لماذا تواصلت هذه الاحتجاجات رغم الحملة القمعية التي يشنها النظام ضد المحتجين؟

 

مع بداية اندلاع الاحتجاجات الحالية التي تشهدها إيران، منذ 16 سبتمبر الفائت، كان النظام الحاكم واثقاً من أنه سوف يستطيع احتواءها، على غرار ما حدث في الاحتجاجات السابقة، لا سيما احتجاجات أعوام 2009 و2017 و2019.

إلا أن ذلك لم يحدث، حيث تفتتح الاحتجاجات أسبوعها الرابع ، على نحو بات يطرح سؤالاً رئيسياً مفاده: لما تواصلت هذه الاحتجاجات رغم الحملة القمعية التي يشنها النظام ضد المحتجين، والتي تضمنت اعتقال عدد كبير منهم، إلى جانب المؤيدين لمطالبهم على غرار فائزة رفسنجاني ابنة رئيس الجمهورية الأسبق هاشمي رفسنجاني، وفرض قيود شديدة على استخدام شبكة الإنترنت، بالتوازي مع مواصلة شن هجمات ضد قواعد تابعة لجماعات كردية إيرانية مسلحة في شمال العراق؟

في الواقع، هناك أسباب عديدة يمكن من خلالها تفسير استمرار الاحتجاجات حتى الآن، وهى الأسباب نفسها التي يضفي بعضها نوعاً من الخصوصية على تلك الاحتجاجات عند مقارنتها بمثيلاتها من الاحتجاجات السابقة.

إنكار الواقع

أول وأبرز هذه الأسباب يتعلق بإنكار الواقع من جانب نظام ولاية الفقيه، أو بمعنى أدق عدم الاعتراف بالأسباب الحقيقية التي أدت إلى اندلاع تلك الاحتجاجات.

إذ أن النظام ما زال حريصاً على حصر أسباب الاحتجاجات في “وجود مخطط خارجي تدعمه فئة من الداخل”.

لماذا تتواصل الاحتجاجات في إيران رغم الحملة القمعية التي يشنها النظام ضد المحتجين؟

وقد انعكس ذلك في الكلمة التي ألقاها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي خلال مراسم تخرج طلاب جامعات ضباط الجيش الإيراني والشرطة، في 3 أكتوبر الجاري، حيث قال: “ليس هناك منطق وراء ذلك (الاحتجاجات)، وهو عمل لا شك بأنه من فعل وكالات التجسس والمنظرين الأجانب المعادين لإيران”.

توقيت ومكان إلقاء خامنئي هذه الكلمة يطرح بدوره دلالتين مهمتين: أولاهما، أنه ألقاها بمناسبة تخريج ضباط جدد للشرطة والجيش، وهم المكلفون، على الأقل حتى الآن، بمواجهة المحتجين في الشارع، وهى إشارة واضحة من خامنئي لدعم أجهزة الأمن والسلطات بشكل عام في محاولات احتواء الاحتجاجات الحالية وقمع المحتجين.

وربما تكون إشارة أيضاً إلى أن النظام قد يلجأ إلى استخدام آليته الثقيلة ممثلة في الحرس الثوري كخيار أخير في حالة استمرار الاحتجاجات.

وثانيتهما، أنه ألقاها واقفاً، وكأنه يسعى إلى توجيه رسالة للرد على التكهنات التي أثيرت في الفترة الماضية حول صحته- بسبب تقدمه في العمر- حيث تساءلت تقارير عديدة عن سبب غيابه عن بعض المناسبات في الفترة الماضية وتكهنت باعتلال صحته.

المهم في ذلك كله أن كلمة خامنئي أكدت أن النظام يلقي بالمسؤولية كلها على جهات خارجية تسعى، وفقاً لمزاعمه، إلى تأجيج الأزمة الداخلية ونشر الفوضى.

ويعني ذلك في المقام الأول أن النظام يرفض تحمل المسؤولية عن ما آلت إليه الأوضاع المتردية في الداخل على كافة المستويات، والتي أدت إلى تكرار اندلاع الاحتجاجات في الفترة الماضية، سواء لأسباب اقتصادية مثل رفع أسعار الوقود، أو لأسباب معيشية مثل نقص مياه الشرب وتحويل مجرى الأنهار وانقطاع الكهرباء، أو لأسباب اجتماعية مثل القيود المفروضة على حجاب المرأة. واللافت في هذا السياق، أن المسؤولين الإيرانيين الآخرين، مثل الرئيس إبراهيم رئيسي، سرعان ما تلقفوا كلمة خامنئي، وتبنوا الرواية المزعومة نفسها.

وقد أنتج ذلك في النهاية تداعيات عكسية، حيث رد المحتجون على ذلك بتوسيع نطاق الاحتجاجات، والإصرار على تبني الشعارات المنددة بالسياسات العامة للنظام، وعلى تجاوز القيود التي تفرضها السلطات على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

لماذا تتواصل الاحتجاجات في إيران رغم الحملة القمعية التي يشنها النظام ضد المحتجين؟

 

وانتقلت المحتجات تحديداً من مرحلة “قص الشعر”- تضامناً مع الفتاة الكردية مهسا اميني التي توفيت في 16 سبتمبر الفائت بعد تعرضها للاعتداء من جانب شرطة الإرشاد- إلى مرحلة نزع صور قائد الثورة ومؤسس الجمهورية روح الله الخميني والمرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي وإسقاطها وتقطيعها أو إضرام النار فيها. وهنا، فإن هذه الخطوة تحديداً لا تبدو هينة، إذ أنها تحمل دلالة رمزية مهمة، تتمثل في أن موقع المرشد، وقبله مكانة الخميني، لم تعد محل “تقديس” من جانب قسم يعتد به من الإيرانيين.

الجيل “z”

ثاني هذه الأسباب ينصرف إلى اتساع نطاق تأثير ما يسمى بـ”الجيل z” في إيران، وهو الجيل الذي ولد في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي وما بعده. فقد كان لافتاً على سبيل المثال، أن الاحتجاجات لم تعد منحصرة في الشارع والجامعات، بل إنها انتقلت إلى المدارس، على نحو كشفت عنه الصور المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي عن مظاهرات “قص الشعر” و”حرق صور الخميني وخامنئي”.

لماذا تتواصل الاحتجاجات في إيران رغم الحملة القمعية التي يشنها النظام ضد المحتجين؟

هذا الجيل تحديداً يبدو أنه تأثر، أكثر من غيره، بالسبب الظاهر للاحتجاجات الحالية، وهو وفاة مهسا اميني، خاصة أنها تنتمي إليه.

وتشير تقديرات عديدة إلى أن الفئة العمرية التي تقل أعمارها عن 14 عاماً تصل إلى 24% من عدد السكان (حوالي 87 مليون نسمة)، وأن الفئة العمرية التي تتراوح بين 15 و24 عاماً تصل إلى 13% من عدد السكان.

وقد اكتسب هذا الجيل في إيران- مقارنة بغيره من الأجيال- خبرات تكنولوجية جديدة، وبدأ في الوصول إلى مستويات مختلفة من التعلم والمحاكاة مع التجارب الخارجية. وبالطبع، فإن تزايد الاتجاه إلى “الرقمنة” كان له دور في إثراء ثقافة وقيم نوعية لدى هذا الجيل. ورغم أن ذلك لا يقتصر على إيران وحدها وإنما يمتد إلى بقية دول العالم، إلا أنه يكتسب خصوصية في حالة إيران، نظراً للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها.

هنا، فإن هذا الجيل ربما يسبب، في المرحلة القادمة، أزمة للنظام. فقد يكون هو الجيل الذي سيتولى إدارة الاحتجاجات، أو بمعنى أشمل، إدارة العلاقة مع النظام. وبما أنه يبدو مختلفاً، على الأقل من الناحية التقنية والثقافية، فإن الآليات التقليدية التي يتبعها النظام في التعامل مع الاحتجاجات قد لا تجدي نفعاً معه بعد ذلك.

واللافت هو أن تزايد تأثير هذا الجيل يتوازى، أو بمعنى أدق يتناقض، مع ظاهرة “الشيخوخة” التي يبدو عليها النظام، ويعكسها التقدم الكبير في أعمار قياداته، على غرار المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي (83 عاماً)، ورئيس مجلس صيانة الدستور رئيس مجلس خبراء القيادة أحمد جنتي (95 عاماً).

عابرة للطبقات

لم تحظ الاحتجاجات السابقة في إيران بالزخم الاجتماعي نفسه الذي حظيت به الاحتجاجات الحالية. ففي احتجاجات عام 2009، والتي نظمتها ما يسمى بـ”الحركة الخضراء”، اعتراضاً على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، كان لافتاً أنها لم تحظ بتأييد واسع من جانب الطبقة الفقيرة في إيران، ولم تصل إلى مختلف أنحاء الدولة، خاصة أن السياسة “الشعبوية” التي كان يتبناها أحمدي نجاد كان لها دور في استقطاب دعم الطبقة الأخيرة لبرامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كما أن تلك الاحتجاجات كانت لها قيادة ممثلة في رئيس الوزراء الأسبق (ألغى منصب رئيس الوزراء في عام 1989) مير حسين موسوي، ورئيس مجلس الشورى الأسبق مهدي كروبي، وعندما قام النظام بفرض قيود على تحركات الاثنين، حتى وصل الأمر إلى فرض الإقامة الجبرية عليهما حتى الآن، أثر ذلك بشكل كبير على الاحتجاجات وأدى إلى تراجعها في النهاية. وعلى عكس احتجاجات عام 2009، تركزت احتجاجات عام 2019، في المناطق الفقيرة خارج العاصمة طهران، ولم تحظ بزخم طبقي متواصل، في ظل التفاوتات الاجتماعية القائمة.

أما الاحتجاجات الحالية، فإنها مست وتراً حساساً لدى مختلف الطبقات في إيران. فقد كان سببها الرئيسي هو وفاة فتاة عشرينية. وهنا، فإن كون مهسا اميني فتاة ثم كونها عشرينية أضفى على تلك الاحتجاجات طابعاً عابراً للطبقات، باعتبار أن فئتى المرأة والشباب (الجيل z تحديداً) موجودتين في كل الطبقات. وربما يفسر ذلك، إلى حد بعيد، ليس فقط أسباب استمرار اندلاع الاحتجاجات حتى الآن، وإنما توسعها لتشمل عدداً كبيراً من المدن الإيرانية، واستقطابها عدداً كبيراً من أفراد هاتين الفئتين، فضلاً عن عدم اقتصارها على احتجاجات الشارع والجامعات، وإنما تمددها إلى داخل المدارس والمعاهد وغيرها.

أزمة مزمنة

في النهاية، يمكن القول إن هذه الاحتجاجات تحديداً سوف توجه رسالة شديدة اللهجة إلى النظام في إيران، مفادها أنه سوف يغامر في حالة ما إذا أصر على اتباع السياسات الحالية في الداخل والخارج. ويعني ذلك في المقام الأول، أن إصرار النظام على إنكار أن هناك أسباباً داخلية أدت إلى اندلاع الاحتجاجات الحالية، بالتوازي مع استمراره في استنزاف الموارد الإيرانية في دعم الحلفاء من المليشيات المسلحة في الخارج، كل ذلك سوف يكون كفيلاً بتفجر الوضع في الداخل، بشكل قد لا يستطيع النظام احتواءه أو التعامل معه بالآليات نفسها التي يتبعها حالياً.