الخلافات الجهادية تعصف من جديدة بين “تحرير الشام” وخصومها

بعد يوم واحد من حملة اعتقالات كبيرة نفذها أمنيين هيئة تحرير الشام ضد الجهاديين الأجانب (المهاجرين) والمستقلين في شمال غربي سوريا، في الـ23 من فبراير شباط الجاري، اغتالت طائرات التحالف الدولي قياديًا جهاديًا من معارضي الهيئة يُدعى “أبو عبادة”، مع مرافق له، على طريق قاح دير حسان في ريف إدلب الشمالي.

وفي أعقاب الهجوم الذي شنه التحالف، أعلنت مصادر مطلعة على شؤون التنظيمات الجهادية في شمال غربي سوريا أن أحد القياديين المتقولين هو “أبو عبادة”، قيادي بتنظيم حراس الدين ورجحت أنه عراقي الجنسية، فيما كشف حساب مزمجر الثورة السورية، والمناهض لهيئة تحرير الشام، أن القياديين الجهاديين المقتولين دعيا لاجتماع مع أبو مارية القحطاني، القيادي البارز بـ”تحرير الشام” في سرمدا، وأثناء توجههما إلى الاجتماع جرى استهدافهما من طائرات التحالف، ملمحًا إلى تورط “القحطاني” في عملية الاغتيال بجانب طاهر العمر، الناشط المحسوب على الهيئة.

بعد مقتل أبو عبادة.. تحرير الشام تحاول استئصال بقايا حراس الدين

مزمجر الثورة السورية يتحدث عن اعتقالات قبل هجوم قاح

وذكرت قناة “مزمجر الشام” في تدوينة بثتها على موقع تليغرام للتواصل الاجتماعي أن طاهر العمر كان يرصد القياديين الجهاديين قبل استهدافهما من قبل طائرات التحالف، مشيرةً إلى أن أمنيي هيئة تحرير الشام فرضوا طوقًا حول موقع الهجوم، واعتقلوا عدد من الصحفيين الذين تواجدوا في المكان وأجبروهم على حذف الصور والفيديوهات التي التقطوها للهجوم، على حد قولها.

التلميح بمؤامرة “هيئة تحرير الشام”

وسار عدد من جهاديي الشمال السوري، على نفس نهج “مزمجر الثورة السورية”، لافتين إلى وجود دور لهيئة تحرير الشام في تصفية الكوادر الجهادية المتواجدة في الساحة، من أجل التمكين لمشروعها، فقال أبو يحيى الشامي، وهو جهادي سوري بارز، إن حادثة استهداف القياديين الجهاديين على طريق “قاح- دير حسان” أتت بعد يوم واحد من حملة الاعتقالات التي شنتها الهيئة متسائلًا ما إذا كان الاستهداف صدفة أم تزامن بين الاعتقال والاستهداف أم عمالة من تحرير الشام للتحالف الدولي.

بعد مقتل أبو عبادة.. تحرير الشام تحاول استئصال بقايا حراس الدين

تدوينات عن استهداف القياديين الجهاديين

وبدوره، قال القيادي الجهادي صالح الحموي، المعروف بـ”أس الصراع في الشام”، إن هيئة تحرير الشام احتجزت مقاتلين أجانب (مهاجرين) من جنسيات أفغانية، وأوزبكية، وعربية وسلمتهم إلى تركيا، بينما سجنت آخرين في السجون التابعة لها، مشددًا على وجود تعاون بين هيئة تحرير الشام والتحالف الدولي، وفي ضوء هذا التعاون يتم إمداد التحالف بالمعلومات والإحداثيات الخاصة بالجهاديين في شمال سوريا.

ويتهم العديد من الجهاديين هيئة تحرير الشام بالتعاون مع التحالف الدولي لاستهداف الجهاديين المنتمين لتنظيم حراس الدين، فرع القاعدة السوري، والجهاديين المستقلين، علاوة على اتهام قيادات الهيئة وفي مقدمتهم أبو مارية القحطاني، والقيادي الأمني أبو محجن الحسكاوي، والقيادي بالجناح السياسي زيد العطار، بالتنسيق مع استخبارات إقليمية لرصد وتعقب واستهداف قادة حراس الدين.

خلافات جهادية جديدة بين “تحرير الشام” وخصومها

وتتزامن الاغتيالات الأخيرة التي استهدفت الجهاديين المعارضين للهيئة في شمال سوريا، بالتزامن مع تطورات ميدانية لافتة، فمن ناحية نشبت توترات بين هيئة تحرير الشام وفصائل سورية مسلحة، في ظل الحديث عن وجود خطة لدى الهيئة لاستكمال السيطرة على ما تبقى من مناطق الشمال السوري القريبة من معاقلها، وطرد أو حل بقية الفصائل.

ففي الـ21 من فبراير، أبلغت الهيئة فيلق الشام، أحد أكبر الفصائل السورية المسلحة، بإخلاء مقر قيادته، القريب من سجن البادية الذي يديره أمنيي هيئة تحرير الشام، وسط إدلب، وذلك بالتزامن مع حشد الهيئة مقاتليها في اتجاه عفرين ومناطق أخرى بشمال سوريا لانتزاع السيطرة على تلك المناطق الخاضعة لسلطة الجيش الوطني السوري، المدعوم من تركيا.

حملة اعتقالات كبيرة نفذها أمنيين هيئة تحرير الشام ضد الجهاديين الأجانب (المهاجرين) والمستقلين في شمال غربي سوريا، في الـ23 من فبراير شباط الجاري

وتأتي تلك الخطوة في ظل سعي الهيئة لابتلاع الفصائل المسلحة، عن طريق إغراء بعضها بمبايعة الهيئة، وطرد بقية الفصائل التي تخالف نهجها من شمال سوريا، وفي نفس الوقت تستمر حملة ملاحقة الجهاديين المرتبطين بتنظيم حراس الدين أو الذين يتبنون فكر الجهادية العالمية، فعملية اغتيال “أبو عبادة” ورفيقه الجهادي جاءت بعد إعلان رسمي، من تنظيم حراس الدين بالعودة للمشهد، وذلك عبر بيان أصدرته مؤسسة شام الرباط، الذراع الإعلامي له، أواخر يناير كانون الثاني 2023.

بعد مقتل أبو عبادة.. تحرير الشام تحاول استئصال بقايا حراس الدين

أبو عبادة القيادي الجهادي بعد مقتله

وأكد بيان حراس الدين، الذي حمل عنوان “ألا فاشهدوا أن دمائهم هدرًا”، على التزام التنظيم بنهج الجهادية العالمية وسعيه لشن هجمات في الغرب انطلاقًا من سوريا، كما برهن أن الحملة التي أطلقتها هيئة تحرير الشام قبل نحو عامين والتي أدت إلى انزواء التنظيم واختفاء قياداته العليا ورموزه البارزين من المشهد، فشلت في القضاء على التنظيم بشكل كامل.

فخلال العامين الماضيين، اختفى تنظيم حراس الدين بصورة لافتة، بعد إطلاق الهيئة حملة تستهدف القبض على قيادته وكوادره في شمال سوريا والحصول على معلومات عن شبكاته السرية التي تعمل في خارج الشمال السوري والتي تُعرف بـ”خلايا خلف خطوط العدو”، ورفضت الهيئة في حينها الدعوات التي أطلقها أمير التنظيم أبو همام السوري (الشامي)، سمير حجازي (الذي يُعتقد بأنه صهر الأمير الفعلي للقاعدة سيف العدل)، والشرعي العام له والقيادي السابق بجبهة النصرة سامي العريدي، من أجل التحاكم لمحكمة شرعية مستقلة كي تفصل في الخلافات بين الطرفين.

واتهم الشرعي العام لهيئة تحرير الشام، أبو عبد الله الشامي عبد الرحيم عطوان، وغيره من قيادات الهيئة تنظيم حراس الدين بالتعاون مع تنظيم داعش، وذلك من أجل تبرير الحملة التي شنها الجهاز الأمني لـ”تحرير الشام” ضد حراس الدين، والذي بقي مرتبطًا بتنظيم القاعدة.

بعد مقتل أبو عبادة.. تحرير الشام تحاول استئصال بقايا حراس الدين

اتهام من جهاديي الشمال السوري لأبو ماسة القحطاني بالتورط في قتل القياديين الجهاديين

وفي تلك الفترة، قتل عدد من أبرز قادة حراس الدين منهم عبد الحميد المطر، مسؤول خلايا خلف خطوط العدو بالتنظيم، وأبو حمزة اليمني القيادي العسكري البارز بحراس الدين، وعدد آخر من عناصر التنظيم، فيما راجت اتهامات للهيئة بإعطاء معلومات للتحالف الدولي وللقيادة الأمريكية المركزية من أجل التوصل إلى تحديد هوية ومكان قيادات حراس الدين.

وأمام تلك الحملة، أدرك قادة تنظيم حراس الدين أن حلفائهم القدامى وأعدائهم الحاليين في هيئة تحرير الشام لن يسمحوا للتنظيم، المرتبط بالقاعدة، بإيجاد ملاذ آمن في شمال سوريا، بل سيعملون على التخلص منه، وتقويضه، حتى النهاية، وهو ما أثبته الاغتيال الأخير لـ”أبو عبادة”، القيادي الجهادي الذي قُتل على طريق قاح مع رفيق له، قبل أيام معدودة.

وعمد تنظيم حراس الدين، إلى نقل تواجده إلى مناطق خفض التصعيد في جنوب إدلب وشمال اللاذقية، لكنه تأثر، بصورة ملحوظة، بالحملة التي شنتها هيئة تحرير الشام ضده مما أدى لانخفاض مقاتلين من ما بين 1500: 2000 مقاتل إلى نحو 300: 500 مقاتل فقط، وفق أحدث التقديرات الدولية.

ما علاقة سيف العدل بصراع “حراس الدين” و”تحرير الشام”؟

على أن السعي للتخلص من تنظيم حراس الدين وتجدد عمليات استهداف كوادره في شمال سوريا، يرتبط بصراع قديم بين تيار الجهاد المحلي الذي تمثله هيئة تحرير الشام أحد أفرعه، وبين تنظيم حراس الدين، ومن خلفه تنظيم القاعدة وأميره الفعلي سيف العدل.

فقبل عدة سنوات، دخل قيادات هيئة تحرير الشام في صراع مع سيف العدل محمد صلاح زيدان، ورفيقه أبو محمد المصري عبد الله أحمد عبد الله، حول مسألة فك الارتباط مع تنظيم القاعدة المركزي، إذ كان الأخيرين أعضاءً بلجنة القيادة المسؤولة عن النسخة الأسبق لهيئة تحرير الشام “جبهة النصرة”، بالإضافة لأبي الخير المصري، نائب أمير القاعدة سابقًا والذي قُتل في سوريا عام 2017.

ودارت، في هذه الأثناء، سجالات وخلافات عديدة بين سيف العدل وأبو محمد المصري وبين مجموعة هيئة تحرير الشام بما فيها أبو محمد الجولاني وأبو عبد الله الشامي، فيما لجأ سيف العدل إلى مراسلة أنصاره في سوريا وطلب منهم إنشاء تنظيم مستقل عن “الجولاني” وأنصاره، وهو ما تمخض عنه في نهاية المطاف إنشاء تنظيم حراس الدين.

بعد مقتل أبو عبادة.. تحرير الشام تحاول استئصال بقايا حراس الدين

وفي غضون السنوات التالية، اتسعت الفجوة بين هيئة تحرير الشام وتنظيم القاعدة، وصارت الهيئة تنظر للفرع السوري للقاعدة “حراس الدين” بأنه نوع من الخروج والانشقاق عليها، أما تنظيم القاعدة فرأى أن هيئة تحرير الشام غدرت به ونقضت بيعته دون مشاورة قيادة التنظيم العليا.

وانتقدت قيادة هيئة تحرير الشام بما فيها أبو مارية القحطاني تنظيم القاعدة، علنًا، حتى أن “القحطاني” قال إن التنظيم انتهى ودعا أنصاره للانفضاض عنه باعتباره أصبح جزءًا من الماضي، وفق تعبيره.

ومع إعلان مجلس الأمن الدولي، في أحدث تقرير لفريق الدعم التحليلي ورصد الجزاءات المعني بتنظيم داعش والقاعدة (فبراير 2023)، أن سيف العدل، المقيم في إيران، أصبح أمير تنظيم القاعدة الفعلي دون منازع، عاد أبو مارية القحطاني لانتقاد القاعدة، معتبرًا تعيين سيف العدل أميرًا للقاعدة يعني أن التنظيم أصبح أداةً بيد الحرس الثوري الإيراني، الذي يتحكم به نتيجة وجود أمير القاعدة في إيران، وجدد “القحطاني” دعوته لأفرع القاعدة، بما فيها القاعدة في اليمن، بالانفصال عن التنظيم المركزي وتبني إستراتيجية الجهاد المحلي والابتعاد عن القاعدة.

وبينما كان الخلافات والسجلات السابقة تدور في الفضاء الإلكتروني، أطلقت هيئة تحرير الشام، عبر ذراعها الأمني، حملة جديدة ضد كوادر تنظيم حراس الدين وغيرهم من الجهاديين المستقلين، ساعيةً لمنع بروز الفرع السوري للقاعدة من جديد وقطع الصلة بينه وبين قاعدة خراسان التي يتزعمها سيف العدل.

وكشفت تلك الحملة، بجانب عملية الاغتيال الأخيرة التي استهدفت كوادر تنظيم حراس الدين، أبو عبادة ورفيقه، أن هيئة تحرير الشام عازمة على مواصلة العمل على استئصال الوجود القاعدي في شمال سوريا، وأنها لن تسمح لأنصار سيف العدل بما فيهم صهر سمير حجازي، أبو همام السوري (الشامي)، أمير تنظيم حراس الدين، بإيجاد ملاذ آمن يستغلونه لإعادة بناء شبكة القاعدة، وشن هجمات جديدة تُكسب التنظيم زخمًا وتظهر أنه ما زال موجودًا، أو أن هناك ارتباط بين بروزه مجددًا وتولي سيف العدل إمارة تنظيم القاعدة، كما تُشير تقارير مجلس الأمن الدولي.

الخلاصة:

ويبدو من المعطيات السابقة أن عناصر وأنصار القاعدة يعانون، بصورة واضحة، في إيجاد معقل جديد أو مكان يحتضنهم، فمن ناحية تستمر حملات مكافحة الإرهاب بما فيها عمليات التحالف الدولي والهجمات الأمريكية التي تستهدف التنظيم في سوريا وخارجها، ومن ناحية أخرى اختار رفاق السلاح القدامى، والخصوم الحاليين مثل هيئة تحرير الشام أن يوجهوا أفرع القاعدة مثل تنظيم حراس الدين ولا يسمحوا له بإيجاد معقل للعمل أو النشاط في شمال سوريا، الذي أصبح منطقة خطرة للجهاديين المرتبطين بالقاعدة.

وفي نفس السياق، تؤكد عمليات الاستهداف الأخيرة لكوادر تنظيم حراس الدين أن محاولات سيف العدل وأنصاره في القاعدة للعودة للمشهد عبر التأكيد على بقاء تنظيم القاعدة والسعي لضخ دماء جديدة في أوردته، ليست سوى محاولات يائسة لا تملك أي أفق حقيقي للنجاح، في ظل وجود تشكيك قوي في شرعية تولي سيف العدل، المقيم في إيران، لإمارة القاعدة، وبالطبع هذا التشكيك يتطرق لكل من كان له صلة بأمير القاعدة الفعلي، كما تصفه التقارير الدولية، بما في ذلك صهره أبو همام السوري، الذي اختفى منذ نحو عامين هربًا من حملة الملاحقة المزدوجة التي يشنها التحالف الدولي وهيئة تحرير الشام، والتي لم تترك للقاعدة ملجأً أو ملاذًا يلجأون إليه في شمال سوريا.