تغيّرات عالمية هائلة بعد ظهور فيروس كورونا

لم تقتصر التغيّرات الهائلة التي اكتسحت العالم منذ تسجيل أوّل إصابة بفيروس كورونا في 17 نوفمبر العام 2019، على النواحي الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، بل شملت كذلك الجوانب الطبية بما تحمله من علوم معقّدة كعلوم التطبيب وصناعة العقارات والأدوية وتطوير اللقاحات، وما رافقها من تخبّط وانتقاد وجّه لهذا القطاع الحيوي في كثير من دول العالم، بالتزامن مع إصابة ووفاة الملايين. وكلّ ذلك يحصل في ظلّ تنافس محموم بين الشركات العملاقة على إنتاج لقاح للفيروس، الذي انتشر إنطلاقاً من الصين.

وبعد إنتاج العديد من اللقاحات حول العالم، حاولت بكين تسويق منتجها من اللقاح، مستغلّة نهم الدول لتلقف أيّ عقار طبي قد يحدّ من انتشار الجائحة… فعملت الصين على تأجيج حملة عبر منصاتها الإعلامية تهدف إلى التشكيك باللقاحات المنافسة، وتسويق لقاحها في الوقت نفسه، مدّعية أنّه اللقاح الأكثر أماناً في العالم، متناسية التاريخ المشبوه لكثير من منتجاتها الطبية على مدار السنوات السابقة.

دول العالم سعت إلى الحصول على تلك اللقاحات رغم تنوعها واختلاف تركيبها الكيميائية، وسط تخوّفات أطلقها بعض الباحثين تتعلق بجدوى تلك اللقاحات، خصوصاً تلك التي تمّ إنتاجها في دول ليس لها تاريخ أبيض في ما يتعلق بالمنتجات الطبية والعقاقير.

ولعل من أبرز اللقاحات التي أثيرت حولها شكوك لناحية فاعليتها، تلك التي تمّ إنتاجها في الصين، بلد نشوء الفيروس، والسبب يعود لعدم إفصاح الحكومة هناك بشكل شفّاف عن مدى نجاعة هذا المنتج الطبي.

النقطة الأبرز تكمن في طبيعة الحكم في الصين، فهذا البلد لا تتمتع مؤسساته وحتى شركاته الخاصة بهامش من الحرية، فكلّ شيء هنا مقيّد، وحتّى في المجال الطبي، إذ لا يمكن الإفصاح عن نتائج التجارب الطبية بكلّ شفافية، من دون تدخّل من الحكومة أو من أيّ فئة لها مصلحة في إبقاء نتائج التجارب طيّ الكتمان، وخير دليل على ذلك، أنّ بكين ما زالت تتهرب من كشف نشأة الفيروس الذي اجتاح العالم، ومازال يفتك بأرواح الآلاف حول المعمورة.

يود: على الصين أن تكشف عن بيانات التجارب السريرية ونتائجها بشفافية

جيريمي يود، وهو باحث في سياسات الصحة العالمية، اعتبر في مقابلة خاصة مع “أخبار الآن“، أنّ مشكلة المنتجات الطبية الصينية تكمن في عدم إفصاح المسؤولين هناك عن البيانات ونتائج التجارب السريرية بشكل شفاف ومحايد، وقال: “أعتقد أنّ المشكلة تكمن في عدم وجود أيّ نوع من الشفافية ومشاركة البيانات، مقابل إفصاح الدول التي تمكّنت من بناء قدر من الثقة في نظامها الصحي وأنظمتها العلمية، عن نتائج تجاربها من دون أن تكتفي بالقول إنّ منتجنا فعّال ورائع”.

وأضاف: “يجب على الصين أيضاً أن تفصح عن المعلومات والبيانات التي يمكن تقييمها بشكل مستقل، وتحديد ما إذا كان ما تدعيه يطابق الواقع وهل هو موجود أم لا.. هذا هو الجزء الذي تفتقر إليه الصين، وهو أمر مؤسف، لأنّ الديبلوماسية الصحية كانت جزءاً مهمّاً من استراتيجية بكين الديبلوماسية الشاملة، التي تعود إلى أكثر من 50 عاماً”.

لقاح كورونا المزور!

ما سبق أعاد إلى الأذهان آخر حادثة تتعلق بتزوير الأدوية والمنتجات الطبية في الصين، بعدما اكتشفت السلطات بداية هذا العام عن إنتاج كميّات كبيرة من لقاح فيروس كورونا المزوّر وطرحه في السوق السوداء، وقد تمّ إلقاء القبض على المزوّرين الذين جنوا ملايين الدولارات بعد إنتاج أكثر من 58 ألف جرعة مزيفة مستخدمين قنوات حكومية لتسويق لقاحاتهم، الأمر الذي أثار الريبة في مدى نجاعة المنتجات الطبية الصينية، وفي هذا السياق قال يود: “هذا هو السؤال الأهم بالفعل، لقد رأينا بعض لقاحات كوفيد-19 التي طوّرتها الشركات الصينية حتى الآن وعلى الأقل على الورق.. المعلومات الأوّلية التي نحصل عليها من الحكومة الصينية تبدو جيّدة إلّا أنّها دون المستوى المطلوب من الشفافية، ومن دون الإستعداد كذلك لمشاركة البيانات الأوّلية، والسماح للمحققين الآخرين بالتأكّد منها”. وتابع: “سيكون من الصعب الوثوق بالصين، الأمر الذي سيضع البلدان الأخرى في موقف صعب.. سيختارون في نهاية المطاف ذلك اللقاح بسبب الحاجة الملحّة له وسيقولون: نعم نحن نريد هذا اللقاح، نعتقد أنّه آمن لشعبنا”.

الباحث لفت لـ”أخبار الآن” إلى أنّ ضعف الرقابة الحكومية على المنتجات الطبية الصينية، يجعلها عرضةً لمزيد من الشكوك، وقال: “ثمّة تسجيلات لاحظنا فيها أدلّة تظهر أن السلطات الصينية تفتقر إلى الإشراف على مصانع الأدوية الجديدة أو على السوق السوداء للشركات المزوّرة قيد الإنشاء التي تحاول بيع بضاعتها، فتغزو هذه الأدوية الأسواق في مختلف البلدان قبل أن تتمكن الدولة من استرجاعها أو إخضاعها لبعض إجراءات التحكّم، وثمة مرحلة تُباع فيها الأدوية والأفراد يشترونها لكن لا يمكننا أن نحدّد مدى مصداقيتها”.

وعن مدى نجاعة اللقاح المضاد لكوفيد-19 والذي أنتجته بكين، قال يود: “هناك اتهامات عديدة بينها، أنّ الصين تفتقر للشفافية في ما يتعلق بأصل كوفيد-19، كما أنّ الحكومة لا ترغب في إتاحة المعلومات للمفتشين الدوليين من أجل معرفة كيف ظهر هذا الفيروس وانتشر.. هذا جزء من التحقيقات، أمّا الجزء الثاني، فيتمحور حول اللقاحات التي أنتجتها الشركات الدوائية الصينية، ورغم أنّ بكين تدّعي أنّها فعّالة، إلّا أنّ غياب الشفافية في إتاحة المعلومات، يجعل من الصعب تصديق ما تفصح عنه السلطات الرسمية في الصين”.

سيناريوهات عديدة محتملة حول نشأة فيروس كورونا

وتابع يود لـ”أخبار الآن“: “يوجد سيناريوهات عديدة محتملة حول نشأة فيروس كورونا، وربّما السلطات الصينية لم تستوعب ما حدث في بداية انتشار الوباء، ولكن نظراً للديناميكيات الجيوسياسية التي طرأت في ما يخص كوفيد-19 وعلاقة الصين بالدول الأخرى، فإنّه قد يشعر المسؤولون الصينيون ببعض الحرج أو الخوف من الإفصاح، وهذا التحقيق قد يضع الصين أمام ادعاءات بسوء التصرّف عمداً”.

ودعا الباحث في سياسات الصحة العالمية الحكومات التي تلقت لقاحات من الصين، إلى أن تجري أبحاثاً إضافية على تلك اللقاحات وقال: “إذا كنت مسؤولاً في أيّ وزارة للصحة في الدول التي تتلقى اللقاح من الصين، لأثرت الشكوك حول مدى فعالية اللقاح، وسأطرح بعض الأسئلة بسبب نقص الشفافية ومشاركة البيانات في الصين، وثمّة أمور كهذه حصلت سابقاً.. وبناءً عليه كنت سأطالب بالمزيد من الأدلّة التي تثبت فعالية هذه الأدوية التي تعطى للشعوب”.

وتابع يود: “لقد رأينا بعض التحركات في السنوات الـ 15 الماضية لمعالجة ذلك وبناء الثقة،لكن لم تلقَ هذه التحركات التمويل الكافي لضمان انخراطها في التحقيقات، وبما أنّ المشكلة خرجت عن السيطرة، فإنّ ذلك يستدعي إجراءات حاسمة من قبل الحكومة الصينيةمن أجل إرجاع الشركات الدوائية الصينية إلى هذه المعايير بما بعيد الثقة”.

وأضاف: “لقد رأينا هذه اللقاحات الصينية تشكل جزءاً من سياسة الصين الديبلوماسية لناحية اللقاحات،في محاولة منها لتمييز نفسها عن منافسيها الحيوسياسيينمثل الهند وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية.وفي تساؤل حول ما ستؤول إليه الأمور، خصوصاً مع وجود أسئلة استفهام تدور حول جودة اللقاحات. إنّ ذلك سيضع الصين في موقف محرج، وستختبر مدى قوة وزارات الصحة مقابل الوزارات الخارجية، مشيراً إلى أنّه ثمة أسئلة أخرى تدور حول سمعة الصين في النظام الدولي، إذ توجد دوافع تنافسية على وشك التصادم مع بعضها البعض، في الوقت الذي أصبحت فيه الديبلوماسية الصحية وديبلوماسية اللقاحات جزءاً أساسياً من استراتيجية الصين”.

ما حجم التكلفة؟

يقول يود لـ”أخبار الآن” إنّه “من الصعب تقدير التكلفة الإجمالية، لكن في حال استمر هذا الأمر، فنحن أمام أضرار تلحق بحياة الناس ليس في الصين فقط، بل في دول أخرى أيضاًوذلك يتعدى الحسابات الإقتصادية”. وتابع: “آمل أن ينتج عن ذلك حركة ضمن الحكومة الصينية للإجابة على هذه الأسئلة، ولإعطاء الأولوية لإيجاد نظام يقيم الإدعاءات الدوائية ولمشاركة هذه المعلومات مع العالمواستعادة الثقة”.

وأردف قائلاً: “يخطر ببالي أمران لناحية الإستراتيجية المحتملة،الأوّل هو رفض هذه الأدوية إنْ لم تكن تعتزم الصين مشاركة البيانات معنا،كما أنّه في حال لم تكن تنوي الشفافية، فنحن لن نقبل هذه المستحضرات. أمّا الأمر الآخر، فهو أنّ ذلك يشجع الدول الأخرى على مشاركة بياناتها والتحلّي بالشفافية”، معتبراً أنّ الصين والهند تشهدان منافسة في سباق اللقاحات في الأشهر القليلة الماضية، وقد يكون ذلك انطلاقة للهند للإفصاح عن الأسباب التي تميّزها عن الصين، وللإدلاء بالمعلومات والبياناتوتقديم نفسها على أنّها قادرة على مساعدة الناس أكثر من الصين، قد يصبح الأمر جزءاً من المنافسة الجيوسياسية، وهذه طريقة للي ذراع الصينالتي لن ترغب في أن تتضرر أو تتخلف عن ركب الدول الأخرىفي حال وجود مخاوف حول اللقاح والمستحضرات الدوائية.

وختم يود حديث لـ”أخبار الآن“: “حتى الآن مازالت الصين تقاوم ولا أعلم ما إنْ كان ذلك ما سيدفع بالحكومة أخيراً للإقرار ببعض الأخطاء. إنّني أميل للإعتقاد بأنّنا لم نبلغ هذه المرحلة بعد، لكن في حال استمرار ذلك أو في حال شهدنا إصابات ووفيات على نطاق واسع بسبب هذه الأدوية واللقاحات المزيفة،قد يشكل ذلك دافعاً للحكومة لاتخاذ موقف تصحيحي أو للإعتراف بذبنها”.

شبهاتٌ أُثيرت حول منتجات طبية صينية

ثمّة الكثير من الشبهات التي أُثيرت حول منتجات طبية صينية، وقد وردتها في تقارير نشرتها أهم الصحف حول العالم خلال تفشي الوباء وما سبق تلك المرحلة. فموقع “SUPCHINA” الإخباري، نشر تقريراً في الـ16 من شهر فبراير الماضي، تحدث فيه عن “تاريخ الأدوية الصينية في التزييف ومشكلات الجودة”، رغم أنّ بكين عملت خلال السنوات العشرين الماضية على تحسن قطاعها الصحي بالتزامن مع الطفرة الإقتصادية التي شهدتها البلاد، ومع ذلك فإنّ تاريخ الصين في منتجاتها ليس جديراً بالثقة، خصوصاً في ما يتعلق بالمنتجات الطبية.

الموقع الإخباري استشهد بعملية التزوير الواسعة في السوق السوداء بداية هذا العام، عندما تمّ إلقاء القبض على مزورين للقاح الصيني المضاد لكوفيد-19، وقد جنوا ملايين الدولارات بعد إنتاج أكثر من 58 ألف جرعة مزيفة مستخدمين قنوات حكومية لتسويق لقاحاتهم، إلّا أنّ اللافت أنّها ليست الحادثة الوحيدة، فالسلطات تحقق بـ21 حادثة مماثلة، وبالتالي فإنّ مجموع عمليات التزوير أعاد إلى الأذهان مرّة أخرى مشكلة مزمنة في الصين، وهي “الاحتيال الدوائي”.

كورونا

ففي العام 2001، توفي 192 ألف مريض صيني بسبب استخدام أدوية مزيفة، وفي العام ذاته، حققت بكين في 480 ألف حالة تصنيع لأدوية مزيفة.

ويؤكّد التقرير أنّه على الرغم من صعود الصين السريع خلال الأعوام الـ20 السابقة في صناعة المنتجات الطبية، إلّا أنّ الآثار الجانبية لهذا التطوّر السريع تشمل الإحتيال في الملكية الفكرية، والأدوية الإحتيالية، والإهمال المتعمّد في جمع البيانات السريرية، حتى داخل الشركات الكبرى مثل Sinovac.

كما أنّه لم يتم اتباع المعايير المقبولة عالمياً للصرامة العلمية في ما يتعلق بالمنتجات الطبية، وسط معلومات تفيد بأنّ العلماء الصينيين ينشرون معلومات ضئيلة وبشكل غير متناسب عن نتائج التجارب السريرية السلبية، وقد وجدت التحقيقات الحديثة حتى العام 2016 أن ما يصل إلى 80 % من البيانات السريرية ملفقة.

وقد انتشر الإحتيال والتزوير الصيدلاني الصيني حتى في دول أخرى، فعلى سبيل المثال كشفت السلطات السورية فضيحة أدوية السرطان الصينية غير الفعالة في العام 2010. وفي العام 2013 تمّ ضبط 1.4 مليون عبوة من عقاقير الملاريا الصينية المزيفة في أنغولا، كما كشفت فرنسا  عن أكبر عملية ضبط للعقاقير المقلّدة في الإتحاد الأوروبي، حيث تمّ تداول 2.4 مليون دواء مزيف تمّ إنتاجه في الصين.

ورغم سعي بكين لاجتثاث الفساد في قطاع الصناعات الطبية بعدما أصبحت إحدى أهم قطاعات الدخل القومي عبر إصدار قوانين متعددة وملاحقة الفاسدين كما حدث في العام 2007، عندما أعدمت السلطات رئيس سلامة الغذاء الصيني “تشنغ شياويو” بسبب أدوية مزيفة، إلّا أنّ هذه القوانين لا تضمن وضع حدّ للممارسات الفاسدة في قطاع الأدوية، وهو الأمر الذي أكّده “يانزونغ هوانغ” وهو الزميل الأوّل للصحة العالمية في مجلس العلاقات الخارجية الصينية للموقع الإخباري، إذ قال إنّ إصلاح قطاع المستحضرات الصيدلانية المليء بالفضائح يتطلب من الحكومة معالجة القضايا الراسخة الأخرى، بما في ذلك الثغرات في الرقابة الداخلية للشركات، والإفتقار إلى الشفافية والمساءلة”.

الصين

مركز لإعطاء جرعات اللقاح المضاد لكورونا في الصين – رويترز

اختبارات معيبة

في 28 أبريل العام الماضي، نشرت شبكة الـ “بي بي سي” تقريراً عن إلغاء الهند طلبات شراء لنحو نصف مليون منتج يجري اختبارات سريعة لفيروس كوفيد-19، بسبب عيوب فيه، كما سحبت دلهي المجموعات السابقة التي كانت قيد الاستخدام بالفعل في ولايات هندية عديدة. وتبيّن أنّ المنتج يمتلك معدّل دقة بنحو 5 % فقط، إضافةً إلى تشخصيه لمرضى مصابين بالفعل بكورنا، على أنّهم غير مصابين بالفيروس.

ورغم تقديم الهند أدلة دامغة حول فشل المنتج الصيني في اختبارات كوفيد-19، إلّا أنّ بكين أصرّت على رفض الإدعاءات الهندية، وبقيت متمسكة بموقفها حول فعالية منتجها، الأمر الذي تسبّب بأزمة ديبلوماسية بين البلدين بسبب المدفوعات الهائلة التي كانت الهند قد سدّدتها إلى الصين.

ضحايا آخرون للمنتجات الصينية

في الأوّل من أبريل العام 2020، نشر موقع “اي بي سي” تقريراً عن قيام السلطات في أستراليا، بضبط معدّات للوقاية من فيروس كورونا المستجد كانت قد استوردتها من الصين، بسبب عيوب في المنتج. وبدأت السلطات في مصادرة أقنعة الوجه المعيبة المصنوعة في الصين وغيرها من الملابس الواقية التي يتمّ تصديرها إلى أستراليا للمساعدة في وقف انتشار فيروس كورونا.

الموقع الإخباري واستناداً إلى شهادة أحد المسؤولين، كشف عن قيام السلطات بمصادرة 80 ألف قناع للوجه بقيمة إجمالية تزيد على 1.2 مليون دولار، وفي المقابل حظرت أستراليا  تصدير أقنعة الوجه والقفازات والعباءات والنظارات الواقية والمناديل الكحولية ومعقّمات الأيدي، لتعويض النقص الشديد في منتجات الحماية بعدما تبيّن عدم فعالية المنتجات الصينية، كما رفضت إسبانيا وتركيا معدّات الحماية الصينية الصنع، وأعلنت وزارة الصحة الهولندية أنّها سحبت 600 ألف كمامة للوجه صينية الصنع في الـ28 مارس العام 2020.

بدورها نشرت صحيفة “لوس انجلس تايم” الأمريكية تقريراً في 10 أبريل العام 2020، تحدّث عن الأقنعة والإختبارات المعيبة للمنتجات الصينية الخاصة بالحماية من فيروس كورونا المستجد، عازية ذلك إلى “مشكلة في مراقبة الجودة في الصين”، إثر شكاوى قدمتها السلطات الصحية في إسبانيا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وتركيا وبريطانيا حول وجود خلل في اختبارات المضادات أو الأجسام المضادة لفيروس كورونا التي تمّ شراؤها من الشركات الصينية وكلفت حكومات تلك الدول ملايين الدولارات.

فعلى سبيل المثال، ألغت جورجيا عقداً مع الشركة الصينية التي أرسلت مجموعات اختبار معيبة إلى إسبانيا، واختارت ماليزيا شراء مجموعات اختبار من كوريا الجنوبية بدلاً من الصين بسبب انخفاض معدل الدقة في الاختبارات الصينية، واختبرت فنلندا شحنة من معدات الحماية الشخصية صُنعت في الصين، حيث وجدت أنّ العناصر غير مناسبة للاستخدام في المستشفيات.

وحاولت السلطات في الصين كبح جماح مصنّعي معدات الوقاية الشخصية المعيبة، بالتزامن مع الطلب الهائل على تلك المنتجات، وقد اعتقلت العشرات من المزوّرين وهدّدت من ينتجون منتجات طبية رديئة الجودة بالسجن مدى الحياة، وشدّدت كذلك فحوصات الجودة في الجمارك واشترطت الحصول على شهادة محلية بالإضافة إلى التراخيص الأجنبية للمنتجات الطبية التي يتمّ شحنها إلى الخارج.

الصحيفة الأمريكية في تقريرها الذي نشرته في ذلك الوقت، أوردت تصريحاً لـ”دان هاريس”، المحامي والمستشار القانوني للإستيراد من الصين، قال فيه: “إنّها فوضى كاملة”، واصفاً الوضع حينها بأنّه “غير مسبوق”، في ظل سعي الموردين الصينيين تعويض الخسائر بعد شهور من الإغلاق بسبب إجراءات الحجر الصحي.

وحاول موقع “اي بي سي” تسليط الضوء على أزمة الثقة في المنتجات الطبية الصينية خلال تفشّي الجائحة، فنشر تقريراً في تموز العام 2020، كشفت بموجبه أنّ أكثر من  50 % من سلع الحماية من فيروس كوفيد 19 المقلّدة في أمريكا، تأتي من الصين. حينها نقل الموقع الإخباري تصريحات أدلى بها “ستيف فرانسيس” رئيس المركز الوطني لتنسيق حقوق الملكية الفكرية في أمريكا وقال:  “56 % من المضبوطات لدينا تأتي من الصين أو هونغ كونغ.. 85 % من كلّ السلع المقلّدة على مدى السنوات الـ5 الماضية أتت من الصين”.

تجارة الموت

الأمثلة السابقة أزاحت الغبار عن مشكلة قديمة جديدة – إن صحّ التعبير –  تمسّ قضايا المنتجات الطبية المزوّرة، وتلك ليست بالمشكلة الحديثة التي طرأت بعد تفشي كورونا كما أسلفنا، بل لها جذورها العميقة منذ عشرات السنوات، ولها أسبابها ومسبباتها، وتشكل تهديداً حقيقياً في العالم، وهنا نستعرض مقتطفات من تقرير نشرته مجلة “PLOS Medicine” الطبية في 14 مارس عام 2005، وتحدّث عن تهديد عالمي جرّاء انتشار الأدوية المزيفة، ووجوب إبلاغ الحكومات عن المخاطر الناتجة عن أي منتج مزيف أو غير فعال.

وترى المجلة في تقريرها، أنّ العديد من شركات الأدوية والحكومات تبقى متردّدة في نشر مشاكل الأدوية لموظفي الصحة والجمهور، بدافع على ما يبدو من الإعتقاد بأنّ الدعاية ستضر بمبيعات المنتجات ذات العلامات التجارية في عمل تجاري شديد المنافسة.

وتشير التقديرات وفق المجلة الطبية، إلى أنّ ما يصل إلى 15 % من كلّ الأدوية المباعة في العالم مزيفة، كما تقدر إدارة الغذاء والدواء أنّ الأدوية المزيفة تشكل ما يقرب من 10 % من سوق الأدوية العالمي، ورغم ذلك لم تتلق منظمة الصحة العالمية (WHO) أيّ تقارير عن أدوية مزيفة من الدول الأعضاء بعد العام 2002، وتلقت 84 تقريراً فقط بين عامي 1999 و 2002.

ومن أبرز الأمثلة التي أوردتها مجلة “PLOS Medicine” الطبية عن أثار الأدوية المزيفة، وفاة نحو 192 ألف مريض صيني في العام 2001 بسبب الأدوية المزيفة، وإغلاق السلطات هناك في ذات العام  1300 مصنع للأدوية أثناء التحقيق في 480 ألف حالة من الأدوية المزيفة بقيمة وصلت إلى 57 مليون دولار أمريكي”.

وفي العام 2004، ألقت السلطات الصينية القبض على أعضاء 22 شركة مصنعة لحليب الأطفال المجفف سيء الجودة، وأغلقت 3 مصانع بعد وفاة أكثر من 50 رضيعاً في ذلك البلد.

كما اعتقلت السلطات الصينية في أغسطس العام 2012، أكثر من 1900 شخص ضمن حملة تهدف للقضاء على صناعة وترويج الأدوية المزيفة. حينها صادرت الشرطة منتجات بقيمة 1.16 مليار يوان (182 مليون دولار)، وكان منها منتجات لماركات عالمية معروفة تستخدم في علاج مرض السكري وارتفاع ضغط الدم ومشاكل الجلد والسرطان.

وتشير التقديرات إلى أنّه في الصين وحدها، يموت ما بين 20 إلى 30 ألف شخص كل عام بسبب الأدوية المزيفة، ففي 29 أبريل العام 2006، أعلنت وزارة الصحة الصينية أن الأدوية المزيفة التي يُزعم أنها تخفض نسبة السكر في الدم أدت إلى ما لا يقل عن ثلاث حالات تسمم بالدم العام 2005، كما أعلنت إدارة الدولة للغذاء والدواء (SFDA) في ذلك البلد أنها حظرت في الفترة من يناير إلى نوفمبر 2005، 114 ألفًا من مصنعي الأدوية غير المرخصين وأغلقت 461 مصنعاً غير قانوني للأدوية.

وفي 10 أبريل العام 2014، ضبطت الجمارك الفرنسية 10 أطنان من الأسبرين المزيّف وأدوية لعلاج ضعف الإنتصاب والإسهال تمّ إنتاجها في الصين، فيما وصفته بأكبر مصادرة على الإطلاق لأدوية مزيفة في الاتحاد الأوروبي.

في ديسمبر 2000 صادرت الجمارك البلجيكية 57600 عبوة من كبسولات GSK Halfan المزيفة و 4400 عبوة من GSK Ampiclox المزيفة (الأمبيسلين) و 11000 عبوة من GSK Amoxil المزيفة (أموكسيسيلين) وهي في طريقها من الصين إلى نيجيريا لمعالجة الملاريا. لاحقاً تبين أن المزورين في الصين يستعدون لتصدير 43 طنًا من 17 علامة تجارية من الأدوية ومن سبع شركات أدوية دولية.

في العام 2006، نشرت منظمة “The Center for Medicine in the Public Interest” تقريراً تناول الحجم الهائل من الأدوية المزيفة التي تنتجها الصين ومدى خطورتها على العالم، وقدر التقرير أنّ تجارة العقاقير المقلّدة ستنمو على مستوى العالم بنسبة 13 % سنوياً،  وستدر  في العام 2010 نحو 75 مليار دولار من العائدات بزيادة 92 % عن 2005.

واللافت ما كشفته المنظمة الطبية أنّ النسبة الكبيرة من الأدوية المزيفة في العالم تأتي من آسيا وينتهي بها الأمر في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والصين على وجه الخصوص هي أكبر مركز لإنتاج الأدوية المزيفة. ففي العام 2001 أغلقت السلطات الصينية  1300 مصنع أثناء التحقيق في4801 ألف حالة من الأدوية المزيفة بقيمة وصلت إلى 57 مليون دولار.

وفي شهر ديسمبر العام 2005، اعترض موظفو الجمارك الأمريكية أكثر من 50 شحنة من عقار “تاميفلو” المقلّد، وهو دواء مضاد لفيروس إنفلونزا الطيور الذي يتمّ تخزينه تحسباً لانتشار الوباء، تمّت كتابة المعلومات الطبية لهذا المنتج باللغة الصينية، في حين عثرت السلطات الأمريكية في مطارات نيويورك وميامي على أكثر من 25 مادة طبية مزيفة من أصل صيني.

وتلفت المنظمة الطبية في تقريرها الذي أصدرته في العام 2006، إلى أنّ وكالة الصحة النيجيرية NAFDAC انتقدت في ذلك الوقت الصين لعدم رغبة الأخيرة في التعاون لوقف إنتاج الأدوية المزيفة، إذ تمثل تلك الأدوية ما نسبته  68% من سوق الأدوية في نيجيريا وبمعظمها يأتي من الصين. كما أعلن مكتب التحقيقات الجنائية التايواني (CIB) أن ما يقرب من 9 ملايين دولار من الأدوية المزيفة تم ضبطها مؤخرًا، وشملت أدوية لعلاج نزلات البرد، وأدوية الجهاز الهضمي، والمهدئات، وأدوية السمنة والضعف الجنسي، وجميعها تم انتجه في الصين.

تجارب سريرية ملفقة

في سبتمبر العام 2016، أفادت وسائل إعلام حكومية صينية بأنّ الجهة المنظمة للأغذية والأدوية في ذلك البلد أجرت مؤخراً مراجعة لمدة عام واحد للتجارب السريرية، وخلصت إلى أنّ أكثر من 80 % من البيانات السريرية “ملفقة”. وكان موقع “راديو آسيا الحرة” أورد تقريراً تحدّث عن “ممارسات احتيالية” للتجارب السريرية، منتشرة بشكل واسع في الصين.

وقالت إدارة الغذاء والدواء الحكومية في تقريرها الصادر في ذلك الوقت، إنّ الفضيحة هي نتيجة “خرق للواجب من قبل إدارات المراقبة وسوء التصرّف من قبل شركات الأدوية والوكلاء الوسطاء والعاملين الطبيين”.

ونظرت المراجعة في بيانات من 1622 برنامجاً للتجارب السريرية للعقاقير الصيدلانية الجديدة التي تنتظر موافقة الجهات المتخصصة عليها، وتمّ إلغاء أكثر من 80 % من طلبات الإنتاج الضخم للأدوية الجديدة في ضوء تلك النتائج.

ولا تقتصر مشاكل السلامة العامة في الصين على صناعة الأدوية، ومن غير المرجح أن يفاجئ الرقم 80 % الكثيرين في بلد ينخرط فيه المواطنون بشكل روتيني في عمليات شراء بالجملة للسلع المصنوعة في الخارج، مثل مسحوق حليب الأطفال.

تقرير الموقع الإخباري نقل في ذلك الوقت تصريحات الناشطة الحقوقية “ماي كي” والتي قالت: “ليست الأدوية فقط يتم تزييفها.. في الصين كل شيء مزيف، وإذا كان هناك ربح في المستحضرات الصيدلانية، فسيقوم شخص ما بتزييفها أيضاً”.

وعلى ضوء ما سبق، فإنّنا حاولنا إيراد أهم التقارير من صحف عالمية حول عمليات تزييف الأدوية في الصين وترويجها، ورغم محاولة السلطات هناك كما أسلفنا، إنهاء هذه الظاهرة، إلّا أنّ الواقع لا يبشر بخير، وخير مثال على ذلك فضائح المنتجات الطبية الصينية خلال تفشي وباء كورونا، ويبدو أنّ بكين ستبقى عاجزة على الأقل في الوقت الراهن لإنهاء ظاهرة التزييف التي تعتبر من أركان الثقافة الصناعية والتجارية في ذلك البلد.

شاهد أيضاً: الصين والأدوية.. تاريخ من التزوير والتزييف ومشكلات الجودة