تقع بلدة ياسا جنوب غرب الكاميرون حيث مازال عدد كبير من الأطفال يذهبون إلى الحقول للبحث عن الذهب رغم الخطر الذي يحدق بهم، وذلك من أجل شراء الطعام ومساعدة عائلاتهم في تأمين قوتهم. هناك، ينزل الأطفال إلى البرك الوحلية والحفرات التي أحدثتها شركات التعدين الصينية، والتي تتسبب بوفاة عشرات الأطفال من حين إلى آخر بعد سقوطهم فيها، مع الإشارة إلى أنّ عمق بعضها يصل إلى حدّ الـ200 متر.

  • أطفال كثر يموتون من وقت لآخر في الحفر التي أحدثتها شركات التعدين الصينية وتركتها مفتوحة في الكاميرون  
  • أطفال ياسا جنوب غرب الكاميرون ينقبون عن الذهب رغم المخاطر بغية تأمين لقمة عيشهم ومساعدة عائلاتهم
  • يصل ارتفاع ثقوب بعض الحفر إلى نحو 200 متر، لاسيّما تلك التي أنشأتها شركة التعدين Lu and Lang
  • يرتفع عدد الكاميرونيين الذين لقوا حتفهم في حفر التعدين وقد قتل العشرات في غضون 10 أشهر
  • عائشة فرت مع عائلتها من أفريقيا الوسطى هرباً من المتمردين ومجموعة الفاغنر التي كانت تخطف الأطفال 
  • دافيد فتى كاميروني يمضي ساعات طويلة في أعمال التنقيب لكسب المال لكن اليوم قرر تغيير مسار حياته

في تلك الحلقة من برنامج “بالعين المجردة”، نأخذكم إلى ياسا في الكاميرون لنعرف ماذا يحل بالأطفال هناك، ماذا عن الأطفال الذين فرّوا من أفريقيا الوسطى المجاورة هرباً من عناصر الفاغنر الروسية، الذين يخطفون الأطفال من عائلاتهم وفق ما أودت تقاير دولية عديدة استناداً إلى شهادات من ضحايا تلك الممارسات.

الكاميرون

حماية دافيد وعائشة مع البحث عن الذهب

ككل صباح، يخرج دافيد ابن الـ15 عاماً من ذلك الكوخ الصغير الذي يعتبره بيته وغرفة نومه، في وجهة أصبحت اعتيادية بالنسبة له، إلّا عندما يتمّ تغيير المواقع. في ذلك اليوم كان يذهب في اتجاه إحدى الحفرات الكبيرة حاملاً وعاءً ورفشاً والحصيرة التي يستعملها في العثور على الذهب… فهنا سيمضي ساعات طويلة في حفر التربة ومن ثمّ غسلها سعياً لهدف واحد، ألّا وهو العثور على الذهب، ذلك الحجر الصغير الذي يصعب تمييزه أحياناً بالعين المجردة. ومن جهة أخرى، تنضمّ إليه عائشة وأخواتها اللواتي تنكببن على التنقيب في تلك الحفرة التي تخلّى عنها المنقّبون عن الذهب.

ياسا هي بلدة بناها منذ بضع سنوات منقبون عن الذهب بعدما عثروا على رقائق ذهبية في أحد المواقع. تقع تلك البلدة في مقاطعة بيديمبا التي تبعد 30 دقيقة فقط في السيارة عن غاروا بولاي، البلدة الواقعة على الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى. بأي حال، ليس هناك إلّا 7 كيلومترات تفصل ياسا عن جمهورية أفريقيا الوسطى. وقد ترك دافيد أهله في بيديمبا بحثاً عن المال هنا لأنّه لم يكن يحب المدرسة ولم يكن يذهب إليها.

يقول دافيد لـ”أخبار الآن“: “لقد بدأت البحث عن الذهب منذ العام 2016 سعياً وراء المال الذي جنيته في المناجم. وقد بدأت في سنّ مبكرة لأنّ المدرسة لا تسترعي اهتمامي. أنا لم أولد هنا، فأنا من بيدينبا الواقعة بعيداً من ياسا. في بعض الأحيان عندما أستيقظ في الصباح أذهب للبحث عن الذهب حتى من دون أن أتناول فطوري، فأغادر المنزل بين 08:00 و09:00 صباحاً وأعود بين الرابعة والخامسة. هكذا كنت أفعل يومياً من الإثنين إلى الأحد عندما لم أكن أذهب إلى المدرسة بعد. لقد جئت إلى ياسا ورحنا نعمل في التنقيب عن الذهب، لكنّنا توقفنا عن ذلك عندما بنيت المدرسة، لكن في بعض الأحيان عندما نعود من المدرسة في تمام الساعة الـ03:00  نبدأ التنقيب لكن نجني المال لأّنه إنْ لم نكن نملك المال، لا يمكننا أن نأكل وبالتالي نجد نفسنا مرغمين على البحث عن الذهب. بكل صراحة، يُصرف ذلك المال على تأمين الطعام”.

إذاً، البحث عن الذهب هنا يدخل في تاريخ العائلة وهو مستمر منذ عقود من الزمن. إنّها قصة عائلية في الجانبين من الحدود، أي في جمهورية إفريقيا الوسطى وفي الكاميرون. ويقول جاستن لاندي شيكوا لـ”أخبار الآن“: “أود أن أقول أولاً إن التعدين الحرفي في المنطقة الشرقية مستمر منذ فترة الإستعمار، أي منذ أكثر من 100 عام، لكن لا بدّ من التذكير بأنّ أعمال التعدين آنذاك كانت محصورة أكثر بالراشدين على عكس اليوم لضرورة امتلاك قوّة بدنية معينة للذهاب إلى المنجم والحفر بواسطة المعول، لكن في الوقت الحاضر بسبب المكننة الجزئية برز فاعلون آخرون غير الراشدين، لاسيّما الأطفال لسهولة الوصول إلى الذهب، وبالتالي عندما يهجر أصحاب المكننة الجزئية آبار التعدين بعد حفرها تصبح أكثر سهولة بالنسبة إلى الأطفال، وحتى من تتراوح منهم أعمارهم بين الرابعة والخمسة أعوام الذين يسهل عليهم استخراج الحصى. لتلك الأسباب نشهد اليوم تدفقاً مهمّاً للأطفال في مواقع التعدين، فالأعمال نصف الممكننة قد توسّعت فعلاً لاسيّما بعد بناء سدّ لومبانغار”.

الكاميرون

عائشة فرّت من أفريقيا الوسطى هرباً من المتمرّدين والفاغنر

لكن ذلك لا ينطبق على عائشة التي لا تبلغ من العمر إلّا 10 أعوام، فهي قد وصلت إلى الكاميرون من جمهورية أفريقيا الوسطى منذ بضعة أشهر، بعدما فرّت مع عائلتها من بلدها الذي تدور فيه الحرب، وذلك على إثر هجمات عنيفة نفذتها مجموعات المتمرّدين وكذلك قوات الفاغنر التي راحت تقتحم المنازل وتخطف الأطفال من عائلاتهم رغماً عنهم، وذلك وفق تقارير دولية أوردت شهادات لضحايا خسروا أولادهم ولم يعرفوا الوجهة التي تمّ أخذ أطفالهم إليها.

تقول عائشة: “أنا من جمهورية أفريقيا الوسطى، لقد هربت من هناك مع عائلتي التي لم يبقَ لي فيها سوى أمي لأنّ أبي متوفى. هي تعمل في الزراعة وأنا في التنقيب عن الذهب. عمري 10 سنوات. لقد اضطررنا إلى الفرار من جمهورية أفريقيا الوسطى بسبب الحرب الشعواء بين ميليشيا أنتي بالاكا المسيحية ومقاتلي سيليكا المسلمين. فالحرب مستعرة والناس يتقاتلون ويموت الكثيرون وبالتالي يجد الأهل نفسهم مضطرين إلى حمل أطفالهم للهروب نحو غاروا بولاي نظراً لقربها من جمهورية أفريقيا الوسطى. لقد رأيت أطفالاً ورضعاً يُقتلون وبالتالي هرّبنا أبي إلى الكاميرون. بعدما أفلسنا، غادرنا غاروا بولاي باتجاه ياسا، وعندما وصلنا إلى هنا مفلسين، واصلت أمي عملها في الزراعة وأبي التنقيب عن الذهب فحذوت حذوه. ولكن بعد وصولنا إلى هنا، مرض أبي وتوفي”.

وجدت عائلة عائشة نفسها في غاروا بولاي، البلدة الحدودية التي تستقبل مئات آلاف اللاجئين الهاربين من تجاوزات المجموعات المسلحة في الجمهورية المجاورة. وبحسب المفوضية العليا للاجئين، يعدّ الكاميرون ما يزيد على 345000 لاجىء من جمهورية أفريقيا الوسطى، ويستقبل مخيم غادو الواقع على بعد نصف ساعة من غاروا بولاي، أكثر من 26000 لاجىء من أفريقيا الوسطى. كما نجد في ياسا أيضاً مواطنين من أفريقيا الوسطى كانوا قد لجأوا إلى تلك البلدة هرباً من الحرب في بلادهم.

ذهب الكاميرون وأفريقيا الوسطى بين الروس والصينيين.. والأطفال يموتون في الحفر

 

باسكال دانبكورو، رئيس المجلس المحلي في مقاطعة بوول، شمال بينديبا، يقول لـ”أخبار الآن“: “يتحدّر سكان البلدة اليوم من عدّة بلدات لأنّه كما تعرفون ياسا معروفة بالتنقيب عن الذهب. نجد هنا أشخاصاً من جمهورية أفريقيا الوسطى والكاميرون. منذ اندلاع الحرب في أفريقيا الوسطى وبداية المشاكل هناك، التجأ السكان إلى هنا، وبما أنّ الحياة شاقة، يضطرون إلى العمل في مواقع التنقيب عن الذهب في ياسا”.

ذهب الكاميرون وأفريقيا الوسطى بين الروس والصينيين.. والأطفال يموتون في الحفر

 

في ذلك البلد تستمر الحرب منذ عقود من الزمن، وهي تدور بين الجيش النظامي الذي تسانده قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة “المينوسكا”، وهكذا نجد في البلدات الحدودية آلاف اللاجئين المتدفقين من جمهورية أفريقيا الوسطى بحثاً عن الذهب. ويقول: شيكوا: “لا بدّ من التذكير بأنّ منطقة غاروا بولاي قريبة للغاية من جمهورية أفريقيا الوسطى، وهي تشكل بوابة الكاميرون وأفريقيا الوسطى على حدّ سواء، وعندما تذهبون إلى هناك ترون جماعة كبيرة من سكان أفريقيا الوسطى لأنّه بسبب الحرب هناك تدفق اللاجئون إلى الكاميرون. لا بدّ من التنويه بأنّ جمهورية أفريقيا الوسطى بلد له تاريخ كبير في التعدين، وبالتالي تمّ تطوير التنقيب في المناجم هناك أكثر منه في الكاميرون، وبسبب تدفق اللاجئين إلى الكاميرون، فإنّ التنقيب في المناجم بات النشاط الأوّل الذي يتراءى إلى ذهن اللاجئين القادمين من جمهورية أفريقيا الوسطى، ما يفسّر تواجدهم الكثيف في موقع ياسا”.

ذهب أفريقيا الوسطى والكاميرون بين الروس والصينيين

يذكر أنّه منذ بضع سنوات، أدخلت جمهورية أفريقيا الوسطى في ذلك النزاع روسيا التي أوفدت بدورها مرتزقة الفاغنر الذين يقاتلون إلى جانب القوى الموالية للنظام. وكانت مشاركة هؤلاء المرتزقة قد تسببت بانسحاب المساعدات التي كان يقدّمها شركاء تاريخيون لبانغي، على غرار فرنسا التي فترت علاقتها في الوقت الحاضر بالنظام الحاكم، وعلى غرار الاتحاد الأوروبي أيضاً. بحسب خبراء الأمم المتحدة والإتحاد الاوروبي، فقد بات الروس يضعون يدهم على جمهورية أفريقيا الوسطى ما يسمح لهم بالسيطرة على المحور الإستراتيجي المؤلف من بانغي وبيلوكو وغاروا بولاي، نظراً لوجود طرق لنقل المعادن مثل الذهب والألماس، وتقع تحت سيطرة الروس من جانب أفريقيا الوسطى.

إّلا أنّ الصينيين هم الذين يضعون يدهم على الذهب في منطقة شرق الكاميرون ويستغلونه بطريقة وحشية، والدليل على ذلك هو الحفر الواسعة المهجورة التي يعتبرها السكان من فعل الصينيين الذين يستغلونهم للتنقيب عن تلك الموارد الثمينة بشكل كثيف.

الكاميرون

وفي الصدد، يقول فيليب دونو (Philippe Dono Sodea) وهو منسق مؤسسة “فودر” (Forets et Développement Rural): “قبل وصولي إلى هنا، كان هناك منقّبون صينيون استقروا هنا منذ فترة طويلة وقاموا ببعض الأنشطة واستغلوا السكان، أيّ أنّهم استغلوا ثقتهم من خلال الإستيلاء على ممتلكاتهم بالقوّة، بعبارات أخرى تمّ استغلال السكان منذ وصول الصينيين، وعندما وصلت إلى هنا أدركت أنّ الصينيين قد استقروا من قبل، ولم يكن هناك إلّا شركة أو إثنتين كانتا تهمّان بالرحيل. لدى وصولي، قمت بتوعية السكان بشكل عام من خلال عقد لقاءات تشاور وعرض للمشروع وعرض المحاور المختلفة التي يجب أن نعمل عليها. بعد سلسلة من اللقاءات التوعوية على مستوى القيادة، أسسنا لجنة رقابة تمثل كلّ السكان من أجل المطالبة بحقوقهم بوجه المنقّبين عن المعادن. بمعنى آخر، تهتم لجنة الرقابة بالتحقق من أيّ حالة مستجدّة فتقوم بزيارة الموقع المذكور والتحدّث إلى أيّ شركة جديدة، فتسألها إذا ما عقدت لقاءً تشاورياً وإنْ لم تفعل ذلك بعد تطلب منها زيارة مقر القيادة وتقديم الوثائق التي تجيز استغلال الموقع”. وفي الحالة المعاكسة، إنْ لم تذهب الشركة إلى القيادة، ترفع اللجنة المسألة إلى السلطات المختصة أي الوفد المسؤول عن المناجم من أجل إبلاغه بالوقائع”.

هنا في ياسا، تعيش عائشة مع أمّها في تلك الغرفة الصغيرة وتجد نفسها مضطرة إلى جني المال من خلال التنقيب عن الذهب بغية إطعام أمّها وأخواتها، وهي لم تتجاوز بعد الـ 10 أعوام. في الواقع لقد خسرت زالدها كما شرحت لنا أمّها بسبب المرض بعدما هربت العائلة إلى الكاميرون. كما أنّ أمها التي كانت تعمل في الحقول في جمهورية أفريقيا الوسطى لم تعد قادرة على العمل منذ وصولها إلى الكاميرون لأنّ متمرّدي إفريقيا الوسطى قد أطلقوا النار عليها أثناء فرارهم، فأصابوا ذراعها اليسرى.

وهنا، توضح هابساتو عثمان، والدة عائشة، فتقول لـ”أخبار الآن“: “لقد هربت من جمهورية أفريقيا الوسطى بسبب الحرب وأثناء هربنا تعرّضنا لإطلاق رصاص. عندما وصلنا إلى غاروا بولاي، كنت برفقة زوجي وأنفقت كلّ المبلغ الذي كنت أحمله في المستشفى لدى مرضه. بعد ذلك، سمعنا أنّ ياسا غنية بالذهب فذهبنا إلى هناك وأصيب زوجي بالمرض. لسوء الحظ لقد فارق الحياة وتركني مع بناتي الثلاثة اللواتي يجب أن أكافح من أجلهن لتسجيلهن في المدرسة وتأمين ما يلزم للمنزل وتأمين الطعام لهن”. وتتابع: “”لدى هروبنا من بلادنا، أطلق المتمردون النار على ذراعي التي تؤلمني جدّاً في الوقت الحالي، وبالتالي لا يمكنني أن أعمل في المياه المثلجة لذلك تذهب بناتي للتنقيب عن الذهب”.

بسبب إصابة هابساتو، أم عائشة، باتت تلك الفتاة الصغيرة مضطرة إلى تحمّل المسؤولية والبحث عن طريقة لجني المال، فباتت تغادر منزلها كل صباح في تمام الـ 8 صباحاً وتعود عند الـ 4 بعد الظهر، ثم تذهب لبيع الذهب الذي تعثر عليه. لقد توفي عدد كبير من الأطفال والأشخاص إثر غرقهم تحت التراب في تلك الحفر التي هجرها المنقبون الصينيون، الذين يتهمهم سكان البلدة باستغلالهم بطريقة سيئة وبعدم طرح أيّ مشروع مفيد للبلدة على مستوى البنى التحتية والطرقات والمدارس والمستشفيات.

ويشير فيليب إلى أنّ “سكان ياسا يعانون بالدرجة الأولى من الإستيلاء على أراضيهم، كما أنّهم يقعون ضحية استغلال حقوقهم لأنّ أيّ شركة قد تستقر في المنطقة من دون التشاور مع السكان المحليين لشرح سبب قدومها واستقرارها، فأحياناً تأتي شركة وتستقر في موقع يعود لأحد سكان البلدة كأيّ أرض زراعية وموقع تنقيب عن المعادن، فيتمّ طرده من أرضه التي اعتاد أن يستغلها لتأمين الطعام لعائلته وأطفاله. ثانياً، يعاني السكان كذلك من الإستيلاء بالقوّة على أراضيهم التي اعتادوا العمل فيها، والتي ورثوها عن أهلهم لتأمين مصدر رزق للأجيال القادمة، فيجدون نفسهم فجأة مطرودين من أماكن عملهم وأرضهم”.

بناء المدرسة وبثّ الأمل

بين العامين 2019 و2020 لم يتبقَ سوى شركتين صينيتين في البلدة ولدى مغادرتها لم تفيا بأيّ وعد قطعتاه. تلك هي الخلاصة التي توصلت إليها منظمة FODER غير الحكومية، إذ لم توجد أيّ مدارس أو بنى تحتية، وبالتالي وجدت أنّ الأطفال الآتين من الكاميرون أو من جمهورية أفريقيا الوسطى يعملون طيلة النهار في المناجم برفقة أهلهم أو من دونهم، ببدلات مادية قليلة. الوضع المزري للأطفال وسكان البلدة، دفع البعض في المنطقة إلى إيجاد حل ولو متواضع، فتم اتخاذ قرار بموافقة زعيم مقاطعة بيندينبا، ونائب محافظ غاروا بولاي والأهالي، على بناء مدرسة.

شاكوا يستذكر ظروف بناء المدرسة، فيقول: “عندما وصلنا إلى ياسا، وجدنا كمّاً هائلاً من الأطفال في مواقع التعدين بصحبة أهلهم، وكانوا أكثر 100 طفل لا بل ألف طفل. فأسسنا مجموعة تسمّى لجنة الرقابة المواطنية وحدّدنا لها دوراً ألا وهو توعية السكان حول الجدوى من إرسال الأطفال إلى المدرسة، ومن ثمّ قمنا بحملة توعية أخرى لكي نبرهن للأهل أنّ المدرسة مهمّة، فالطفل يمكنه أن يذهب إلى المدرسة وفي الوقت عينه يقوم بأعمال حرفية وأعمال أخرى. مثلاً في المناطق الزراعية، تشكل الزراعة مصدر رزق للسكان هناك، وإنْ توجهنا إلى الغرب في الجنوب أو في الوسط، نرى أنّ الأطفال يذهبون إلى الحقول للعمل فيها، لكن ذلك لا يمنعهم من الذهاب إلى المدرسة، فاستندنا إلى ذلك السيناريو لنظهر للأهل بأنّ الأطفال قادرون على الذهاب إلى المدرسة، مثلاً من الإثنين إلى الجمعة، وفي الأيام الأخرى يمكنهم مرافقة أهلهم إلى مواقع التنجيم… وهكذا بنت لجان الرقابة المدارس ودعمناهم عن طريق تقديم الألواح البيضاء لهم، ولاحظنا أنّ الأهل أدركوا أهمية تلك المسألة وباتوا يرسلون أطفالهم أكثر فأكثر إلى المدرسة، فشكّل ذلك نقطة التحوّل التي جاءت عن طريق الوعي لأهمية المدرسة. لم نركّز في طريقة عملنا على منع الأطفال من ارتياد مواقع التنجيم، لا بل أردنا أن نقول لهم إنّ الأطفال يمكنهم أن يرافقوهم إلى تلك المواقع والذهاب إلى المدرسة معاً، وبالتالي فإنّ هذين النشاطين غير متعارضين”.

بغية تأمين متابعة حثيثة لغرف التدريس وضمان حسن عملها، يتمّ اختيار مندوب عن لجان الأهل لكي يواصل مهمة توعية الأهل حول الجدوى من إرسال الأطفال إلى المدرسة. باتريك يمدجو، وهو رئيس جمعية أولياء الأمور في المدرسة، يقول لـ”أخبار الآن”: “لقد تأسست تلك المدرسة منذ 4 سنوات على ما أظن وقد بدأت بالصف الأوّل، أي بصف التعريف على اللغة والسنة الأولى الأساسية، وكان عديد التلامذة لا يتجاوز 100 تلميذ. أمّا اليوم فوصلنا إلى الحد الأقصى لقدرتنا الإستيعابية بوجود 250 تلميذ في الصف الثاني، أي في السنة الثانية والثالثة الأساسية”.

ذهب الكاميرون وأفريقيا الوسطى بين الروس والصينيين.. والأطفال يموتون في الحفر

تطوّر المدرسة لكن العوائق مازالت موجودة.. هنا أبرزها

ويتابع: “في البداية أطلقنا ذلك المشروع بالتعاون مع بعض سكان البلدة لأنّنا أدركنا منذ بضع سنوات أن ثمّة عدداً كبيراً من الأطفال لا يذهبون إلى المدرسة، لكنّهم يعملون في ورش التنقيب عن الذهب، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ أهل العديد منهم لا يملكون المقدرات الضرورية لإرسالهم إلى المدينة ولتسجيلهم في المدرسة. من جهة أخرى هناك بعض الأهالي الذين يريدون إرسال أطفالهم إلى المدرسة لكنّهم يفكرون بخطر التعرّض لحوادث سير على الطريق. هكذا تبادرت إلى ذهننا فكرة تأسيس تلك المدرسة بغية مساعدة الأطفال، فهناك من يأتي منهم من الكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وممن يعيشون بيننا منذ وقت طويل”.

ويوضح يمدجو: “بدأنا بمواجهة مشاكل تتعلق بالأوراق الثبوتية الخاصة بهؤلاء الأطفال، فغالبيتهم لا تملك شهادات ولادة إنْ لم نرد التكلم عن الوثائق الأخرى. لقد وصلوا اليوم إلى مرحلة معينة تحتم عليهم امتلاك بعض الوثائق في غضون بضع سنوات عندما سيبلغون سنّ دخول المدرسة، ما يحتّم عليهم امتلاك شهادة ولادة من أجل الحصول على بطاقة مدرسية تؤهلهم لتقديم ملف دخول. كما لدينا بضع تلامذة بحاجة إلى متابعة خاصة بسبب عدم قدرة أهلهم على مواكبتهم أحياناً بسبب تقدمهم في السن وصعوبة قيامهم بتلك المهمة. ونحن نقف بجانبهم بكلّ مسؤولية. صحيح أنّ كلّهم يواجهون مشاكل لكن ثمّة من يواجه تلك المشاكل بشكل مضاعف، وبالتالي هم الذين يحتاجون فعلاً إلى متابعة لكي نصل إلى هدفنا. إنْ طلبنا من هؤلاء الأطفال مغادرة حقول التنقيب للعودة إلى المدرسة ولم نتمكن من تقديم الدعم لهم، لن نحرز أيّ تقدم”.

إنّ كان هناك من أطفال انتفعوا من تأسيس المدرسة، فيمكننا أن نذكر ماساو سوما، هي التي شاهدت بأمّ عينيها الكثير من الأطفال يموتون في المناجم والتي لم تعد ترغب برؤية أطفال في المناجم. جلّ ما ترغب به هو أن يذهب كلّ الأطفال إلى المدرسة وأن يعمل إبنها في المستقبل كموظف حكومي ويدخل قوى الأمن الداخلي. تقول ماساتو سوما لـ”أخبار الآن”: “كلّا، لم يعمل إبني يوماً في التنقيب عن الذهب لأنّ العمل هناك محفوف بالمخاطر، فهناك دائماً خطر انزلاق التربة على الطفل والتسبب بموته. ذلك الخطر كبير وبالتالي لا أريد أن يذهب إلى هناك بل أفضل أن يعمل في الحقول لأنّ ذلك العمل مفيد لنا. أفضل أن يذهب إبني إلى المدرسة، فالعمل في التنقيب عن الذهب يدرّ المال ويمنح البهجة، لكن المدرسة خيار جيد. لم تسنح لي فرصة الذهاب إلى المدرسة، وعندما أهمّ بتشغيل تلفون ذكي يعمل بنظام أندرويد مثل الآخرين، أواجه الفشل لأنّني لم أذهب إلى المدرسة يوماً، فأحاول تشغيل الهواتف المزوّدة بأزرار، وبالتالي همّي الوحيد هو أن يذهب أولادي إلى المدرسة”.

ذهب الكاميرون وأفريقيا الوسطى بين الروس والصينيين.. والأطفال يموتون في الحفر

 

وفي السياق تقول هابساتو لـ”أخبار الآن“: “لم يعد الأطفال يذهبون إلى ورش التنقيب الكبيرة، وبالتالي يعملون في الأرض على مقربة منّي لأنّني رأيت مع أولادي كيف كانت التربة تنزلق وتبتلع المنقبين عن الذهب وتقتلهم. لذلك السبب قرّرت أن يتوقف أطفالي عن الذهاب إلى المواقع العملاقة لأنّني أخاف من إرسالهم إليها. إن نجح أطفالي في المدرسة، سيكون ذلك جيّداً وإلا سأقبل بالواقع لأنّني لم أعد أملك المال للإهتمام بهم فزوجي قد توفي. عندما هربت من بلادي والتجأت إلى هنا، لم أر لا الروس ولا الفرنسيين  بل رأيت فقط الفاكا أي الجيش الوطني والأنتى بالاكا”.

من جهته، يعتبر يمدجو  أنّ الطريق ما زالت طويلة قبل التمكّن من إخراج الأطفال من المناجم مع أنّ الإنجاز الذي تحقق يعدّ جيّداً، ويقول: “تعتبر المدرسة مؤسسة جديدة لذلك في الأساس لقد منحنا نائب المحافظ موافقته لبناء مدرسة الأهل، وكان عليه مراقبة العمل فيها. ها نحن اليوم في السنة الرابعة ونلاحظ أنّ المبنى الذي قدمته لنا نخبة معينة من البلدة أصبح صغيراً بالنسبة إلى عدد التلاميذ وعدد الصفوف التي ستكون لدينا. كما أنّنا نواجه في البلدة شحّاً في مياه الشفة بشكل عام، وبالتالي بين الحين والآخر يصاب البعض بأمراض معينة، خصوصاً تلك المتعلّقة بشحّ مياه الشفة. ويضيف: “لذلك السبب قمنا باستحداث مركز للرعاية الصحية وهو يحاول معالجة المشاكل الصحية لأنّه كما ترون أصبحت طريق الخروج من البلدة صعبة بالنسبة إلى التلاميذ، وكذلك بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يتمتعون بأوضاع صحية جيدة”.

لم تعد عائشة ترغب بالعمل في المنجم بعدما رأت أِشخاصاً يموتون فيه، بل تريد الذهاب إلى المدرسة لكي تصبح معلّمة وتنقل المعرفة إلى تلاميذها تماماً كما تفعل معلمتها. فجل ما ترغب بتحقيقه هو إخراج الأطفال من المناجم وإبعادهم عن العنف. تقول: “في جمهورية أفريقيا الوسطى لم أكن أذهب إلى المدرسة، بدأت بارتيادها عندما وصلت إلى الكاميرون وإلى غاروا بولاي على وجه الخصوص. رأيت أطفالاً آخرين يذهبون أيضاً إلى المدرسة بينما كنت أعمل في التنقيب عن الذهب، فرغبت بالذهاب مثلهم إلى المدرسة لأنّني أحببت ما يفعلونه. في المستقبل لا أريد أن أعود إلى المناجم بسبب وجود مخاطر كبيرة… كل ما أريده هو أن أذهب إلى المدرسة كي أصبح شخصاً أفضل. إنّ العمل في المناجم عمل شاق ويمكنه أن يودي بحياة الكثيرين بسبب انهيار التربة كما رأيت بأم العين. أريد أن أصبح معلمة كي أنقل المعرفة إلى التلاميذ لأنّني أرغب بأن أحذو حذو معلمتي عندما أرى ما تفعله كل يوم”.

تلك حال دافيد أيضاً، هذا الفتى الذي بدّلت المدرسة نظرته إلى الأمور، فبات يريد أن يرتاد المدرسة لكي ينضمّ إلى قوى الأمن الداخلي في المستقبل. وهو يقول: “أعتقد أنّ المدرسة قادرة على أن تساعدني كي أصبح شخصاً مرموقاً، لديّ إخوة لكنهم لا يعيشون هنا. إنْ كنت أريد الذهاب إلى المدرسة فلأنني أودّ أن أنضم إلى قوى الأمن الداخلي. يطلب مني كثيرون أن أفعل ذلك لأنّ ذلك العمل يدرّ المال كثيراً، ذلك هو كل ما أريد فعله لأنّني أرى إخوتي يرتادون المدرسة ما يشجعني على القيام بالمثل، كما أشجعهم على مواصلة الذهاب إلى المدرسة نظراً لأهميتها”.

يعتبر  الصينيون من أكثر مَنْ يتمّ تقديم شكاوى بحقّهم لأنّ الإستغلال وسوء المعاملة والإستيلاء على الممتلكات لم يعد يستهدف البالغين فقط، بل بات يستهدف عائلات برمّتها وجماعات معينة، وفي الوقت الراهن الأطفال الكاميرونيين وغير الكاميرونيين، وعائشة مثلاً هي الآتية من جمهورية أفريقيا الوسطى. لذلك لا تنفك منظمة FODER غير الحكومية تستنكر ما يحصل وترافع عن هؤلاء السكان والأطفال.

أمّا بالنسبة إلى السكان، فتلك الخطوة تشكل مرافعة قدموها لأصحاب القرار بوجه الشركات الصينية التي يعتبرونها طاغية ومستغلة لموارد البلاد الطبيعية، مع بعض المردود المادي الذي يستفيد منه الأوفر حظاً أو السلطات الرسمية، علماً أنّ هؤلاء الصينيين لا يملكون أدنى فكرة عن مفهوم احترام حقوق الإنسان كما هي الحال مع الميليشيات التي تنشط في جمهورية أفريقيا الوسطى ومجموعة فاغنر الروسية، التي أشيرت إليها أصابع الإتهام في تقارير الأمم المتحدة من الجهة المقابلة من الحدود.

شاهدوا أيضاً: بالعين المجردة يكشف بالوثائق هيمنة الصين على قرارات الأمم المتحدة