مؤخراً حصل أمر لطالما كان المراقبون والمتابعون لقضية بناء المدارس الصينية في محافظات العراق، يتوقعونه خصوصاً مع الحديث عن شبهات تحوم حول تفاصيل تلك الصفقة التي يمتزج فيها الفساد مع التلاعب بسلامة الطلاب وحياتهم.

فالأمر ليس عادياً عندما نتحدث عن انهيار سقف مدرسة هي قيد الإنشاء في محافظة السماوة جنوب العراق، وذلك نتيجة خلل في البناء. الصورة أدناه تبيّن بوضوح خطورة الأمر، إذ سرعان ما يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي: ماذا لو كانت عملية بناء المدرسة انتهت بالفعل، وبدأ الطلاب يرتادون ذلك المبنى، وبينما هم يتلقون دروسهم، انهار السقف على رؤوسهم؟ هل تتخيلون حجم الكارثة التي قد تقع؟

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

فماذا في تفاصيل صفقة البناء تلك لآلاف المدارس في العراق؟ ما الغرض من غياب الجودة في عملية الإنشاء؟ لماذا لا تهتم الصين في الجودة في بناء مدارس العراق كما لو كانت في الصين؟ سؤال آخر غاية في الأهمية، ما الذي يدفع المقاولين العراقيين إلى عدم إعطاء معايير المتانة والجودة الأولوية، فيما مَنْ سيرتاد تلك المدارس هم أبناء العراق؟

في سياق التعليق على حادثة انهيار سقف تلك المدارس، أعلنت الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي عن منع الشركة التي تشيّد البناء من العمل في الأبنية المدرسية الأخرى، وأرسلت وفداً فنياً من قبلها للإطلاع على الأسباب التي أدّت لانهيار أجزاء من المدرسة قيد الإنشاء. ذلك في الإجراء الرسمي حيث غالباً ما تكون الأمور شكلية، فيما المثير للقلق أنّ المختصين اعتبروا أنّ انهيار أجزاء من المدرسة يدلّ على رداءة المواد المستخدمة، وأرجعوا الأمر كذلك إلى عامل البناء التقليدي.

 عقود المدارس المشبوهة

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

الكاظمي يضع حجر الأساس لمشروع المدارس الصينية في العراق

حاجة العراق من الأبنية المدرسية

في 18 حزيران العام 2022، وقف رئيس حكومة تصريف الأعمال آنذاك مصطفى الكاظمي أمام قطعة حجرية سوداء وإلى جانبه عدد من المسؤولين، ليعلن وضع حجر الأساس لمشروع بناء 1000 مدرسة من أصل 8000 آلاف، وذلك ضمن العقد الذي وقعته حكومته مع شركتي “باور تشاينا” و”سينوتيك” ضمن اتفاقية إطار التعاون بين الحكومتين العراقية والصينية المعروفة بـ النفط مقابل الأعمار

في تلك الفترة كان الصراع السياسي محتدماً داخل البلاد حول نتائج الانتخابات بين الغريمين الشيعيين، التيار الصدري والإطار التنسيقي، والذي وصل فيما بعد إلى حدّ الاقتتال المسلّح. بطبيعة الحال، لا يحقّ لحكومة تصريف أعمال توقيع اتفاقيات استراتيجية وفق الخبير القانوني محمد القاضي الذي أوضح لـ “أخبار الآن“، أنّه عند توقيع الاتفاقية لم يكن مجلس الوزراء يمتلك صلاحية التوقيع كون ذلك الأمر لا يدخل في إطار مهام الحكومة المحدودة الصلاحيات وفقاً للمادة 42 من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم 2 لسنة 2019، والتي تدرج التوقيع على الاتفاقيات ضمن الصلاحيات، وهناك فرق بين الصلاحيات والمهام، وحكومة تصريف الأعمال تملك حقّ المهام لا الصلاحيات كما يرى القاضي، واصفاً التوقيع على اتفاقية مشاريع بناء المدارس الصينية من قبل حكومة تصريف الأعمال بالمخالفة القانونية والدستورية… وذلك كان أوّل الملاحظات الخلافية والجدلية والقانونية  حول مشروع المدارس الصينية التي وقعتها حكومة الكاظمي

خارطة بناء المدارس

المتحدث باسم الأمانة العامة حيدر مجيد أوضح لـ “أخبار الآن”، أنّ توزيع الأبنية المدرسية على المحافظات تمّ بموجب 3 معايير حددتها اللجنة العليا للأبنية المدرسية النموذجية، وهي، الكثافة السكانية، والمدارس الطينية، والأبنية التي تحتوي على دوام مزدوج. وأضاف أنّ توزيع المدارس النموذجية سيكون على النحو التالي: محافظة بغداد 144 مدرسة، كربلاء 44 مدرسة، ذي قار 106 مدرسة، النجف 40 مدرسة، البصرة 86 مدرسة، ميسان 52 مدرسة، واسط 48 مدرسة، المثنى 53 مدرسة، الديوانية 61 مدرسة، بابل 45 مدرسة، الأنبار 51 مدرسة، ديالى 56 مدرسة، صلاح الدين 78 مدرسة، كركوك 44 مدرسة، نينوى 92 مدرسة.

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط في العراق بيّن أنّ عدد المدارس الابتدائية الحكومية والأهلية والدينية، بلغ 15965 مدرسة ابتدائية لعام 2017-2018، مشيراً إلى أنّ المدارس الحكومية تشكل نسبة 93.3 %، والأهلية نسبة 6.5 % والمدارس الدينية نسبة 2 %، بينما تقول وزارة التربية إنّ العراق بحاجة إلى أكثر من 12 ألف مدرسة لاستيعاب أعداد الطلاب الذين يقارب عددهم 11 مليون طالب في المراحل كافة.

كُلفة مضاعفة في خزائن الصين

وفق العقد الذي أُبرم بين الحكومة العراقية والشركة الصينية، فإنّ تكلفة المدرسة الواحدة تراوحت ما بين مليارين إلى 3 مليارات وفقاً لعدد صفوف المدرسة الواحدة، وهي تكلفة يرى مقاولون أنّها مبالغ بها إلى حدّ يثير التساؤلات حول وجود شبهات كبيرة في ذلك العقد، فالشركات الصينية أحالت العمل إلى مقاولين ثانويين مباشرة بعد توقيعها العقد، بتكلفة تصل إلى نصف المبلغ المدفوع إلى الشركة الصينية، ما أثار الكثير من علامات الاستفهام عن منح العقد للشركات الصينية في الأصل.

يقدّر  المهندس عبد الرحمن الازيرجاوي، وهو مدير عام سابق في وزارة الاعمار والاسكان، أنّ تكلفة بناء المدرسة الواحدة لا تتجاوز المليار إلى مليار ونصف، وهو السعر المناسب لبناء مدرسة بأعلى المواصفات، كما أنّ السعر المحال من الحكومة لبناء المدارس في العام 2011 بلغ مليار إلى مليار وربع، وحينها اعترض الكثيرون لناحية أنّ ذلك السعر مرتفع جداً. وأوضح أنّ قبول المقاولين الثانويين بنصف قيمة العقد المحال، يُظهر بشكل واضح أنّ التكلفة الحقيقية لا تتجاوز النصف، باعتبار أنّ المقاول الثانوي قبل بالنصف مع احتساب إيرادات الربح.

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

 

في 7 نوفمبر العام 2022، وبعد قرابة 5 أشهر على البدء بمشروع المدارس الصينية، نشر عضو مجلس النواب العراقي عن محافظة كربلاء ضياء هندي مقطع فيديو يجمعه مع أحد المقاولين المحليين، والذي حصل على عقد لبناء المدارس منفرداً قبل المشروع الصيني. وقد نشر الفيديو تحت عنوان “الكشف عن الفساد في مشاريع العقد الصيني لبناء المدارس التي وقعها الكاظمي”.

خلال الحديث مع المقاول، أجرى هندي حواراً يُظهر حجم التكلفة المرتفعة التي حصلت في العقد الصيني، ويبيّن هندي أنّ العقد المحلّي وقّع بمليار و237 مليون دينار عراقي فقط، وذلك يشمل البناء كاملاً إضافة إلى آثاث المدرسة، بينما وصلت قيمة عقد المدرسة الصينية إلى 3 مليارات دينار  من دون تأثيث، كما دار في الحوار بين النائب والمقاول.

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

المقاول الثانوي

أخبار الآن” تمكّنت من الحصول على تسجيل سرّي، وهو حديث دار بين أحد موظفي الأمانة العامة لرئاسة الوزراء إبّان حكومة الكاظمي العام 2022، وأحد المقاولين قبل تاريخ توقيع العقد، وفيه أنّ الموظف الحكومي يبلغ المقاول بضرورة إحضار التوكيلات وتجهيز الأوراق المطلوبة للحصول على عقود ثانوية من الشركات الصينية حال توقيعها العقد، وذلك ما يؤكّد أنّ العقد الصيني وُزّع كحصص لجهات وأحزاب نافذة حتّى قبل أن يتم التوقيع والشروع بعقد المدارس الصينية، ما يخالف قرارات سابقة اتخذتها الحكومة العراقية، وتحديداً في عهد حكومة العبادي 2014-2018 بمنع الإحالة على مقاول ثانوي بعد نماذج الفشل لمشاريع متلكئة سابقة اعتمدت على أسلوب المقاول الثانوي.

وبالتالي فإنّ الجهات المعنية والشركات الصينية قد خرقت العقد قبل توقيعه كون العقد يحتوي على نص واضح وصريح، يمنع التنازل عن العقد لجهة ثانية مطلقاً، كما أنّه يمنع إحالة أجزاء  من العقد على مقاولين ثانويين إلّا بعد موافقة الحكومة العراقية، لكن ما حصل ووفق تسجيلات ووثائق حصلت “أخبار الآن” عليها، يظهر أنّ المشروع قد بيع معظمه عبر التحويل إلى مقاولين ثانويين حتى قبل توقيع العقد، وأنّ الشركات الصينية لم تكن سوى مجرّد واجهة إسمية تحصّلت على نسب الربح، ثمّ حوّلت المشاريع إلى شركات ومقاولين ثانويين، قبل توقيع العقد أو الشروع بالبناء.

يقول الموظف الحكومي للمقاول العراقي التالي: حاج عليك تحضير سي في (CV) لكل شركة أحضر منها نسختين على ورق، واجلب معها رسالة الاستعداد لتنفيذ العمل لكلا الشركتين، أحدهما باور شاينا والأخرى لسينوتك، وتضع مع كل سي في (CV) رسالة استعداد، وأضف إلى الملف وكالة العمل إضافة الى التخويل الرسمي من الشركة على فورمة العمل الخاصة بهم، وكذلك العقد، ويجب أن تضع عقدين كلّ واحد في ملف أحدهما لباور شاينا والآخر لسينوتك، وبالتالي سيكون لدينا ملفين كلّ ملف فيه عقد ورسالة استعداد ووكالة وتحويل وسي في خاص بالشركة، وهكذا سنضمن العمل مع الطرفين  في محافظة ديالى ومحافظات الفرات الأوسط. تمام حاج يجب علينا أن نستعجل من أجل أن نضبط اأامر ونحصل على العمل  لأنّه لم يتبقَ لنا وقت كثير  لأنّ العقد وقّع اليوم”.

أحلام الخبرات والمواصفات الصينية المنتظرة

تمّ الترويج للإتفاقية الصينية وأولى ثمارها مشروع المدارس، على أنّها نقلة نوعية ستعمل على جلب “الخبرات الصينية الجبّارة” إلى العراق وتطوير المهارات، وتقدّم أحدث التقنيات والمواصفات، لكن ما أنْ انطلق مشروع المدارس الصينية وبدأت شركات المقاول الثانوي بالعمل، حتّى ظهر بشكل واضح غياب شبه تام للكوادر الصينية… فبعد أشهر من إطلاق المشروع، بدأ يطفو على السطح الكثير من الشكاوى حول المواصفات وطرق بناء تلك المدارس.

فريق برنامج “بالعين المجردة” تواصل مع أحد المقاولين في محافظة كربلاء، والذي يعمل كمزوّد للمواد الأولية المستخدمة في بناء المدارس، للإطلع على حقيقة ما يجري في تلك المشاريع. المقاول الذي طلب عدم كشف عن هويته حفاظاً على سلامته، أبلغنا أنّ “الشركات الصينية عمدت إلى منح المقاولات إلى شركة صينية ثانوية، وتلك الشركة منحت المقاولات إلى شركات ثانوية أخرى عراقية، مؤكّداً أنّ عدد ممثلي الشركات الصينية المتواجدين في المحافظة محدود جدّاً، وبعضهم ليس مهندساً ولا يرتقي لتسميته فنّياً أصلاً”.

ومن خلال احتكاكه بهم عند مراجعته لغرض العقود، تبيّن له أنّ “البعض منهم كان يعمل في مجال الخدمات وبعيد كلّ البعد عن مجال المشاريع والبناء، ولا يمتلكون أيّ خبرة أو مهارة لا في الجانب الفنّي لعمليات البناء ولا حتى الإداري”. وشخّص وجود “مشاكل كبيرة تخللت العمل سواء في بناء الهياكل أو الأسس، وأنّ المهندسين المحليين هم من بدأوا يصححون للكوادر الصينية من خلال زيارتهم للمشاريع حول الأسس والهياكل ومواد البناء المستخدمة، والتي يفضل الجانب الصيني أن تكون من أرخص المواد بغض النظر عن المواصفات والجودة”.

انهيار قبل الاكتمال

بالتزامن مع إعداد ذلك التحقيق، انهارت أجزاء من إحدى المدارس الصينية قيد الإنشاء في محافظة السماوة جنوب العراق، وعلى الأثر أعلنت الأمانة العامة لمجلس الوزراء عن منع الشركة المجهّزة لهيكل البناء من العمل في الأبنية المدرسية الأخرى، وأرسلت وفداً فنياً من قبلها للإطلاع على الأسباب التي أدّت لانهيار أجزاء من المدرسة.

الخبير في شؤون النزاهة وقضايا الفساد سعيد ياسين، وهو عضو سابق في اللجنة العليا لمكافحة الفساد التي شكلتها حكومة عادل عبد المهدي العام 2018، قال لـ”أخبار الآن” إنّ “ذلك الأمر يثير الشبهات ويؤكّد وجود خيوط تقود إلى غاية توصل إلى الفساد”. وسأل: “إذا كانت التصاميم عراقية والإشراف عراقي، فما الغاية من وجود الشركات الصينية وحصولها على مشروع المدارس بأسعار مرتفعة؟ وهل كانت مجرد وسيط لمنح كلّ تلك الأموال والحصول عليها لحساب جهات معينة”.

المقاول الثانوي وتعثر السداد

وأكّد ياسين أنّ “هناك شكاوى تصله باستمرار من قبل مقاولين ثانويين يعملون مع الشركات الصينية حول عدم استلامهم للدفعات المالية المتفق عليها مع الشركات الصينية، وأنّهم بدأوا يشعرون بالمعاناة لعدم استلامهم مستحقاتهم المالية لأشهر عديدة تحت ذريعة تأخّر الحكومة بالدفع من الحساب المالي الذي توضع فيها أموال النفط المباع للصين ضمن اتفاقية الاطار الاستراتيجي الصيني العراقي

كلام ياسين أكّده كلام المقاول الثانوي في كربلاء، الذي تواصلت معه “أخبار الآن“، والذي عبّر عن تذمّره واستيائه من عدم استلامه مستحقاته منذ أكثر من 6 أشهر، مبيّناً أنّ الشركة الصينية تتذرع في كلّ مرّة بحجة مختلفة، آخرها عدم قدرتها على صرف المستحقات مباشرة، ويجب عليه جلب حساب مصرفي أو شركة لديها حساب من أجل تحويل الأموال إليه، وذلك ما لم يكن ضمن بنود العقد الموقع معه.

كما أشار المقاول إلى أنّه وعند مراجعته في مقرّ الشركة الصينية للمطالبة بالمستحقات المالية، كان يجد العديد من المقاولين الآخرين الذين يشكون من الأمر نفسه، ويتجمهرون عند مقر الشركة للمطالبة بمستحقاتهم.

وأكّد المقاول أنّ الدفعات السابقة التي حصل عليها بعد معاناة، كانت بالدولار، وذلك ما يخالف قرارات مجلس الوزراء العراقي بأن تكون كلّ عمليات الدفع للمشاريع بالدينار، وهو ما كلفه خسائر كبير على اعتبار أنّه يقوم بشراء المواد الأولية بالدينار العراقي وبأسعار مرتفعة، بينما يتم الدفع بالدولار، فيما الدولار في العراق يتذبذب بين الارتفاع والهبوط الحاد، ما زاد من معاناته جراء خسارته

عقود مجحفة وكلف مضاعفة

أحيطت العقود الموقّعة بين الحكومة العراقية والشركات الصينية – التي تدار من قبل الحكومة الصينية – بسرّية تامة وذلك تماماً كما تجري العادة مع كلّ العقود التي توقعها الصين مع أي دولة أخرى، مثل أوغندا التي كان حصل برنامج “بالعين المجردة” على نسخة من عقد المطار. في العراق تمذ توقيع نسخ مكرّرة من العقد بشكل منفصل، لكلّ محافظة عقد، وبعد بحث وتقصٍّ تمكّنت أخبار الآن من الحصول على أحد تلك العقود الموقّعة بين الأمانة العامة لمجلس الوزراء وشركة باور شاينا الصينية، لبناء 44 مدرسة في محافظة كربلاء جنوب غرب بغداد، بكلفة تجاوزت 126 مليار دينار عراقي (86 مليون دولار أميركي)، وهي كلفة يرى عضو  مجلس النواب  ضياء هندي عن المحافظة، أنّها مبالغ فيها بشكل كبير.

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

البند 17 من العقد يبيّن وجوب الحفاظ على سرّية العقد 

وأكّد أنّ “كلفة بناء المدارس نفسها عند إحالتها على مقاولين عراقيين، لم تتجاوز 1,5 مليار دينار عراقي (قرابة مليون دولار أميركي)، وبالتالي فإنّ مجموع كلف بناء المدارس في كربلاء كان من المفروض أن لا يتجاوز 44 مليون دولار أميركي لكنّه زاد بمقدار الضعف، وهناك مؤشر فساد وهدر لدينا بزيادة تجاوزت الـ50 مليار دينار عراقي (قرابة 34 مليون دولار أميركي) ما حرم أبناء كربلاء من بناء 20 مدرسة إضافية فيما لو منحت المدارس بكلف طبيعية وفق الأسعار المعتمدة”.

وحول العقد الذي حصلت عليه “أخبار الآن“، قال هندي إنّ “المادة 17 أثارت الريبة والشك لدينا بشكل كبير على وجود شبهات فساد، حيث تنصّ المادة على أنّ الطرفين يلتزمان بسرية العقد وعدم كشف عن بياناته لطرف  ثالث”. وبيّن أنّ “ذلك البند يخالف القانون العراقي ويلغي الدور الرقابي للبرلمان وهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية، ويشير بوضوح إلى وجود ما يحاول الطرفان إخفاءه وهو شبهات الهدر والفساد”.

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

المادة 8 من البند 13 تمنع إحالة العقود على جهات ثانوية 

حبر على ورق

تلزم المادة الثامنة من البند 13 من العقد الشركات الصينية بعدم إحالة أجزاء من العقد على مقاولين ثانويين إلّا بموافقة الطرف الأوّل، كما تنصّ على منع التنازل كليّاً أو جزئياً عن العقد إلى طرف ثانٍ. لكن وبحسب المصادر التي تواصل معها فريق “أخبار الآن” وزيارته للكثير من مواقع العمل، فإنّ أغلب عمليات تنفيذ مشاريع المدارس في كربلاء وباقي المحافظات تمّت عبر مقاولين ثانويين عراقيين.

كما تثبت وكالات وعقود حصلنا عليها، أنّ الشركات الصينية حوّلت ومنذ اليوم الأوّل، تنفيذ عقود المدارس إلى شركات ثانوية عراقية، وذلك ما يؤكّده هندي الذي يقول إنّ “90 % من مشاريع المدارس تنفذها شركات ثانوية عراقية”، مؤكّداً أنّه أرسل منذ اليوم الأوّل لانطلاق المشروع، جملة من الأسئلة إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء حول إعطائها الموافقات للشركات الصينية، لمنح تنفيذ العقود إلى شركات ثانوية كما ينصّ العقد، لكن حتى اليوم لم يتم تزويده بتلك الموافقات، وذلك ما يثير الشك بعدم وجودها.

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

الكتاب الذي وجهه النائب ضياء هندي للحصول على توضيحات حول شبهات في بعض البنود ولم يلقَ جواباً 

وسأل هندي عن الغاية من جلب الشركات الصينية أصلاً وفائدتها إذاً كانت الشركات العراقية هي الأولى بالحصول على المشاريع منذ البداية. ووصف وجود الشركات الصينية على أرض الواقع بالحبر على الورق. كما سأل عن عدم إنجاز أيّ مدرسة حتى اليوم في كربلاء، بالرغم من أنّ العقد مدّته تبلغ 720 يوماً، وقد مرّ قرابة العام على توقيع العقد والشروع بالبناء.

تطوير الخبرات العراقية والاستفادة من التجارب الصينية

وتنص المادة 10 و15 من البند 13 في العقد، على تعيين مهندسين صينين في مواقع العمل وكذلك استخدام أساليب البناء الحديثة في البناء وتدريب العاملين المحليين عليها، لكن أغلب مواقع العمل  الموجودة لا تحتوي إلّا على العاملين في شركات المقاولين الثانويين من الجنسية العراقية.

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

المادة 10 في البند 13 التي تلزم الصين بجلب أخصائيين من الصين وقد تمّت مخالفة ذلك بشدّة

 

 

مصدر في صفوف المقاولين العاملين مع تلك الشركات الصينية، أكّد لـ”أخبار الآن” أنّ “عدد الكوادر الصينية المتواجدين في مواقع العمل محدود جدّاً، إضافة إلى أنّه وخلال التواصل مع البعض منهم، تبيّن أنّهم فنّيين فقط وليسوا مهندسين، والأغرب أنّ بعضهم كان يعمل في مجالات بعيدة عن مجال البناء والمشاريع”. وتابع أنّ “مواد البناء التي يتمّ تجهيز المشاريع بها يتم وفق رخص سعرها وليس رصانتها”. كما يؤكّد تسجيل ملاحظات كثيرة لديه حول مواصفات البناء في المدارس والتي وصفها بالرديئة وغير المناسبة لأمان الطلاب مستقبلاً”.

النفط مقابل الاعمار

في سبتمبر العام 2019 وقبل شهر من خروج مظاهرات عارمة على حكومة عادل عبد المهدي، زار الأخير الصين على رأس وفد ضخم لتوقيع 8 اتفاقيات ومذكرات تفاهم، وهي ما عرفت بالاتفاقية الاطارية الصينية العراقية.

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

من وقائع حفل توقيع الاتفاقيات بين العراق والصين في بكين \ 23 سبتمبر  العام 2019- AFP

تنص تلك الاتفاقيات على تصدير العراق 100 ألف برميل يومياً إلى الصين تودع أموالها في حساب مصرفي تصرف أمواله على شركات صينية تنفذ مشاريع الخدمات والإعمار في العراق، حينها أطلقت الحكومة على تلك الاتفاقية تسمية رنانة “النفط مقابل البناء والاعمار”، وذلك ما ذكّر العراقيين باتفاقية سابقة ذائعة الصيت أيّام حصار الولايات المتحدة للعراق سميت بالنفط مقابل الغذاء.

كانت أولى بوادر تلك الاتفاقية ما وقّعه رئيس الوزراء الكاظمي العام 2020 مع الصين، والذي جاء عقب إطاحة الاحتجاجات برئيس الوزراء الذي وقع الاتفاقية الإطارية عادل عبد المهدي، متّهمين إيّاه بالفساد وقتل المحتجين. وقد وصف عضو مجلس النواب السابق عن لجنة النزاهة رحيم الدراجي تلك الاتفاقية بأنّها اتفاقية لتقنين السرقة والفساد والاستحواذ على مقدّرات العراق ورهن نفطه

اتفاقية مذلة

يمثل مشروع المدارس أوّل خطوة تطبيقية للاتفاقية الصينية، وذلك ما يجده البعض خير دليل على الاتفاقية برمتها. ويصف الدراجي الاتفاقية بالمذلّة وفيها شروط قاسية تكبّل العراق، مستغرباً كيف أنّ المفاوض العراقي وقّع عليها وقبل بشروطها التي ترهن الاقتصاد العراقي، وتفرض على العراق وضع قرابة ملياري دولار، ويصدّر يومياً 100 ألف برميل نفط مقابل مشاريع مجهولة، كانت المدارس أبرز أمثلتها.

مليارات الدولارات و 100 ألف برميل نفط يومياً من العراق للصين مقابل مدارس غير آمنة للطلاب!

 

وأوضح الدراجي أنّ قيمة عقد مشروع المدارس يصل إلى قرابة 3 مليارات دولار، وكان المفترض أن تقدم الصين عملاً يقارب قيمة ذلك المبلغ الكبير، لكن ما حصل حسب وصفه، أنّ عدداً محدوداً من ممثلي الشركات الصينية وصل إلى مقرّه في العراق، وبدأ ببيع مقاولات مشاريع المدارس إلى مقاولين ثانويين مقابل نسبة معينة، ليصبح ذلك المشروع مكاناً جديداً للفساد والابتزاز والرشوة. وطالب هيئة النزاهة بالتحرك للكشف عن حجم الفساد الكبير فيه، مشيراً إلى أنّ “المصيبة الأكبر هي أنّ عاماً مرّ على العقد، وتمّ دفع مليارات الدولارات مقابل مدارس ستكون آيلة للسقوط نتيجة الفساد الذي حصل في المشروع ومواصفات البناء فيه”.

آراء المختصين .. المشاكل  تسبق الحلول

من جانبه، رأى المهندس عبد الرحمن الازيرجاوي، وهو مدير عام سابق لإحدى شركات وزارة الاعمار والإسكان في العراق، أنّ “الأبنية المدرسية هي عمود التعليم في العراق، والنقص الحاصل فيها يجعل من التعليم متعثراً. وقال لـ”أخبار الآن” إنّ العراق بحاجة آنية لـ 10 آلاف مدرسة في الوقت الحاضر، وهي نسبة تزداد سنوياً إذا ما احتسبنا نسبة النمو السكاني، والتي تصل إلى 3.8 بالعشرة أي ما يعادل مليون إنسان سنوياً، وذلك ما يتطلب إيجاد حلول سريعة لقضية الأبنية المدرسية”. لكن في المقابل، أكّد ضرورة أن لا يكون الحل عبر مشروع تحوم حوله شبهات الفساد، ويعتمد طرق بناء عفا عليها الزمن كالمشروع الصيني.

الازيرجاوي الذي التقى اللجنة المشرفة على مشروع المدارس الصينية في الأمانة العامة لمجلس الوزراء قبل إحالة العقد إلى الصينيين، وبصفته خبيراً، طرح أفكاراً عديدة تعتمد على تقنيات حديثة ورصينة لبناء مدارس يمكن أن تقاوم العوامل الطبيعية، لكن اللجنة كانت مصرّة على الإحالة للشركة الصينية بغض النظر عن النتائج  والأسعار المرتفعة بشكل كبير للبناء.

وأشار إلى أنّ الشركات العراقية كان بإمكانها بناء مدارس، كلّ مدرسة من 12 صفاً، وبتقنيات حديثة بمبلغ لا يتجاوز 700-800 مليون دينار عراقي (أي نحو 551 ألف دولار) لكن السعر وفق العقد الصيني وصل إلى مليون وثلاث مئة وواحد وعشرين ألف دولار، وهو رقم كبير يتجاوز ضعف المبلغ الأصلي، إضافة إلى أنّ عمل الشركة الصينية كواجهة واستقطاع أرباحها مباشرة هي والجهات المتواطئة معها داخلياً، ثمّ تحويل العمل إلى مقاولين ثانويين، كان على حساب نوعية البناء، لافتاً إلى أنّ الشركات اعتمدت أسلوب البناء التقليدي المتبع في العراق بعد 2003 في بناء المدارس، والدليل على أنّ ذلك الأسلوب غير صالح لناحية أنّ أغلب المدارس التي بنيت بذلك الأسلوب بعد 2003 هي الآن آيلة للسقوط رغم قصر المدة الزمنية.

وأكّد أنّ العراقيين كانوا متأملين بالشركات الصينية لناحية جلب أساليب البناء الحديثة المستخدمة في الصين، لكن ما حصل هو العودة إلى الوراء وإحالة العمل على شركات محلية بأسعار زهيدة بعد استقطاع النسب لتعتمد تلك الشركات الثانوية أساليب تقليدية تعتمد فيها التنفيذ والاسعار على أساس النوعية.

وبيّن الازيرجاوي أنّ “هناك حلولاً كثيرة أمام الحكومة إذا ما أرادت تلافي مشاكل البناء التقليدية ومشاكل المواصفات الرديئة في بناء المدارس”، مؤكّداً أنّ “هناك طرق بناء حديثة أوروبية وتقنيات جديدة تساهم في بناء المدارس، فيما هناك تجارب سابقة كذلك أثبتت نجاحها حيث يشير إلى أنّ العراق اعتمد في ثمانينات القرن الماضي على طريقة تعرف بالبريكاست أو الصب المسبق، والمدارس التي بنيت بتلك الطريقة مازالت حتى اليوم نموذجاً مهمّاً لم يتأثر بالعوامل الزمنية على عكس المدارس الحالية التي تصبح آيلة للسقوط بعد فترة قصيرة نتيجة اعتماد الطرق الكلاسيكية بالطوابق والاسمنت والرمل والعامل المحلي البسيط، وجلب مواد بناء دون المستوى نتيجة لقلّة الميزانية بعد إحالة المشروع الى مقاول ثانوي بنصف السعر”.

العراق لا يتعلم من دروس الماضي

قبل أكثر من عقد من الزمن، وقّعت الحكومة العراقية عقوداً مع شركات إيرانية وأخرى عراقية من أجل بناء أكثر من 1700 مدرسة في أرجاء العراق، معتمدةً بذلك على أسلوب الدعوات المباشرة أي من دون إجراء مناقصة، وبتكلفة تتراوح ما بين مليون إلى مليون وربع دولار للمدرسة الواحدة. حينها اعترض الكثير من المقاولين والجهات الاستشارية على ارتفاع التكلفة. بعض تلك الشركات تعاقدت مع شركات ثانوية وأخرى تلكأت. اليوم وبعد دفع سلف تشغيلية مباشرة بنسبة 60 % من قيمة المشروع والتي تجاوزت المليار دولار، صرفت الأموال ولم يُبنَ من المدارس إلّا القليل.

واليوم تعود الحكومة العراقية إلى تكرار التجربة نفسها مع الشركات الصينية، لبناء أكثر من 1000 مدرسة ضمن ما يعرف بالاتفاقية الصينية في عدد من المحافظات العراقية، وكأنّ الزمن يعيد نفسه بكلف مرتفعة ونسب إنجاز منخفضة ومواصفات مختلفة عن بنود العقود… أمور كثيرة ومشاكل قد تصل إلى حدّ الخطورة على السلامة العامة، لا سيما على حياة الطلاب، نطرحها في ذلك التحقيق الموسّع الذي يثبت أنّ الحكومات العراقية لم تستفد حتى اليوم من عبرة مشاريع المدارس في الفترة السابقة.

شاهدوا أيضاً: بالعين المجردة 19 | جنود روس يفرّون من ساحات القتال في أوكرانيا.