يبرز “جاك ما” كواحد من أقوى رجال الأعمال الصينين، ويصنف ثالث أغنى رجل في الصين، وفق ما كانت أعلنته مجلة “فوربس” الشهيرة بثروة إجمالية تقدر بـ 60 مليار دولار. وبذلك يكون “جاك ما” متفوقاً على العديد من الشركات التكنولوجية الصينية، ومن أبرزها “هواوي” التي تبلغ ثروة مؤسسها “رين تشينغ في” نحو مليار، و400 مليون دولار فقط.

لكن “جاك ما”، مؤسس مجموعة علي بابا الشهيرة، يخضع لعقوبات قاسية من قبل الرئيس الصيني وأمين عام الحزب الشيوعي “شي جينبينغ” كونه طلب مجموعة بيانات حول الأسواق ، وانتقاده لسياسة التعامل مع المستثمرين.

ويشي ذلك بمواجهة “جاك ما” في حال انتقاد تصرفات الحزب الشيوعي الصيني في القطاعات الاستثمارية التي يديرها ، فما هو الحال بالنسبة للشركات الصينية الأخرى؟

وفق ما نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، فإن هذه القضية تعد دليلاً صارخاً على آليات سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الشركات، والضغط عليها لتبقى جميعها تحت سيطرته.
كما أن هذه الشركات لا تتمكن من رفض أي طلب للحزب، ما يجعل منتجاتها خصوصا التقنية تحت سيطرة الحزب “المستبد”، والذي يمكن له أن يستخدمها بشكل سيء.

 

الملياردير الصيني "جاك ما" في حالة ذهول ... الرئيس الصيني يوقف الاكتتاب العام لمجموعة "آنت" العملاقة

 

وقف الاكتتاب

وفي خطوة مُستغربة، اتخذ الرئيس الصيني شي جين بينغ قراراً بوقف الطرح العام للاكتتاب لمجموعة “آنت” التي كان يمكن لها أن تكون الأكبر على مستوى العالم بعد سيطرة “جاك ما” عليها ما أثار غضب الحكومة الصينية، وفق مسؤولين صينيين .
وشهدت العلاقات بين رجل الأعمال الشهير وحكومة بلاده سنوات من الشد والجذب بسبب النمو السريع لشركاته التي تعمل في المجال الرقمي والتكنولوجي.
ويأتي ذلك رغم أن الرئيس الصيني أظهر تسامحاً، وتساهلاً في التعاطي مع الشركات الخاصة الكبرى التي جمعت ما بين رأس المال والنفوذ.
بدأت القصة عندما، ألقى ” جاك ما” خطاباً في الـ 24 من أكتوبر الماضي، قبيل طرح الاكتتاب العام لمجموعة ” آنت” التي تطرح أكبر اكتتاب أولي على مستوى العالم.
يومها استشهد ” ما” بكلمات الرئيس الصيني، وهو ما اعتبره مسؤولون حكوميون صينيون محاولة لتلميع صورته وتشويه صورة المنظمين للاكتتاب العام.
في الحدث الذي أقيم في العاصمة الصينية شنغهاي، قال ” ما” إنه “يريد المساعدة في حل المشكلات المالية للصين من خلال الابتكار”، لكنه انتقد التكتم على بعض المعلومات التي تعيق تطوير التكنولوجيا وتقدم الاستثمار هناك.
وبعد ذلك قرر الرئيس الصيني إغلاق الطرح العام الأولي لمجموعة “آنت”، وفق مسؤولين، ما أدى إلى تعليق صفقات الاكتتاب في 3 نوفمبر الجاري.
بيد أن المستثمرين في جميع أنحاء العالم التزموا بضخ الأموال لتصل إلى نحو 34 مليار دولار لأسهم مجموعة ” آنت” ، فيما لا يعرف حتى الآن إن كان الرئيس الصيني أو أي مسؤول آخر هو من اقترح عملية الإغلاق.
وفيما رفضت مجموعة “آنت” التعليق على هذه الوقائع، تجاهل المكتب الإعلامي لمجلس الوزرا ء الصيني الرد على الأسئلة المتعلقة بهذه القضية.
منذ وصول “شي جينبينغ ” إلى السلطة أواخر العام 2012، اتخذت الحكومة الصينية إجراءات ضد بعض رجال الأعمال البارزين في البلاد.
ومن بين هؤلاء كل من “وانج جيان لين” من مجموعة داليان واندا، الذي كان في يوم من الأيام أغنى رجل في الصين، و “وو شياوهوي” من مجموعة “أنبانج للتأمين”، اللذان كانا من بين رواد الأعمال البارزين , وقد تعرضا لحملات قمع حكومية في الصين.
في المقابل، يُظهر الرئيس الصيني تسامحاً – بشكل مستغرب – مع بعض الشركات الخاصة الكبرى التي جمعت ما بين رأس المال والنفوذ.
يقول مسؤول صيني رفيع المستوى لـ “وول ستريت جورنال”: “الرئيس الصيني لا يهتم من أين أتيت بالثروة .. هو يهتم فقط بما تقوم به بعد أن تصبح ثرياً وهل اهتماماتك تتواءم مع مصالح الصين من وجهة نظره”.
وكان منظمون لعملية الاكتتاب العام لمجموعة “آنت” قد كشفوا أن مسؤولين صينيين على اطلاع بعملية صنع القرار قالوا إن هناك توجهات لكبح جماح المجموعة.
ويرجعون ذلك إلى أن المجموعة تمتلك تطبيقاً للمدفوعات عبر الهاتف المحمول يسمى “Alipay”، ما أدى إلى تعطيل النظام المالي في الصين.
ويستخدم التطبيق نحو 70 ٪ من سكان الصين، كما قدم قروضاً لأكثر من 20 مليون شركة صغيرة استفاد منها نحو نصف مليار شخص، كما يدير أكبر صندوق مشترك في البلاد، ويقدم عشرات المنتجات المالية الأخرى.
ركزت “آنت” إلى حد كبير على خدمة الأفراد والشركات التي تجاهلتها البنوك التقليدية لفترة طويلة، وبرزت باعتبارها شركة قوية جداً في مجال التمويل المالي في الصين, وتمكنت من النجاة من اللوائح الصارمة ومتطلبات رأس المال التي تخضع لها البنوك التجارية.
وواجه المنظمون في وقت سابق مقاومة كبيرة للجهود المبذولة لكبح جماح تقوية مجموعة “آنت” من الداعمين الماليين للمجموعة, ما يعكس الدعم الذي حصل عليه “جاكما ” من أشخاص يمثلون مختلف المستويات السياسية والتجارية العليا في الصين.
ومن بين المساهمين في مجموعة “آنت” بويو كابيتال، وهو صندوق أسهم خاصة يضم شركائه “ألفين جيانغ”، حفيد الزعيم الصيني السابق “جيانغ زيمين” وصندوق المعاشات الوطني الصيني، وبنك التنمية الصيني وشركة تشاينا إنترناشونال كابيتال كورب، أكبر بنك استثماري في البلاد.

قبضة الحزب على الاقتصاد

هذا التعاطي مع مجموعة “آنت” يكشف عن قبضة الحزب الشيوعي الصيني القوية على الاقتصاد، حيث سعى الرئيس الصيني إلى التشديد في نشر أي معلومات مالية أو اقتصادية , خصوصاً بعد الانهيار الذي شهده سوق الأسهم في الصين عام 2015.
حينها، عبر عن تقديره لفوائد وجود شركات يقوم عليها رجال أعمال مثل “جاك ما” الذي غير من الطريقة التي ينفق بها الصينيون أموالهم، وقدم مصادر موثوقة للتمويل للشركات الصغيرة، وطور من مجموعة “علي بابا”، التي تصنف كعملاقة في التجارة الإلكترونية، وواحدة من أبرز المجموعات التجارية التي تفخر بها الصين.
آنذاك، احتفل “جاك ما”، الذي كان يشغل منصب الرئيس التنفيذي لمجموعة ” علي بابا ” حينها، بالاكتتاب العام الأولي للشركة عام 2014 في بورصة نيويورك.

علاقة معقدة

يقول الأستاذ بجامعة كورنيل، والرئيس السابق لقسم الصين في صندوق النقد الدولي إسوار براساد: “لقد كانت علاقة معقدة للغاية بين مجموعة آنت والحكومة”. أضاف “المجموعة لم يعد يُنظر إليها على أنها كبيرة ومؤثرة بحيث لا يمكن للهيئات الحكومية وقف تأثيرها”.
على مدى العقد الماضي، كان “جاك ما” (56 عاماً) يجسد نجاح الشركات الصينية الرائدة في مجال الإنترنت والتكنولوجيا. مُدرس اللغة الإنجليزية السابق الذي يحب روايات الفنون القتالية ، أسس شركة التجارة الإلكترونية “علي بابا” في شقته عام 1999، وأدرجها في بورصة نيورك عام 2014 برقم قياسي لأكبر طرح عام أولي في العالم حتى العام الماضي.
عززت مجموعة “علي بابا” مكانتها هذا العام أيضاً كأفضل شركة مدرجة في الصين بعد أن زادت قيمتها السوقية بمقدار أربعة أضعاف في غضون ست سنوات فقط، لذلك فإن إدراج مجموعة “آنت” لو تم المضي فيه قدماً، لحقق قيمة مالية تقدر بـ 300 مليار دولار , ما يجعلها أكبر قيمة من معظم البنوك الصينية، والأمريكية الكبرى.
كما ارتفعت الأسهم في مجموعة “علي بابا” في السنوات التي تلت طرح عملاق التجارة الإلكترونية للاكتتاب العام، ما عزز مكانتها كواحدة من أكثر الشركات قيمة في العالم، وتمتلك مجموعة علي بابا حاليا ثلث مجموعة “آنت”.

انطلاقة مجموعة “آنت”

تعود جذور مجموعة “آنت” إلى عام 2014، ويمتلك “جاك ما” ما نسبته 50.5٪ من مجموع أسهم المجموعة، لكنه لم يشغل منصبًا تنفيذياً أو إداريا في الشركة التي تبلغ من العمر ست سنوات.
في عام 2008 ، عندما كان “جاك ما” يتولى منصب الرئيس التنفيذي لمجموعة ” علي بابا” ، أعرب عن أسفه في منتدى عام من أن البنوك التقليدية في الصين كانت تتجاهل الشركات التي كانت في أمس الحاجة إلى التمويل.
وقال: “إذا لم تتغير البنوك ، فسنغير البنوك” ، موضحا أنه ينظر إلى “نظام إقراض أكثر شمولاً يخدم احتياجات الشركات الصغيرة”.
في عام 2013، كرئيس لشركة ” علي بابا” ، استهدف مرة أخرى المقرضين الصينيين التقليديين، قائلاً في منتدى عام في شنغهاي إن البلاد “لا تفتقر إلى البنوك أو المؤسسات المبتكرة، ولكنها تفتقر إلى مؤسسة مالية يمكنها تعزيز النمو الاقتصادي الصيني في العقد المقبل”.
في تلك الفترة، أنشأت ” علي باي” صندوقاً مشتركاً لسوق المال عبر الإنترنت مصمما لمساعدة الأفراد على كسب عوائد الاستثمار من النقد الإلكتروني الاحتياطي الموجود في محافظ “علي باي” الخاصة بهم.
وكانت لحظة النجاح، عندما قام بعض الأشخاص بنقل الأموال من حساباتهم المصرفية إلى الصندوق الجديد لكسب عوائد أعلى.
في عام 2014، تم دمج “علي باي” مع الشركات المالية الأخرى التابعة لمجموعة “علي بابا” في مجموعة “آنت” التجارية ما جعل “علي باي” كنظام مالي يتغلغل في النظام المالي الصيني.
فيما بعد أصبح الصندوق المالي التابع لمجموعة ” آنت” الأكبر من نوعه في العالم، حيث يقوم بإدارة أكثر من 250 مليار دولار بحلول عام 2017.
وبحلول منتصف عام 2018، كانت الشركة الناشئة الأكثر قيمة في العالم، بقيمة مالية وصلت إلى 150 مليار دولار.
هذا العام ، أدى تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين إلى حصول “جاك ما” على فرصة خصوصا مع تهديدات واشنطن بشطب الشركات الصينية من أسواق الأسهم الأمريكية، فيما كانت بكين حريصة على بناء بورصاتها الخاصة.
حينها اعتبر منظمو الأوراق المالية أن وجود مجموعة مثل ” آنت” مدرجة في كل من شنغهاي وهونغ كونغ بمثابة قوة كبيرة لأسواق الصين.
غيرت ” آنت” من اسمها في الصيف، وأسقطت عبارة “خدمات مالية”. وبعد مدة وجيزة، أعلنت عن خططها للاكتتاب العام، بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لمجلس ابتكار العلوم والتكنولوجيا في الصين على غرار ناسداك.
لكن القائمين على البنوك كانوا قلقين بشكل متزايد بشأن المخاطر التي تتعرض لها البنوك من خلال إقراض عملاء ” آنت” عبر الإنترنت، ليتم نشر مجموعة من اللوائح الحكومية والإرشادات والإشعارات لاحتواء المخاطر المحتملة من نمو التمويل الرقمي والإقراض الصغير.
وعلى الرغم من ذلك كان بعض موظفي الشركة قلقون من التغييرات المحتملة التي يمكن أن تضر بالشركة مستقبلاً . لذلك وفي 24 أكتوبر، عندما ألقى “جاك ما” كلمته في منتدى مالي في شنغهاي حضره كبار المنظمين والسياسيين والمصرفيين , قال إن “الاكتتاب العام الأولي لشركة ” آنت” معجزة”، لكونه صفقة ضخمة تجري بعيدًا عن نيويورك.
وكان من بين الحضور نائب الرئيس الصيني ” وانغ كيشان” ، ومحافظ البنك المركزي “يي جانج “وبعض كبار المسؤولين التنفيذيين في البنوك الحكومية.
حينها، انتقد ” جاك ما ” خلال خطابه الذي استمر 21 دقيقة حملة بكين للسيطرة على المخاطر المالية.
وقال: “لا توجد مخاطر أكيدة في النظام المالي الصيني”، أضاف “التمويل الصيني ليس له نظام”.
كما استهدف المنظمين، قائلاً إنهم: “ركزوا فقط على المخاطر وتجاهلوا التنمية”. واتهم البنوك الصينية الكبرى بـ “عقلية الرهن”. وتابع ” هذا أضر بالكثير من رواد الأعمال”.
انتشرت تصريحاته على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية، حيث أشاد بعض المستخدمين بجرأة ” جاك ما ” على التحدث علانية.

قروض سهلة

سهلت منصة “آنت علي باي” حصول العديد من الأفراد في الصين على قروض. كما خضعت أنشطتها في الآونة الأخيرة للتدقيق من قبل المنظمين الماليين، ويرجع ذلك إلى أن البنوك تمول العديد من القروض.
وفي 2 نوفمبر، تم نشر مسودة قواعد الاقتراض، وفي اليوم نفسه تم استدعاء “جاك ما” واثنين من المدراء التنفيذيين في مجموعة” آنت” إلى اجتماع استثنائي مع البنك المركزي والهيئات التنظيمية التي تشرف على البنوك والتأمين والأوراق المالية.
وفي اليوم التالي، علقت بورصة شنغهاي الاكتتاب العام للمجموعة، مُستشهدة بالاجتماع والتغيرات في البيئة التنظيمية. وتقول لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية إنها كانت “خطوة مسؤولة” لحماية المستثمرين والأسواق.
يعتقد المختصون أنها ستعيد تنظيم وحدات أعمالها، وإعادة التفكير في نموذج أعمالها وإبلاغ المستثمرين بالمخاطر الإضافية.
هذا يعني أن التقييم الضخم لمجموعة ” آنت” سيتم تحجيمه عندما تحاول الإدراج مرة أخرى، وبالتالي قد لا تتمكن المجموعة من جمع الأموال بالقدر الذي كانت تستهدفه، كما يقول المحللون.