانية في سوريا والعراق.

فبعد نحو شهر على سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على آخر معاقل داعش في قرية الباغوز السورية، أواخر مارس/ آذار 2019، خرج خليفة داعش (الأسبق) أبو بكر البغدادي في إصدار مرئي بعنوان “في ضيافة أمير المؤمنين“، معلنًا قبول جميع بيعات الجماعات والتنظيمات التي أدت يمين الولاء للتنظيم، طوال السنوات الماضية.

وأثبت النهج الذي اتبعه قادة داعش أن اللجوء لإفريقيا أتى بدافع الضرورة بعد الخسائر والهزائم التي مُني بها التنظيم في معاقله الرئيسية بالعراق وسوريا، إذ أن قبول تلك البيعات تأخر لنحو 3 سنوات، وجرى اعتمادها فقط بعد سقوط آخر معاقل الخلافة المكانية.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

وعولت القيادة العليا لداعش على إفريقيا لتكون أرضًا بديلة للخلافة المنهارة وملاذًا آمنًا يمكن أن يجمع التنظيم فيه شتاته لفترة بحيث يظهر أمام أتباعه وأنصاره أنه باقٍ ويتمدد في مناطق وولايات جديدة، كما حاول أن يروج التنظيم دائمًا، فضلًا عن أنها اعتبرتها ساحة حرب مفتوحة بينها وبين التحالف الدولي وغيره من خصوم داعش، محاولةً تطبيق نظرية التحرك في الذراعين، وهي أطروحة جهادية أطلقها عبد الله بن محمد، أحد منظري تنظيم القاعدة الحركيين، وتقوم على خوض الحرب الجهادية على جبهات متعددة بحيث تنتظم تلك الجبهات في صورة مركز (سوريا والعراق) وأذرع في إفريقيا وآسيا، ويكون مهمة تلك الأذرع استنزاف الخصوم لأطول فترة ممكنة.

ومع استمرار تراجع داعش وخسارته المتكررة لقيادته وخلفائه وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وأبو إبراهيم الهاشمي، في فبراير/ شباط 2022، أجرى التنظيم في مارس/ آذار 2022، عملية إعادة هيكلة لأفرعه في إفريقيا ليبدو أن نشاطه يتوسع وأن رقعة انتشاره تتزايد.

وشملت العملية السابقة الإعلان عن ولايات جديدة، لكنها لم تكن سوى إعادة تسمية لبعض الأفرع الداعشية وفصل قطاعات منها عن بعضها، ونتج عن إعادة الهيكلة إعلان ولايات: الساحل الإفريقي، وموزمبيق، ووسط إفريقيا، لتنضم إلى ولايتي الصومال وغرب إفريقيا، ويُصبح للتنظيم 5 ولايات معلنة في القارة السمراء.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

بيع الوهم من دابق لإفريقيا

وعلى أرض الواقع، ظلت الولايات الداعشية المعلنة في إفريقيا مجرد ولايات اسمية أو وهمية إلى حد كبير- وهو ما تناولته أخبار الآن بالتفصيل في الجزء الثالث من سلسلة “فانية وتتدهور“-، حتى أن محاولات التنظيم للتركيز على تجربة تأسيس مراكز تابعة للدواوين الداعشية في غرب إفريقيا والتي استعرضها في إصدار مرئي بعنوان “كتاب يهدي وسيف ينصر” نشره أواخر يوليو/ تموز 2022، فشلت واختفى ذكرها من إصدارات التنظيم، وسط انشغاله بصراعه مع جماعة بوكو حرام وخشيته من توسع الانقسامات والانشقاقات في صفوفه، في الوقت الراهن.

وتجسد الولايات الداعشية المعلنة في إفريقيا حلقة جديدة من سلسلة بيع الوهم الذي امتازت به خلافة داعش المزعومة، والتي حاولت توظيف النصوص التراثية في الترويج لنفسها على أنها خلافة لا تقهر وستمتد حتى آخر الزمن، واستغلت في هذا الصدد سيطرتها على بعض القرى والمناطق في سوريا والعراق، ومنها قرية “دابق” الشهيرة، جنوب بلدة الراعي بحلب السورية، التي تمثل رمزية أيديولوجية كبيرة للتنظيم، لدرجة أنها أطلق على مجلته الناطقة بالإنجليزية، والتي توقفت عن النشر منذ سنوات بسبب مقتل المشرفين عليها، اسم “مجلة دابق”، وسمى وكالته الإخبارية “أعماق، وهو اسم ثان تعرف به قرية دابق، كما أنتج أناشيد صوتية مخصوصة للاحتفاء بعد سيطرته على تلك القرية، في عام 2014.

وصورت الآلة الدعائية للتنظيم سيطرته على “دابق” بأنه فصل من فصول الحرب التي تدور في آخر الزمان، وهو نفس المعنى الذي أكدت عليه الأناشيد الداعشية التي أنتجها مؤسسة “أجناد للإنتاج الصوتي”، ولا تزال تتردد حتى الآن والتي صورت أن جيش داعش سيخوض معركة ضد خصومه في سهل دابق وأنه قدم بالموت لأعدائه ولن يسعهم الهرب منه، على حد تعبيرها.

لكن بمجرد أن انهزم تنظيم داعش في دابق، في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، عاد التنظيم ليحاول ترويج الوهم لأنصاره بطريقة أخرى، قائلًا إن المعركة التي انهزم فيها أمام الفصائل السورية المسلحة المدعومة من تركيا، هي “دابق الصغرى” التي تُمهد لمعركة “دابق الكبرى” التي سينتصر فيها داعش ويجبر أعدائه على النزول على شروطه، حسبما ذكرت صحيفة النبأ، الناطقة بلسان التنظيم، في مقال لها بعنوان: “إلى ملحمة دابق الكبرى”، والصادر في عددها الخمسين بتاريخ 13 أكتوبر 2016.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

مقال أسبوعية النبأ عن هزيمة داعش في دابق

وحاول داعش لفت الانتباه عن الهزائم في سوريا والعراق عبر التركيز على ساحة إفريقيا التي اعتبرها أرض الخلافة الجديدة، كما قال المتحدث الإعلامي باسم التنظيم ونائب الخليفة (الأسبق) أبو الحسن المهاجر في آخر كلمة صوتية له نشرتها مؤسسة الفرقان، في مارس/ آذار 2019، والتي أوضح فيها أن قادة الخلافة الداعشية أرادوا أن تتسم حربهم بمطاولة العدو ومشاغلته في كل مكان وشبر من الأرض واستنزاف طاقته ومقدراته، فكلما سُلبوا أرضًا أو نفوذَا ظهروا في صقعٍ آخر، على حد وصفه.

وأكد أبو بكر البغدادي، خليفة داعش (الأسبق) على نفس المعاني التي جاءت في كلمة نائبه ووزيره أبو الحسن المهاجر  في ظهوره المرئي الأخير الذي جاء في أبريل/ نيسان 2019، عقب انتهاء المعارك في قرية الباغوز السورية، معتبرًا أن المرحلة الحالية من الحرب، مرحلة استنزاف ولذا على أفرع داعش في إفريقيا العمل على استنزاف مقدرات خصوم التنظيم المالية والعسكرية واللوجيسيتية.

وبرهنت تلك الكلمات وغيرها أن داعش لديه تطلعات للتغلغل في إفريقيا والاستفادة من حالة الفوضى والهشاشة الأمنية التي تعيشها عدد من دول القارة، وهو ما أكده فلاديمير فورونكوف، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في إحاطة سابقة قدمها لأمين عام المنظمة الدولية.

وتكشف مراجعة أداء أفرع داعش في إفريقيا أن “وهم الخلافة” الذي روجه داعش وقادته انعكس سلبًا على المجموعات المحلية التي بايعت التنظيم وأعلنت نفسها ولايات له في إفريقيا وأدى إلى تقويض تلك المجموعات وخسارتها لقادتها وأفرادها ومعاقلها فضلًا عن أن تلك الأفرع وجدت نفسها في قلب حملة المكافحة الدولية التي يقودها التحالف الدولي لدحر داعش والذي شن عدد من الغارات على أفرع داعش في ليبيا والصومال وغيرها من الدول الإفريقية.

وبفعل تزايد أنشطة مكافحة الإرهاب الإقليمية والدولية واشتداد الحملة ضد أفرع داعش في إفريقيا، خسر التنظيم جل أفراده وقوته في ليبيا، منذ عام 2017، وتداعت الولايات المكانية الثلاث التي أعلنها هناك (برقة، وطرابلس، وفزان)، وصار التنظيم عبارة عن مجموعات متناثرة في الجنوب الليبي وغير قادرة على شن أي هجمات كبيرة كما كان يحدث في السابق.

وكذلك الحال في غرب إفريقيا الذي اعتبر الفرع الأبرز للتنظيم في القارة السمراء لفترة طويلة، إلا أنه تراجع هو الآخر بشكل ملحوظ منذ النصف الثاني لعام 2022، متأثرًا بالصراعات مع “بوكو حرام”، واستمرار حالات التشظي والانشقاقات في صفوفه، وأما في وسط إفريقيا فيحاول التنظيم الإيحاء بأنه قادر على مواصلة الهجمات بالتركيز على استهداف السكان المحليين المدنيين لصرف الأنظار عن الخسائر التي مني بها في مواجهة قوات الجيش الكونغولي والأوغندي.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

وعلى نفس المنوال، فشل التنظيم في التوسع العملياتي داخل الأراضي الصومالية، وتلقى عدد من الضربات منها كان آخرها مقتل بلال السوداني، المسؤول عن تمويل داعش والقيادي بمكتب الكرار وهو أحد المكاتب الخارجية الثمانية التابعة لداعش والموجود في الصومال تحت إمرة “عبد القادر مؤمن“.

وفي موزمبيق، زعم داعش، أواخر عام 2022، أنه تمدد إلى مدينة موسيمبوا دا باريا في شمال كابو ديلغادو في أقصى الشمال الشرقي للبلاد، محاولًا رفع معنويات عناصره والحفاظ على صورة شعاره وعلامته الجهادية القائمة على فكرة “البقاء والتمدد”، دون أن يذكر أنه سبق ودخل تلك المدينة في أغسطس/ آب 2020، قبل أن تهزمه القوات الموزمبيقية الحكومية المدعومة بقوات من مجموعة التنمية لدول الجنوب الإفريقي “ساداك”  وتطرده من المدينة.

ويبدو من كل ذلك، أن مشروع داعش لبعث الخلافة المكانية في أرض إفريقيا، تعثر وتلقى صدمات تكتيكية عديدة أدت إلى فشله في تأسيس ولايات حقيقية داخل الدول التي ينشط فيها بالقارة، وإن بقي للتنظيم وجود ونشاط في العديد منها بفعل عدد من العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية وأيضًا التغيرات المناخية التي استفاد منها في دول حوض بحيرة تشاد وغيرها، لتظل “الولايات الأمنية” التي يصفها مقاتلو وقادة داعش السابقين بأنها ولايات وهمية، لا تمتلك سيطرة مكانية فعلية أو تمكين حقيقي من منظور الفقه الحركي للتنظيم، هي التي تحظى بالتركيز الداعشي مع تراجعه المتواصل.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

أبو عيسى المصري يكشف ولايات داعش الوهمية

استنزاف قدرات أفرع داعش في إفريقيا

وبدلًا من أن يُخصص التنظيم المركزي موارد وإمكانيات لدعم الأفرع الخارجية في إفريقيا، قام التنظيم باستنزاف قدرات وموارد هذه الأفرع لتمويل نفسه ودعم قيادته العليا كي تُحكم السيطرة على تلك الولايات أو الأفرع، وذلك بحسب عدد من الوثائق والمراسلات المسربة من داخله.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

رسالة عبد القادر مؤمن لأمير الولايات البعيدة

وأشارت رسالة أرسلها عبد القادر مؤمن، أمير فرع داعش في الصومال والمسؤول عن مكتب التنظيم هناك المعروف بـ”مكتب الكرار” إلى أن أفرع داعش الإفريقية تمول عمليات التنظيم المركزي وتنقل الأموال التي بحوزتها إلى خارج القارة السمراء.

وبينت الرسالة، والتي جاءت ردًا على توجيه من عبد الروؤف المهاجر/ أبو سارة العراقي الأمير السابق للإدارة العامة للولايات (إدارة الولايات البعيدة سابقًا) أن فرع داعش في الصومال تلقى توجيهات من “المهاجر” بنقل أموال إلى تركيا واليمن وشبه الجزيرة العربية، كما كُلف بالتواصل مع الفرع الليبي “ولاية ليبيا” ودعمه.

ولفتت الرسالة إلى وجود صعوبات تواجه عملية نقل الأموال التي طلب أمير الإدارة العامة للولايات الداعشية نقلها، لكن عبد القادر مؤمن وعده بالعمل على ذلك مع المجموعة المسؤولة عن الجانب الاقتصادي في داعش بالصومال.

وفي نفس السياق، قالت قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي” والتي يديرها منشقون عن داعش، إن مكتب الكرار المشرف على أفرع داعش في ولاية الصومال، وولاية وسط إفريقيا (الكونغو الديمقراطية) له فضل كبير في تمويل العديد من الولايات الداعشية والقيادة المركزية للتنظيم التي تتعامل مع فرعه الصومالي وكأنه “صرافة آلية” فقط.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

قناة فضح عُباد البغدادي والهاشمي تقول إن داعش يتعامل مع فرعه الصومالي وكأنه صرافة آلية

وبحسب الرسالة والشهادة السابقة وغيرها فإن القيادة المركزية لداعش تستفيد من الأفرع الموالية لها في إفريقيا لتمول نفسها وتقدم لبقية الأفرع الدعم كي توحي أنها تدعمهم نظير ولائها لها، في حين أن تلك الأموال تُحول من ولايات التنظيم في إفريقيا، التي تُستنزف لخدمة مشروع “حجاجي داعش العراقيين” والذين كان على رأسهم عبد الرؤوف المهاجر.

وعلى الرغم من اضطلاع أفرع داعش الإفريقية بأعباء كبيرة للحفاظ على ما تبقى من مشروع التنظيم، إلا أن تعامل القيادة المركزية معهم يبقى عنصريًا إلى حد كبير، إذ يُسيطر “الحجاجي العراقيون المجهولون” على مقاليد الأمور في التنظيم- وهو ما استعرضته “أخبار الآن” في الجزء الثاني من سلسلة “فانية وتتدهور”- ويرفضون نقل القيادة أو منح سلطات حقيقية لنظرائهم الأفارقة.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

وألمح منشقون عن داعش من بينهم قناة “فضح عُباد البغدادي والهاشمي“، في وقت سابق، إلى أن العراقيين أو حجاجي داعش يعتقدون بأن الزعامة والرئاسة حق لهم دون غيرهم وأن أول شرط لمن يتم اختياره لإمارة التنظيم أن يكون عراقي الجنسية، كما أن أبو سارة العراقي/ عبد الرؤوف المهاجر لم يكن ليسمح، قبل مقتله، بأن تنتقل قيادة داعش إلى غير العراقيين- سواء كانوا أفارقة أو غير ذلك- ولن يقبل أيضًا بتولي “خليفة” غير عراقي إمارة التنظيم حتى لو اقتضى الأمر أن يبقى منصب الخليفة شاغرًا أو صوريًا لفترة.

وفي الواقع، لا تُعد عنصرية “حجاجي داعش” ضد القادة الأفارقة وغيرهم من الأجانب أمرًا جديدًا، فالتنظيم ككل يعمل لخدمة رؤية وطموح القادة العراقيين الذين تبقى هوياتهم الحقيقية غير معروفة لمقاتلي داعش، أما القادة غير العراقيين فيتم الاستفادة منهم بحسب مواقعهم لتثبيت أركان التنظيم، وبعد ذلك يتم التخلص منهم إما بعزلهم وتهميشيهم أو إرسالهم للجبهات المشتعلة حتى يُقتلوا أو بإسقاط رمزيتهم وغيرها من الميكانيزمات التنظيمية التي اتبعتها قيادة داعش العليا، على مدار السنوات الماضية، في حين يتخلص الحجاجي العراقيون من كل من يخرج عن الخط الذي رسموه للتنظيم سواء كان هذا الأمر عن طريق إبعاده من المشهد وسجنه أو حتى قتله كما حصل مع أبو بكر شيكاو، منتصف عام عام 2021.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

باحثات: علاقة داعش وأفرعه في إفريقيا “براجماتية”

من جانبها، قالت نسرين الصباحى، الباحثة بوحدة الدراسات الإفريقية في المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، إن هناك عوامل عديدة وراء نجاح داعش في إيجاد موطئ قدم في بعض وفي مقدمتها ضعف الدول الإفريقية وانتشار ظاهرة الفساد؛ إذ يُفاقم الفساد المستشري في أفريقيا ظاهرة الإرهاب، وبالتالي تكون النتيجة حلقة مفرغة من الضعف والانهيار تشبه إلى حد كبير ما حدث في العراق وأفغانستان، كما تُسهل الحدود المليئة بالثغرات الأمنية في القارة الأفريقية نقل الأموال والأسلحة من الموردين غير الشرعيين إلى التنظيمات الإرهابية فعلى سبيل المثال، يعبر مسلحو داعش في غرب أفريقيا بسهولة الحدود بين نيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون لتنفيذ الهجمات الإرهابية.

وأضافت “الصباحي” في تصريحات خاصة لـ”أخبار الآن” أن داعش يسعى لاستغلال التوترات والصراعات الإثنية والعرقية والدينية وتفاقم مستويات الفقر والتداعيات السلبية للتغيرات المناخية والمناطق غير الخاضعة للحكم في معظم الدول الأفريقية وسعى جاهدًا لجعل القارة السمراء جزءًا من رؤيته لخلافة عالمية، لافتةً إلى أن ما يقرب من نصف القتلى والمصابين في الهجمات الإرهابية لداعش حول العالم في عام وقعت في إفريقيا جنوب الصحراء، وذلك وفق إحصاء سابق لمؤشر الإرهاب العالمي في عام 2021، وهذا يعني أن التنظيم يولي اهتمامًا متزايدًا للقارة لا سيما بعد انكسارته الأخيرة في سوريا والعراق.

وأوضحت الباحثة بوحدة الدراسات الإفريقية في المركز المصري للفكر أن داعش يتبع في غرب إفريقيا إستراتيجية تقوم على استهداف مؤسسات الدولة والجماعات المسيحية، بيد أن دوافع انتماء كل جماعة محلية لداعش المركزي الذي يُشار إليه باسم  (ISIS-Core) مختلفة إلى حد كبير فالجماعات الجهادية التي بايعت داعش في ليبيا على سبيل المثال اتخذت تلك الخطوة بدافع أيديولوجي، بينما سعت نظيرتها في الصومال إلى الاستفادة من راية التنظيم وعلامته الجهادية.

وتابعت: في حين تعهد المنتسبون لداعش في غرب أفريقيا وجمهورية أفريقيا الوسطى بالولاء له لأنهم توقعوا فوائد فردية أو جماعية مثل الشعبية العالمية من التحالف مع التنظيم الأكبر، أما في منطقة الساحل الأفريقي بغرب أفريقيا، فانفصلت مجموعة من قادة تنظيم القاعدة عن هذا التنظيم وتعهدوا بالولاء لداعش لاعتقادهم أنها قوة أكثر اتساقًا مع نهج الجهادية العالمية.

وأشارت نسرين الصباحي إلى أن داعش يتبع أسلوبًا براجماتيا للتمدد في إفريقيا ويحاول كسب ولاء قطاعات من السكان المحليين لإنشاء قاعدة دعم من المحتمل أن تكون بمثابة بيئة خصبة للتجنيد، وهذا لا يعني أنه لا يُشكل خطرًا على المدنيين أو السكان المحليين أو أنه توقف عن فرض رؤاه الحركية المتشددة.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

وعن العلاقات بين داعش المركزي وأفرعه في إفريقيا، قالت الباحثة بوحدة الدراسات الإفريقية إن الروابط بينهما ليست قوية بشكل عام، إذ لم يمارس التنظيم بأي حال من الأحوال أي شيء يقترب من القيادة والسيطرة على هذه بل كان اتجاه العلاقة عكسيًا إلى حد ما مؤخرًا، إذ اعتمد التنظيم على الأفرع التابعة له في أفريقيا لإظهار الاستمرار والانتشار.

وألمحت الباحثة نسرين الصباحي إلى أن داعش يستغل هذه الروابط في تسهيل تحويلات التمويل بين الأفرع، وتُوفير التدريب لأعضاء الولايات الأخرى، كما يظهر من المراسلات بين الإدارة العامة للولايات وبين أمراء الأفرع الإفريقية، مؤكدةً أن تأثير التنظيم المركزي على هذه الأفرع يبقى محدودًا نتيجة اللامركزية والاستقلالية التي تتمتع بها، لا سيما في القيادة واتخاذ القرارات أو في الحركة والتمويل.

وبينت “الصباحي” أن أفرع داعش في إفريقيا تجمع الأموال عبر طرق متنوعة مثل السرقة وابتزاز السكان المحليين والاختطاف للحصول على فدية، كما أن التنظيم استخدم ميسرين في أفريقيا لتحويل الأموال بين شبكاته وداعميه في جميع أنحاء القارة، بما في ذلك في جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق وجنوب أفريقيا وأوغندا.

وذكرت الباحثة في المركز المصري للفكر أن الجماعات المحلية أن الجماعات الجهادية المحلية التي بايعت داعش في إفريقيا طمحت إلى الحصول على مزايا متعددة، بما في ذلك زيادة الشعبية في مناطق عملياتها، وفرصة أكبر للتمويل وتجنيد المتابعين، والاعتراف على نطاق أوسع، لكن الواقع على الأرض أثبت أن الخلفية العملياتية للتنظيم المركزي وأفرعه مختلفة، كما أن تلك الأفرع تلقت دعمًا محدودًا أو لم تتلق دعمًا من الأساس باستثناء الدعم الدعائي الذي تظهر من خلاله في الدعاية التي ينشرها ديوان الإعلام المركزي للتنظيم، منهيةً حديثها بالقول إن داعش المركزي لم يمنحهم ما يرجونه لكن الجماعات المرتبطة به تسعى لتصوير نفسها كجزء من كيان جهادي عالمي لخدمة مصالحها، لكن مع ذلك تبقى مستقلة فعليًا عن التنظيم إلى حد كبير.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

وبدورها، اتفقت الدكتورة آيات عبد العزيز، الباحثة في الشؤون الأفريقية ومدير وحدة التعاون الدولي والمؤسسي بمركز إيجبشن إنتربرايز، مع ما ذهبت إليه الباحثة نسرين الصباحي، مؤكدةً أن السياق والظروف الحالية في إفريقيا تُعطي للتنظيم فرصة كبيرة للتمدد والانتشار بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها القارة السمراء، مضيفةً أن العلاقة بين داعش وأفرعه في القارة علاقة براجماتية قائمة على المصالح المتبادلة.

وأردفت “عبد العزيز” في تصريحات خاصة لـ”أخبار الآن” أن التنظيم استغل الجماعات الجهادية المحلية حتى يوسع شبكته العالمية ويقول إن تلك الجماعات جزء منها، فيما تستفيد بعض تلك الجماعات من الدعم الفني الذي يُقدمه داعش لها، لكن استفادة التنظيم المركزي تبقى أكبر لأنه ينقل علامته الجهادية إلى مناطق بعيدة دون مجهود كبير من قيادته العليا.

وأشارت الباحثة في الشؤون الإفريقية إلى أن الجماعات الجهادية المحلية التي بايعت داعش في القارة السمراء ما زالت تحظى باستقلال تشغيلي بعيدًا عن التنظيم المركزي، مضيفةً أن التنظيم لا توجد له قواعد دعم حقيقية في إفريقيا وإنما تمدده فيها مرتبط بحالة ضعف الدولة في عدد من أقاليم القارة.

 

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

وأوضحت الدكتورة آيات عبد العزيز أن داعش المركزي يتمكن من جذب أنصاره له في مختلف أنحاء القارة طالما كان قويا، لكن أفوله وضعفه الذي حدث خلال السنوات الأخيرة، وخصوصًا بعد انهيار الخلافة المكانية بسقوط قرية الباغوز في مارس/ آذار 2019، يجعل مريديه في إفريقيا ينفضون عنه.

وتابعت: التنظيم في إفريقيا اعتمد على الجهاديين الذين انشقوا عن جماعاتهم الأصلية كالمنشقين عن القاعدة في المغرب الإسلام، والمنشقين عن جماعة الشباب الصومالية وغيرهم، وسعى داعش للحفاظ على ولاء هذه المجموعات عن طريق الدعم الذي يُقدمه لهم، لكنه في الفترة الأخيرة يُعاني من الارتباط والضعف ولديه مشكلات في التدفقات المالية وبالتالي يسعى للحصول على الدعم من الجماعات الجهادية المحلية ويسعى لجذب جماعات جديدة لبيعته.

وأكدت الباحثة في الشؤون الإفريقية أن التنظيم يبحث عن موطئ قدم يُعيد من خلاله خلافته المكانية المنهارة، وهو يوظف أفرعه الإفريقية/ الجماعات الجهادية المحلية في القارة في خدمة أهدافه، بيد أن علاقة المصلحة ستبقى حاكمة لإطار التعامل بين التنظيم وأفرعه، فإذا دعم التنظيم المركزي الأفرع الأكثر احتياجًا أو فقرًا فإنه ستظل تدين له بالولاء والعكس صحيح.

سراب داعش .. أوهام الخلافة المتدهورة من دابق إلى إفريقيا

الخلاصة

لجأ حجاجي داعش الذين ينتمي أغلبهم إلى رجال نظام البعث العراقي المنحل، كما تقول المعلومات المتاحة عنهم، إلى إلهاء أتباع ومناصري داعش بعد انهيار خلافته المكانية وخسارته الأراضي التي سيطر عليها، في الفترة من 2014: 2019، عن طريق التلويح بتمدد الخلافة في إفريقيا وآسيا، وهو التمدد الذي أخذ طبعًا شكليًا إلى حد ما.

وعولت القيادة العليا للتنظيم على المجموعات الجهادية المحلية في القارة السمراء والذين يوصفون في بعض الأحيان، بـ”عصابات الدراجات النارية الإفريقية”، محاولين إعطاء صورة زائفة عن أن الخلافة المكانية التي انهارت في العراق وسوريا وسقطت رمزيتها، مرة تلو أخرى، بعد سقوط سردياتها التي روجتها ومن بينها أنها ستبقى حتى آخر الزمان لأنها ملكت قرية دابق، التي تحظى برمزية كبيرة في المخيال العام للجهاديين، فخسرت دابق وبعدها ما تبقى من ولايتها المكانية في سوريا والعراق وغيرهما.

على أن التعويل الداعشي على الجهاديين الأفارقة اتسم بطابع براجماتي بحت، ففي الوقت الذي توارى فيه “حجاجي داعش” عن الأنظار ومكثوا في ملاذات آمنة نسبيا، دعوا مقاتليهم في إفريقيا إلى بذل أروحهم وأموالهم من أجل إعادة بعث الخلافة من القارة السمراء، في حين أن هؤلاء الحجاجي يرفضون أن يتولى الأفارقة أي مناصب في إطار القيادة العليا لداعش ويبقون غير العراقيين خارج عضوية مجلس الشورى (أهل الحل والعقد)، على الرغم من أن وثائق ومراسلات داعش تؤكد على الدور الكبير الذي تلعبه ولايات داعش في إفريقيا في تمويل التنظيم المركزي نفسه، وهذا يعني أن داعش باع الوهم لأتباعه تحت مسمى “الخلافة” دون أن يمنحهم مقابل حقيقي لتضحياتهم وقتالهم المستمر في سبيل دعاويه.

لمزيد من التفاصيل: