نجحت الصين في السبعينيات والثمانينيات في تنفيذ إصلاحات اقتصادية، وفي التسعينيات عملت وفق مبدأ “دولة واحدة ونظامان”، مع عودة هونغ كونغ وماكاو تحت ولايتها القضائية.

لكن بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 ونجاحها في اجتيازها بأمان، قررت الصين تصدير تجربتها الاقتصادية، والتوسع في الهيمنة على دول المنطقة ثم دول العالم.

في عام 2011، عندما اقترح وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تطوير طريق حرير جديد، مركزه أفغانستان، قررت الصين التوسع إقليميًا وعالميًا، بإنشاء مبادرة الحزام والطريق.

المبادرة تهدف لإنشاء “مجتمع المصير المشترك للبشرية”، وهو يعتبر نظام عالمي جديد بدولة مركزية هي الصين.

 

الحزام والطريق

أطلقت الصين مبادرة الحزام والطريق في 2013 بميزانية مبدئية 47 مليار دولار أمريكي، ثم في أكتوبر 2014 تم إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وبحلول مايو 2015 انضم حوالي 60 دولة إلى المبادرة.

أصبحت المبادرة علامة تجارية للصين، وفي الفترة 2016-2017، تم تقدير التكلفة الإجمالية لمشاريع البنية التحتية بحوالي 60 مليار دولار أمريكي.

في عام 2017، خصصت الصين 15 مليار دولار أمريكي إضافية لصندوق طريق الحرير، وبحلول نهاية عام 2017، زاد حجم التبادل التجاري للصين مع الدول الشريكة سنويًا بمعدل 6٪، وفي 2019-2020 تم تخصيص 8.7 مليار دولار أمريكي إضافية لاحتياجات البلدان النامية التي شاركت في المشروع.

الصين في إفريقيا

كجزء من خطتها للهيمنة العالمية، ركزت الصين على إفريقيا، القارة المليئة بالموارد، والتي تعتبر أكثر دولها فقيرة وتحتاج إلى قروض للتنمية.

أقرضت البنوك الصينية المدعومة من الدولة الحكومات الأفريقية، مليارات الدولارات، لتبني شركات صينية الطرق والموانئ والمطارات، وربطت بعض الصفقات السداد باستخراج الموارد الطبيعية، أو فرض رسوم المرور على الطرق السريعة.

في فترة 2000-2020، أقرض الصينيون 160 مليار دولار لحكومات أفريقيا، ذهب ثلثاها لتطوير البنى التحتية، وقد بلغت ذروة الإقراض في 2016، ثم بدأ الانخفاض، حتى وصلت القروض في 2020 إلى 1.9 مليار دولار فقط، وهو الرقم الأدنى منذ 2004، بسبب انكشاف فخ الصين للدول الإفريقية، وظروف كورونا وما تبعها من تركيز الصين على أزماتها الداخلية، وتحويل التعامل من القروض إلى الاستثمار والتبادل التجاري.

ارتفعت قيمة التجارة بين الصين وأفريقيا من 10 مليارات دولار في عام 2000 إلى 254 مليار دولار في عام 2021 – أكثر من أربعة أضعاف التجارة بين أمريكا وأفريقيا، حيث انتقلت الصين من كونها المصدر الرئيسي للواردات لأربعة دول إفريقية فقط لمعظم القارة، فقام بنشر منتاجاتها الرخيصة ومتدنية الجودة في القارة السمراء.

في منتدى التعاون الصيني الأفريقي في داكار، تعهدت الصين بزيادة الواردات من إفريقيا، التي بلغت 106 مليار دولار في عام 2021، إلى 300 مليار دولار في غضون ثلاث.

 

فخ الديون

الصين متهمة بخداع المقترضين للاستيلاء على الأصول ضمن ما يسمى “دبلوماسية فخ الديون”، حيث تهتم بنفسها فقط دون النظر لمصالح الدول الأخرى.

في 2020، فحصت مجموعة بحثية غربية 100 عقد بين كيانات صينية ودول نامية، خلصت إلى أن الصين تضع شروطًا صارمة لضمان استعادة أموالها، وتفرض على المقترضين سداد ديونها كأولوية قبل السداد للغير.

كما كشف تقرير عن ديون أفريقيا عام 2020، من جامعة جونز هوبكنز، أن القروض الصينية تشكل 17% من الديون الأفريقية، وبحسب ورقة بحثية صدرت عن البنك الدولي في 2019، فإن 50٪ من الإقراض الصيني للدول الفقيرة كان مخفيًا عن البنك الدولي وصندوق النقد.

كما وضعت الصين مبدأ عام عند إعادة التفاوض بشأن الديون، حيث تقرر تأجيل مواعيد السداد لكنها لا تخفض المبلغ المطلوب سداده.

 

ابتلاع القارة بالشركات

تقول الإيكونوميست أن هناك 10000 شركة صينية نشطة في إفريقيا – عدة أضعاف الشركات الأمريكية العاملة في إفريقيا، ثلثها يحقق أرباح أكبر من 20%.

90% من الشركات الصينية في إفريفيا هي شركات خاصة، ويعمل خمسها في مجال البناء فقط، ويتم إرساء نصف عقود البناء الإفريقية على الشركات الصينية.

كما يعمل ثلث الشركات الصنيية في التصنيع، حتى أصبحت تستأثر بـ12% من الإنتاج الصناعي الإفريقي، ويتم استخدام القارة كقاعدة للصادرات لبعض الشركات.

لا تقوم الشركات الصينية بتوظيف الأفارقة في المستويات العليا، وتحارب منافسيها المحليين، حتى تسبب ذلك في إغلاق بعض شركات السيراميك والشعر المستعار المحلية في نيجيريا، ولا تقوم الشركات الصينية بمراعاة الاشتراطات البيئة في إفريقيا، حتى التي تفرضها بكين داخل الصين.

 

نشر الفساد

وافقت العديد من الدول الإفريقية على الإقتراض من الصين بسبب رغبتها في القيام بمشروعات ضخمة لم تجد تمويلاً كافيًا لها.

الصين قدمت تسهيلات كبيرة، حيث كانت تسرع من إتمام العقود لإغراء الدول الإفريقية، ولذلك قال الرئيس السنغالي السابق عبدالله واد إن “العقد الذي يستغرق خمس سنوات للمناقشة والتفاوض والتوقيع مع البنك الدولي يستغرق ثلاثة أشهر عندما نتعامل مع السلطات الصينية”.

استغرق متوسط إتمام صفقات مشروعات البنية التحتية في مبادرة الحزام والطريق، التي وقعت عليها 43 دولة أفريقية: 2.8 سنة، أي ما يقرب من ثلث الوقت الذي يحتاجه البنك الدولي أو بنك التنمية الأفريقي.

لكن هذا الوضع جلب الكثير من المخاطر للدول الإفريقية، حيث شابها الفساد بسبب تضخيم التكلفة لزيادة أرباح وعمولات بعض القادة السياسيين الفاسدين.

وجدت ورقة بحثية استقصائية، أجريت في 2018، على مشاريع صينية في 29 دولة أفريقية، أن السكان المحليين أبلغوا عن زيادات في الفساد، وهو ما لم يحدث مع مخططات البنك الدولي، وخلص المؤلفون إلى أن ذلك يدل على أن الوجود الصيني أثر على المعايير.

كمثال، سيطرت الصين على 15 منجمًا من أصل 19 منجمًا لإنتاج الكوبالت في الكونغو، وفشلت الطلبات الأمريكية بفك الارتباط في إرجاع أي منها للكونغو، بسبب العلاقات الصينية مع السياسيين المحليين في مناطق المناجم.

كما قامت الصين بنشر ثقافة الحزب الواحد في الدول الإفريقية، وبدأت تحث الدول على اتباع نموذج الحكم الذي يجسده الحزب الشيوعي الصيني.

 

من الاقتصاد للسياسة

مع تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا، بدأت الصين موجة جديدة من الدبلوماسية في إفريقيا، للهيمنة على التجارة مع الدول الغنية بالموارد وغير القادرة على السداد، بجانب الحفاظ على العلاقات الودية مع القادة الأفارقة.

تعد حملة الصين لتعزيز الولاءات الأفريقية جزءًا من منافسة جيوسياسية كبيرة، والتي اشتدت منذ بداية الحرب في أوكرانيا، حيث تتنافس بكين وواشنطن الآن بشراسة على الولاءات في آسيا، وتتنافسان الآن على نطاق واسع من أجل النفوذ، حيث تقف الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤها الديمقراطيون ضد الصين وروسيا وإيران.

الآن في إفريقيا، تعدل الصين نهجها، وتدمج بشكل أوثق الجهود المالية والدبلوماسية، حيث وجدت الصين أن بناء طرق سريعة جديدة وسدود الطاقة الكهرومائية وناطحات السحاب – كما حاولت أن تفعل مع مبادرة الحزام والطريق – لا يكفي لتأمين العلاقات.

في حين أن المبادرة ساعدت على إبعاد الولايات المتحدة إلى مرتبة الدرجة الثانية في العديد من الدول، فقد ضاعفت المشاريع أيضًا من التوترات وزادت من أزمة الديون المتصاعدة.

كتعديل المسار، بدأ الزعيم الصيني، شي جين بينغ، مبادرة جديدة للأمن العالمي في الربيع، وهي جهد واسع للجمع بين البلدان النامية.

 

الوصايا على إفريقيا

بدأت بكين فرض وصايتها على الدول الإفريقية بعد مرحلة الإقراض والاستثمار، حيث عرضت بكين التوسط في النزاعات الأهلية التي تسبب مجاعات، والأهم من ذلك أنها أعلنت استراتيجية جديدة لحل أزمة مليارات الدولارات في القروض الصينية المتأخرة.

بناء على المشاريع الاقتصادية، تغير الصين رسائلها الدبلوماسية. بدلاً من الابتعاد عن القضايا الشائكة، فهي تشارك بشكل مباشر، حتى لو لم يتم الترحيب بها دائمًا.

في يناير، زار وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، ثلاث دول أفريقية، وقال إن الصين تريد المساعدة في حل صراعاتهم، وعينت الصين شيويه بينج مبعوثا جديدا للقرن الأفريقي، في فبراير.

سافر شيويه، السفير الصيني السابق لدى بابوا غينيا الجديدة، إلى عدة دول، بما في ذلك كينيا وإثيوبيا وإريتريا والسودان وجنوب السودان، وفي يونيو، دعا شيويه وزراء الخارجية ونواب وزراء الخارجية من خمس دول في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، متفاخرًا بأن الصين تتبع نهجًا عادلًا في النزاعات الأهلية طويلة الأجل.

 

محاولة لتلميع الصورة

لتحسين صورة الصين التي تضررت في الدول الأفريقية بفضل سياسات الإقراض المشبوهة، وتحت ضغط من المؤسسات المالية المتعددة الأطراف، شاركت الصين لأول مرة في اجتماع مع نادي باريس للدول الدائنة لبدء حل مشكلة ديون زامبيا في يونيو الماضي، من أجل التوصل لتمديد فترة السداد لزامبيا أو تخفيض قيمة القرض بالنسبة للصين.

قال جيود مور، وزير الأشغال العامة السابق في ليبيريا والمحلل الآن في مركز التنمية العالمية في واشنطن، إنه إذا تم التعامل مع أزمة ديون زامبيا بشكل أكثر انفتاحًا، فيمكن للصين تلميع صورتها وفتح آفاق جديدة مع الدول الأفريقية.