بناء العلاقات العربية في قمة جدة بالسعودية

قد تظل قمة جدة علامة فارقة بين ما قبلها وما بعدها وسيتبعها تغيرات جذرية عديدة في سياق العلاقات “العربية – العربية” وبشكل خاص فيما يتعلق بآليات التنسيق السياسي تحت مظلة الجامعة العربية لتعزيز التعاون الاقتصادي، ودفع عجلة التنمية العربية.

وقد كانت قمة جدة من أهم القمم العربية نظرا للأحداث الخطيرة والمهمة التي تمر بها المنطقة. فالتحولات الجذرية التي نتجت عن الاتفاق السعودي الإيراني فتحت الأبواب لتغييرات مهمة كان أبرزها وأكثرها وضوحًا التطبيع العربي مع سوريا وعودتها إلى محيطها العربي وحضن الجامعة العربية بعد غياب استمر اثني عشر عاما عن العمل العربي المشترك.

لكن هل يمكن القول أن القمة العربية استطاعت في ظل الظروف السياسية المتقلبة أن تعيد بصورة عامة بناء العلاقات العربية، لما فيه المصلحة العربية العليا وتغلبت على التحديات وحولتها إلى فرص إيجابية.

ربما كان من أهم نتائج القمة أنها عملت على تضميد الجراح وتحييد المخاطر ولم الشمل وتحول خصوم الأمس إلى أصدقاء وربما حلفاء فما فرقهم بالأمس قد يجمعهم اليوم. فالمشاركة الكاملة كانت أمرا مهما وقد عززت المكانة التي تتمتع بها المملكة العربية السعودية. وبهذا يمكن القول أن إحياء العمل العربي المشترك بات ممكنا بعد حالة من الانقسامات والتجاذبات وعدم الاستقرار شهدتها العلاقات العربية – العربية في السنوات العشر الأخيرة وصلت أحيانا حد الصراعات الدموية.

قمة جدة: نحو مرحلة عربية جديدة وشراكة متعددة الأقطاب

قبيل أحد مؤتمرات القمة السابقة ظهر شعار المصارحة قبل المصالحة والتساؤل هنا هل صارت مصارحة قبل المصالحة؟ لا بد أن المصارحة تمت واكتشفت العواصم العربية أن الحل للازمات العربية لا يتم إلا بالمصارحة والمكاشفة، ومن خلال العمل العربي بعيدا عن التدخلات الأجنبية لكي تكون النتائج أفضل وأكثر نجاعة. أي أن تعريب الحل هو الحل ومن هنا عملت القمة على دعم الاستجابة السورية للعودة إلى الحضن العربي والمشاركة في القمة في خطوة تحفظ عروبة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها.

كانت القمة هي المناسبة الأكثر توافقًا لإعادة سوريا إلى الإجماع العربي وحمايتها من الانزلاق أكثر في حضن إيران. وكان لافتا في خطاب الأسد في القمة قوله أن الأحضان مؤقتة والانتماء دائم ليشير إلى أن انتماء سوريا العربي سيظل دائما عربيا. ويمكن تفسير العبارة على أكثر من وجه لكن إذا اردنا التفاؤل فيمكن تفسيرها على أن لانتماء سوريا العربي أولوية على تحالفها مع إيران. وهذا ما سعت إليه الدبلوماسية السعودية من وراء تطبيع العلاقات مع دمشق.

والمشاركة السورية في القمة تعني فتح الباب أمام جميع الأقطار العربية لإعادة العلاقات مع دمشق وبدء صفحة جديدة من هذه العلاقات بعيدا عن نفوذ الدول الأجنبية.

وهذا ما أكده ولي العهد السعودي الذي شدد في خطابه على التوازن في السياسة الإقليمية والدولية، وهذه نقلة سعودية نوعية نحو مستويات جديدة قد تحدث تغييرات عميقة في الشرق الأوسط.

وإذا كانت هناك دول تعارض الانفتاح العربي على سوريا فإن القرار العربي بإعادة سوريا يمكن أن يكون طليعة مواقف جريئة تدل على دخول العرب في مرحلة القرار العربي المستقل دون الالتفات لما يمكن أن يكون ضغوطا خارجية.

كانت عودة سوريا إلى محيطها العربي عضوا فاعلا في المجموعة العربية إنجازا مهما وثمرة دبلوماسية ناضجة لسياسة اتبعتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والأردن.

قمة جدة: نحو مرحلة عربية جديدة وشراكة متعددة الأقطاب

ولا شك أنه بهذه العودة تم تحييد المعارضة السورية المسلحة المدعومة من الخارج. لكن السؤال الذي يتبادر هنا هل كانت هناك شروط لهذه المصالحة مع النظام السوري من مثل وقف الاعتماد الكلي على إيران؟ الأمر يحتاج وقتا للتأكد من هذه المسالة.

ومع أن إيران لم تعارض بصورة علنية المصالحة السورية مع العرب، إلا أنها دون شك لن تتخلى عن النظام السوري بسهولة ولن تنسحب من سوريا في المدى القصير، فهي بعد زيارة الرئيس الإيراني اطمأنت إلى استقرار علاقاتها مع سوريا.

سيكون المدخل العربي إلى سوريا هو مشروعات إعادة الإعمار التي تكلف ما يقرب من تسعمئة مليار دولار وبطبيعة الحال لا يمكن لدولة واحدة أن تتكفل بكل هذه التكلفة. لكن الدول العربية ستحظى بحصة كبيرة في تمويل إعادة الإعمار ولا بد أن هذا سيتم أيضا بالتنسيق مع إيران. ربما كانت إيران تود لو تستطيع أن تتفرد وحدها بإعادة إعمار سوريا حتى تطلب ثمن ذلك استملاك أراضي في سوريا.

بنجاح القمة نجحت السياسة السعودية البراغماتية والواقعية التي يقودها ولي العهد الذي يقوم بنقل المملكة إلى مكانة متقدمة بين الدول وجعلت منها دولة مركزية ذات مكانة مهمة. وكرست القمة مكانة المملكة في موقع قيادة العمل العربي المشترك لحقبة جديدة في الشرق الأوسط ومرحلة جديدة في العلاقات العربية – العربية لخدمة شعوبها.

لا شك أن الانطلاقة السعودية الجديدة نحو المستقبل والسعي الرسمي السعودي باتجاه التنمية والتطوير وقيادة مسيرة تنموية تعمل على تنشيط الاقتصاد وتحفيزه وإحداث تغييرات اجتماعية وثقافية عميقة ستكون من العوامل المهمة لنقل المملكة العربية السعودية نحو عصر جديد يتميز باستقلالية القرار والابتعاد عن الصراعات والهيمنة الأجنبية.

نجحت القمة العربية في جدة لأنها بحثت وعالجت المسائل التي تستحق البحث والمعالجة وكان في مقدمتها القضية الفلسطينية وسوريا واللاجئين السوريين وقضية المخدرات وتهريبها عبر الحدود وقضايا السودان واليمن وليبيا. بالإضافة إلى قضية الأمن الغذائي العربي التي باتت تدق ناقوس الخطر ولا بد من معالجتها بطرق مبتكرة وغير تقليدية.

في ضوء التغيرات الجذرية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط كان على القمة العربية أن تتعامل معها بما تستحق من اهتمام. وفي السنوات الماضية لم تكن التوازنات الدولية والإقليمية في مصلحة العرب فكان لا بد من انتهاج سبيل جديد في العلاقات مع الدول الكبرى وكان من الحكمة التوجه شرقا في تشكيل علاقات استراتيجية مع الصين في الوقت الذي أخذت فيه الولايات المتحدة تخفض وجودها في المنطقة. ولا بد أن العلاقات العربية مع الصين ستنمو في المستقبل ويكون هناك توازن في العلاقات العربية مع الدول الكبرى بعيدا عن الانحياز أو الهيمنة.

 

الآراء الواردة في هذه المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “أخبار الآن” وإنما تعبر عن رأي كاتبها