جوائز نوبل لعام 2022

  • تأسيس علم جينوم أشباه البشر المنقرضة والتطور البشري
  • ثورية جديدة في مجال علم المعلومات الكَميّة
  • نقلة نوعية في تطوير المستحضرات الصيدلانية لعلاج السرطان

 

بعد أسبوع حافل، أسدلت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، الستار عن الفائزين بجوائز نوبل في فروع العلوم المختلفة (الطب والفسيولوجيا، الفيزياء، والكيمياء) لعام 2022.

هذا الإعلان السنوي، صاحبه الكشف عن منجزات علمية رفيعة المستوى، قادت أصحابها لاقتناص هذه الجائزة ذائعة الصيت التي تُعد أرفع جائزة ينالها عالم على مستوى العالم، تقديرًا لإسهاماته في مجال تخصصه.

حيثيات فوز هؤلاء العلماء بجوائز نوبل في فروع العلوم لهذا العام، كشفت عن أهمية منجزاتهم واكتشافاتهم رفيعة المستوى التي عملوا عليها، طوال السنوات الماضية، لخدمة البشرية وازدهارها، ومردود تلك الاكتشافات على تطور مجالات الطب والفيزياء والكيمياء.

نوبل في الطب.. والتطور البشري

في الثالث من أكتوبر الجاري، افتُتح رسميًا موسم جوائز نوبل لهذا العام، بالإعلان عن فوز العالِم للسويدي سفانتي بابو، بجائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا لعام 2022؛ لاكتشافاته المتعلقة بجينوم أشباه البشر المنقرضين والتطور البشري، ودوره الرائد في تحديد تسلسل جين الإنسان البدائي، وفي تأسيس علم جينوم أشباه البشر المنقرضة والتطور البشري.

“بابو” يُصنّف بأنه أول باحث ينجح في وضع تسلسل لجينوم الإنسان البدائي، كما يُعتبر “الأب المؤسس” لعلم الجينومات القديم، من خلال أبحاثه الرائدة في “تعيين التسلسل الجينومي لإنسان النياندرتال، وهو من الأقارب التطوريين للبشر المعاصرين، ويُنسب إليه أيضًا اكتشافه المذهل لإنسان الدينيسوفا، وهو أحد أشباه البشر المنقرضين.

في 20 أبريل عام 1955، ولد سفانتي بابو، في العاصمة السويدية ستوكهولم، ويعمل حاليًا كمدير وعضو علمي في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في ألمانيا، كما يعمل أيضًا في معهد أوكيناوا للعلوم والتكنولوجيا في اليابان.

في حيثيات إعلان فوزه بالجائزة، رأت لجنة اختيار الفائزين بجائزة نوبل، أن اكتشافات سفانتي بابو “أرست الأساس لاستكشاف ما يجعل البشر كائنات فريدة من نوعها، من خلال إظهار الاختلافات الجينية التي تميز جميع البشر الأحياء عن البشر المنقرضين”.

وأضافت في بيانها أن سفانتي بابو أنجز شيئًا يبدو مستحيلًا تمثَّل في تتبُّع “تسلسل جينوم إنسان نياندرتال، أحد أقارب البشر المنقرضين في الوقت الحاضر، كما قام باكتشاف مثير لإنسان غير معروف سابقًا وهو “دينيسوفا”، والأهم من ذلك أن “بابو” وجد أيضًا أن نقل الجينات قد حدث من أشباه البشر المنقرضة الآن إلى الإنسان العاقل بعد الهجرة من أفريقيا منذ حوالي 70 ألف عام، ويُعد هذا التدفق الجيني التليد إلى الإنسان المعاصر ذا أهمية بالغة اليوم على الصعيد الفسيولوجي، مثل تأثيره في آلية استجابة أجهزتنا المناعية لحالات العدوى على سبيل المثال”.

البيان أشار إلى أن علم الحفريات وعلم الآثار مهمان لدراسات التطور البشري، وقدمت الأبحاث دليلًا على أن الإنسان الحديث تشريحيًّا الذي يُعرف باسم “الإنسان المعاصر” أو (Homo sapiens) ظهر لأول مرة في أفريقيا منذ حوالي 300 ألف عام، في حين أن أقرب أقربائنا المعروفين، “إنسان نياندرتال”، تطور خارج أفريقيا وسكان أوروبا وغرب آسيا من حوالي 400 ألف عام حتى 30 ألف عام، وعند هذه النقطة انقرضوا”.

لإدراك حجم الإنجاز الذي قدمه “بابو”، يكفي أن نعرف أن علاقتنا مع أشباه البشر البدائيين المنقرضين كانت محلَّ تساؤل من العلماء، ولم تمنحنا الحفريات والآثار إجابةً شافيةً عما يميزنا نحن البشر المعاصرين عن أسلافنا، حتى جاء علم الجينات وتدخل ليحل غموض جزء كبير من هذه المعضلة.

وتمكن “بابو” الذي درس علم المصريّات والطب في جامعة أوبسالا السويدية، من خلال أبحاث الدكتوراة التي أجراها في علم المناعة، من إثبات أن الحمض النووي يمكن أن يبقى على قيد الحياة في المومياوات المصرية القديمة، وفق ما بيان صحفي صادر عن معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية.

وعن أهمية هذا الاكتشاف، فقد أسهم ما توصل إليه “بابو” في فهم العلاقة بين الجينوم البشري وقدرة الجهاز المناعي على مقاومة الأمراض، وأفادت نتائج أبحاثه بأن 1-4٪ من جينوم البشر المعاصرين من أصل أوروبي أو آسيوي يمكن إرجاعه إلى إنسان نياندرتال، ويُعد هذا التدفق الجيني من الأسلاف البدائيين إلى الإنسان المعاصر ذا أهمية بالغة اليوم على الصعيد الفسيولوجي، مثل تأثيره في آلية استجابة أجهزتنا المناعية لحالات العدوى.

نوبل في الفيزياء.. و”التشابك الكَميّ”

ثاني جوائز نوبل لهذا العام، هي نوبل في الفيزياء، ومُنحت لـ3 علماء مناصفة وهم: الفرنسي آلان أسبيه والأمريكي جون كلاوسر والنمساوي أنتون سايلينجر؛ وذلك تقديرًا لاكتشافهم آلياتٍ ثورية في مجال علم المعلومات الكَميّة.

آلان أسبيه البالغ من العُمر 75 عامًا يعمل في جامعة باريس ساكليه الفرنسية ومعهد البوليتكنيك في فرنسا، بينما يبلغ عُمر جون كلاوسر 79 عامًا، ويعمل في مؤسسته البحثية “جي إف كلاوسر وشركائه”، أما أنتون سايلينجر، الذي يعمل في جامعة فيينا، فيبلغ 77 عامًا.

وفي بيانها حول حيثيات منحهم الجائزة، قالت لجنة نوبل، إن الأدوات التجريبية التي طورها العلماء الـ3 ساهمت في إرساء اللبنة الأولى لعهدٍ جديدٍ في حقل التقنيات الكَميّة؛ بفضل قدرة هذه الأدوات على التلاعُب بالحالات الكَميّة، والتحكم فيها، وفي خصائصها على جميع المستويات، والآن أصبحنا نملك أدوات تحمل إمكانيات تفوق الخيال.

اللجنة أضافت أن “الفائزين نجحوا في إجراء تجارب ثورية، بالاستعانة بحالات التشابك الكَميّ، التي يتصرف فيها جسيمان كما لو أنهما وحدة واحدة، حتى بعد فصلهما، وقد مهّدت نتائج تلك التجارب لابتكار تقنيات جديدة تقوم على المعلومات الكَميّة”.

الثلاثي الفائز بالجائزة برع في تجارب ما يسمى بحالات “التشابك الكَميّ الفوتوني” التي يترابط فيها اثنان من جسيمات الضوء على نحو يستعصي فك تعقيده، أيا كانت المسافة الفاصلة بينهما. وكانت هذه التجارب بمثابة الركيزة التي استند إليها ابتكار مجموعة من التقنيات الكَميّة، أبرزها الحاسوبات الكَميّة ونظم الاتصالات الكَميّة فائقة الأمان، وأجهزة الاستشعار الكمية فائقة الحساسية التي تسمح بقياسات دقيقة للغاية، مثل الجاذبية في الفضاء الجوي.

ومن خلال تجارب منفصلة، أثبت العلماء الثلاثة أن العلاقة بين الجسيمين الكميين لا تُنبني على “متغيرات خفية”، أي عوامل مجهولة ترتبط على نحو خفي بين النتيجتين المحتملتين لهذه التجارب، وإنما تُعزى إلى ترابط حقيقي، يؤثر فيه التلاعب بأحد الجسيمات الكَميّة على الآخر، وهي ظاهرة وصفها عالم الفيزياء الألماني الشهير ألبرت آينشتاين (1879-1955) بأنها “تأثير فيزيائي غامض يتمثل عن بُعد”، وتعُرف اليوم بالتشابك الكَميّ.

وقد تكهنت نظرية الكم بهذه الميكانيكا المحيرة، ومع ذلك، حتى أينشتاين لم يكن يؤمن بهذه نظرية أنه بإمكان جسيمين ملتصقين في البداية (مثل التوائم) أن يحتفظا بعلامة ماضيهما المشترك ويتصرفا بشكل مشابه، حتى مع وجود مسافة فاصلة بينهما.

لكن تجارب العلماء الفائزين بالجائزة أثبتت خطأ أينشتاين، وصحة هذه النظرية التي لم يؤمن بها، حيث كشفت تجاربهم أن تقدير خصائص كل جسيم في زوج من الجسيمات المتشابكة يؤثر مباشرة في تقدير خصائص الجسيم الآخر، وهو ما يُعزى إلى تأثير ظاهرة التشابك الكَميّ.

هذا التأثير هو ما تقوم عليه فكرة الحاسوبات الكَميّة، وهي حاسوبات تعمل على تسخير قدرة الجسيمات الكَميّة على شغل أكثر من حالة في الوقت نفسه، لإجراء عمليات حسابية مستعصية، يُعد إجراؤها ضرب من المستحيل للحاسوبات التقليدية.

ومن تطبيقات ظاهرة التشابك الكَميّ المذهلة، أن علماء الفيزياء يعتمدون عليها لتطوير شفرات كَميّة، ومنظومات إنترنت كَميّة، ومن المأمول أن تفتح هذه الظاهرة الباب أمام إجراء اتصالات فائقة الأمان، وابتكار أنواع جديدة من أجهزة الاستشعار، والتلسكوبات.

نوبل في الكيمياء.. والكيمياء النقرية

ثالث جوائز نوبل لهذا العام، وهي نوبل في الكيمياء، كانت من نصيب 3 علماء مناصفة هم:  الأمريكية كارولين آر بيرتوزي والدنماركي مورتن ميلدال والأمريكي كيه باري شاربلس، وذلك تقديرا لاكتشافهم مجالين جديدين في الكيمياء المعاصرة، هما الكيمياء النقرية والكيمياء الحيوية المتعامدة.

والكيمياء النقرية هي مفهوم يقوم على التخليق التجميعي للوحدات الصغيرة، بهدف العثور على جزيئات جديدة ذات خصائص مرغوبة في وقت قصير، وتستخدم هذه الكيمياء بالإضافة إلى الكيمياء الحيوية المتعامدة، بصورة أساسية لإجراء تفاعلات تسمح للبنات البناء الجزيئي بالترابط معا لإنتاج مركبات جديدة مطلوبة لتطوير العلاجات الصيدلانية ومن بينها تلك المخصصة للسرطان.

في بيانها، أوضحت الهيئة المانحة للجائزة، أن التقنيات المعروفة باسم الكيمياء النقرية والكيمياء الحيوية المتعامدة تُستخدم الآن على مستوى العالم لاستكشاف الخلايا وتتبع العمليات البيولوجية، كما تُستخدم في تطوير المستحضرات الصيدلانية، لرسم خرائط الحمض النووي وإنشاء مواد أكثر ملاءمةً للغرض”.

وأضافت: “باستخدام التفاعُلات الحيوية المتعامدة، حسّن الباحثون استهداف الخلايا السرطانية بعقاقير يجري حاليا اختبارها سريريًا”.

وبات باري شاربلس، خامس شخص في تاريخ الجائزة، يفوز بنوبل مرتين، إذ سبق له أن حصل على جائزة الكيمياء في عام 2001 لاكتشافاته في تقنية الحفز غير المتماثل.

وكان شاربلس البالغ من العمر 81 عامًا قد توصل لـ”الكيمياء النقرية”. وبعد ذلك، توصل هو وميلدال بصورة مستقلة للتفاعل الكيمائي اللازم لهذه العملية. بعد ذلك قامت بيرتوزي باستكمال العمل للتوصل لتفاعلات يمكن أن تفيد الكائنات الحية. ويستفاد من عملهم الآن لاستكشاف الخلايا وتتبع العمليات البيولوجية وإيجاد سبل أفضل لاستهداف السرطان على سبيل المثال.

ويعمل مورتين ميلدال في جامعة كوبنهاجن، فيما تعمل كارولين بيرتوزي في جامعة ستافورد، وكارل باري شاربلس في معهد سكريبس للأبحاث في كاليفورنيا.

وقال عضو لجنة نوبل للكيمياء يوهان أكفيست إن “جائزة هذه السنة في الكيمياء تتعلق بأشياء غير مفرطة التعقيد، من خلال تفضيل استخدام ما هو سهل وبسيط”.

وأوضح أن الكيمياء الحديثة تسعى إلى إنشاء جزيئات على درجة متزايدة من التعقيد، ولكن اختراعها يستغرق أيضاً وقتاً أطول ويرتب تكلفة أكبر، مضيفا أنه من خلال الكيمياء النقرية والكيمياء الحيوية المتعامدة، “يمكن بناء جزيئات فاعلة من خلال اتخاذ مسار واضح”.

ومن التطبيقات التي يمكن أن تبنى على الكيمياء النقرية، تحقيق اختراقات في علم المواد وعلم الأسطح والكيمياء بشكل عام وفي صناعة الأدوية من خلال “الهندسات الجديدة للجزيئات”.

القيمة النقدية لجائزة نوبل تبلغ 10 ملايين كرونة سويدية (ما يقرب من 900 ألف دولار)، وتقسم بالتساوي إذا كانت الجائزة مُنحت لأكثر من فائز. وسيتم تسليمها في العاشر من ديسمبر المقبل.

أما الأموال فإنها تأتي من وصية تركها مبتكر الجائزة، المخترع السويدي ألفريد نوبل، الذي توفي عام 1895.

ختامًا، على الرغم من أهمية المنجزات التي حققها الفائزون بنوبل هذا العام، تبقى هناك لقطة تستحق الإشادة، وهي من تصريح أنطون سايلينجر الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء لهذا العام.

سايلينجر قال بعد فوزه: “ما كنت لأحصل على هذه الجائزة لولا جهود أكثر من 100 شاب عملت معهم على مر سنوات أبحاثي”، في تصريح يحمل أسمى معاني

الشكر والعرفان بالجميل، لجنود مجهولين يعملون في صمت خلف الكويس، نادرًا ما تجد من يذكرهم وخاصة في لحظات التتويج.