أصبحت سريلانكا أوّل دولة في آسيا تتخلّف عن سداد ديونها الخارجية منذ أكثر من عقدين، وذلك بعد نفاد الإحتياطيات الأجنبية ما أدّى إلى نقصٍ واسع النطاق في المواد الأساسية، بما في ذلك الوقود والأدوية والغذاء.

  • التضخم في سريلانكا يسجل معدلاً قياسياً جديداً والحكومة عاجزة عن التخفيف من الغضب الشعبي
  • النائب اللانكي هارشا دي سيلفا لـ”أخبار الآن”: الصين رفضت إعادة التفاوض وعرضت تقديم قروض إضافية
  • بالكاد يستطيع المواطنون اللانكيون تحمّل تكلفة وجبة واحدة في اليوم والأسوأ لا يزال قادماً
  • ديون سريلانكا الخارجية تبلغ 50 مليار دولار والصين تستحوذ على نسبة 10 في المئة منها 

تعيش سريلانكا اليوم أزمة اقتصادية عميقة، تسعى للحصول على مبلغ يصل إلى 4 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، لدفع ثمن الغذاء والوقود والأسمدة لمنع بالتالي أزمة أكبر. ومن المرجّح أن يتطلب تمويل صندوق النقد الدولي إصلاحات مثيرة للجدل سياسياً مثل خفض الإنفاق العام وخصخصة الشركات المملوكة للدولة.

تسعى سريلانكا للحصول على 4 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي

أخبار الآنأجرت لقاءً خاصاً مع النائب السريلانكي هارشا دي سيلفا (Harsha De Silva) الذي شرح تفاصيل الوضع المتردّي في البلاد، فقال إنّ “الوضع الراهن غير جيّد في سريلانكا، والأزمة غير مسبوقة، إذ أنّ طوابير البنزين تمتدّ على طول كيلومترات لساعات طويلة وقد يصل إلى يومين كي يتمكنوا من الحصول على الوقود والمازوت، وبالتالي السخط الشعبي يزداد. كما أنّ هناك انقطاعاً في التيار الكهربائي بسبب مشاكل الطاقة، إضافةً إلى نقص في الأدوية”. وتابع: “تلك أمور لم نرها قط ولم نتخيّلها حتى في الماضي لأن البلد كان مرتفع متوسط الدخل، لكنّه انهار منذ العام الماضي والإقتصاد يشهد انهياراً حاداً وسط عجز الحكومة عن وقف موجة الإحتجاجات الإجتماعية العارمة. لذلك يبدو الوضع سيئاً للغاية على الأرض في سريلانكا اليوم”.

دي سيلفا: ما يحصل اليوم في سريلانكا لم نتخيّله حتى في الماضي

تعتبر الصين أكبر مُقرض في سريلانكا، وهي تستحوذ على نسبة 10 % من الدين الخارجي لتلك الدولة، تليها اليابان والهند. فمنذ العام 2005، اقترضت الحكومة السريلانكية من بكين بكثافة من أجل تمويل مشاريع البنية التحتية، كما أجّرت سريلانكا ميناء هامبانتوتا الإستراتيجي لشركة صينية في العام 2017، بعدما أصبحت غير قادرة على خدمة الدين، البالغ 1.4 مليار دولار الذي استخدمته بكين في بنائه.

واستدانت الحكومة مبالغ كبيرة من بكين منذ 2005 لتمويل مشاريع بنى تحتية، أصبح العديد منها ممتلكات مكلفة لا يمكن التخلص منها.

 

الصين رفضت إعادة التفاوض على ديون سريلانكا وقدمت عرضاً أسوأ.. ما هو؟

حجم الديون على سريلنكا يبلغ 50 مليار دولار بالإجمال ولكن ديونها في السوق تبلغ فعلياً 15 مليار دولار ومعظمها من السندات السيادية الدولية

هارشا دي سيلفا

تكمن المشكلة في أنّ سريلانكا تخلت بالفعل عن بعض أهم نقاطها الإستراتيجية لصالح الصين، إحدى تلك الأصول ميناء هامبانتوتا في جنوب سريلانكا الذي يقع في اطار اهتمامات الصين. ففي العام 2017، أصبح الميناء تحت السيطرة الصينية بعدما تعثّرت سريلانكا في سداد ديون الشركات الصينية مع استخدام بعض الأموال المكتسبة لسداد ديون أخرى، فيما كان الميناء يتكبّد خسائر، لذلك قامت سريلانكا بتأجير الميناء لمدّة 99 عاماً للصين.

ويبلغ إجمالي ديون سريلانكا للصين ثمانية مليارات دولار، أي ما يقرب من سدس إجمالي ديونها الخارجية. ولهذا العام فقط، فإنّ سريلانكا مدينة بنحو 1.5 مليار دولار إلى 2 مليار دولار للصين.

في ذلك السياق، سألت “أخبار الآن” النائب اللانكي عن حجم مسؤولية الصين في تلك الأزمة الإقتصادية التي تواجهها سريلانكا، فقال: إنْ نظرنا إلى حجم الديون المترتبة على سريلانكا، نرى أنّها تبلغ 50 مليار دولار بالإجمال لكن ديونها في السوق تبلغ فعلياً 15 مليار دولار، ومعظمها من السندات السيادية الدولية وما ندعوه سندات التنمية في سريلانكا، ويمثل ذلك نحو 30 % من حجم الديون الإجمالية، لكن حجم الديون الصينية يبلغ 10 % إضافية، واليابان لديها أيضاً ديون بالقيمة نفسها، لكنّ الفارق الوحيد هو أنّ 80 % من الديون الصينية هي ديون تجارية بينما 20 % فقط هو من القروض الميسّرة، لكن تلك القروض يجب أن تُسدّد على فترة طويلة تتراوح بين 10 و20 سنة”. وتابع أنّ “المشكلة الحقيقية تكمن في الديون التجارية والسندات السيادية الدولية التي تخلّفنا عن سدادها، ونتيجة ذلك التخلّف برزت عوامل عديدة لأن معظم ديوننا قد استحقّت الآن”.

الصين رفضت إعادة التفاوض على ديون سريلانكا وقدمت عرضاً أسوأ.. ما هو؟

صورة تجمع وزير الخارجية الصيني وانغ يي مع رئيس الوزراء اللانكي ماهيندا راجاباكسا في كولومبو

الأسوأ  قادم وبالكاد يستطيع المواطنون تحمّل تكلفة وجبة واحدة في اليوم

رانيل ويكرمسينغ

ذلك أول تخلف عن سداد ديون سيادية للبلاد منذ استقلالها عن بريطانيا العام 1948. وتعد سنداتها من بين أسوأ آداء في العالم العام الجاري، وتتداول في عمق المنطقة المنكوبة، حيث يستعد حاملوها لخسائر تقترب من 60 سنتاً على الدولار.

وتجري سريلانكا محادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن خطة الإنقاذ، وتحتاج إلى التفاوض بشأن إعادة هيكلة الديون مع الدائنين. وسبق أن قالت الدولة إنّها تحتاج ما بين 3 و 4 مليارات دولار العام الجاري لتخرج نفسها من الأزمة.

وكان رئيس الوزراء المعين حديثاً، رانيل ويكرمسينغ، حذّر الأسبوع الماضي من أنّ “الأسوأ قادم”، وسط عجز المواطن اللانكي عن دفع ثمن وجبة واحدة في اليوم، حيث ارتفع تضخم أسعار المواد الغذائية إلى مستوى قياسي بلغ 45 %، فيما شهدت العملة الوطنية تدهوراً قياسياً.

الصين ترفض إعادة التفاوض مع سريلنكا بشأن الديون

في ذلك الصدد يقول النائب اللانكي لـأخبار الآن: “فهمنا من الجانب الصيني أنّهم قادرون على إعادة تمويل الديون، وأنهم قادرون على منح سريلانكا قروضاً جديدة لسداد ما يستحق عليها للصين لكنّهم غير موافقين على إعادة هيكلة الديون… ولكن إن كان لا بدّ من إعادة جدولة الديون، فسيتعين على كلّ الدائنين أن يوافقوا على إعادة جدولة الديون وتطبيق الهيركات، وأن تتمكن الصين من السير على الموجة نفسها على غرار كلّ الدول في مفاوضات إعادة هيكلة الديون، وأتمنّى أن تقبل الصين فعل ذلك”.

 

الصين رفضت إعادة التفاوض على ديون سريلانكا وقدمت عرضاً أسوأ.. ما هو؟

لدى سريلانكا عادة بيع أصولها عندما تكون في أوقات صعبة وهي تقف اليوم في خانة الدول المتخلّفة عن سداد ديونها الخارجية

أمّا في حال لم يحصل التفاوض مع الصين، يوضح النائب اللانكي لـأخبار الآن: “سنبقى بحاجة إلى تعيين مستشارين ماليين وقانونيين. أعرف أنّ كلّ الأطراف قد أكدت تقريباً أنّها مستعدة للسير في ذلك الإقتراح وما أن تبدأ تلك العملية، سيكون لا بدّ من بدء النقاشات، ولن يكون ذلك سهلاً لأن البلد قد تخلّف عن سداد ديونه، ولأننا بحاجة إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي لنضمن وضع برنامج ضريبي لكي تصبح ديوننا مستدامة من جديد. وبالتالي يعتبر الوضع حساساً لأنه علينا أن نحدّد حجم الديون التي لا بدّ من إعادة هيكلتها أو تطبيق هيركات عليها، وذلك يتوقف على حجم المداخيل التي يمكننا تحصيلها بفضل زيادة الضرائب وقطع المساعدات وترشيد الإنفاق من جهة أخرى”.

وتابع أنّ “هاتين العمليتين أمران متلازمان لكن في الوقت عينه من أجل ضمان نجاح إعادة هيكلة الديون، فإنّ كلّ الدائنين بمن فيهم مالكو السندات السّيادية الدولية، ومنهم الهند واليابان والصين، يتعين عليهم التوافق على برنامج مستقبلي موحّد، لكن تلك المفاوضات تستلزم وقتاً طويلاً بتقديري، وستكون معقدة بعض الشيء”. وأضاف: “التحدّي الحقيقي لسريلانكا اليوم يكمن في مدى نجاحها بإدارة الفترة الإنتقالية لأنّنا بدأنا نصرف من إحتياطي العملات الأجنبية”.

رئيس الوزراء اللانكي رانيل ويكرمسينغ قال مؤخراً إنّه يأمل في الإنتهاء من القرض الصيني إذ تسعى حكومته إلى مساعدة طارئة للحفاظ على اقتصادها مستمراً، وهنا على ما يبدو أن سريلانكا لم تتعلم الدرس أم أنها لم تعد تقوى على الوقوف مجدداً بعدما سقطت مالياً أمام الصين كلياً.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ لدى سريلانكا عادة بيع أصولها عندما تكون في أوقات صعبة وهي تقف اليوم في خانة الدول المتخلّفة عن سداد ديونها الخارجية، فعندما يكون لدى بلد ما مخزون يوم واحد فقط من البنزين ولا يوجد ما يكفي من الدولارات لدفع ثمن السفن الثلاثة التي تحمل النفط الخام وزيت الأفران الراسية قبالة الساحل، فإنّ بيع أيّ شيء لم يتم تحديده يبدأ في البروز كاستراتيجية جديرة بالإهتمام.

وتواجه الصين انتقادات بسبب ممارساتها في إقراض الدول الفقيرة، حيث تُتهم بترك تلك الدول تصارع من أجل تسديد ديونها، وبالتالي تجعلها ضعيفة أمام الضغط من بكين. لكن تلك الاتهامات تُقابلُ برفض من الصين، التي تتهم بدورها البعض في الغرب بترويج هذه الرواية لتشويه صورتها.

وتُعتبر الصين واحدة من أكبر الدول الدّائنة في العالم، فقد زادت قروضها للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط ثلاثة أضعاف خلال العقد المنصرم، لتصل إلى 170 مليار دولار بحلول نهاية 2020. لكن التزامات الإقراض الإجمالية الصينية قد تكون أكبر بكثير مما تشير إليه هذه الأرقام.

 

الصين رفضت إعادة التفاوض على ديون سريلانكا وقدمت عرضاً أسوأ.. ما هو؟

المصدر: احصاءات البنك الدولي للدين العالمي

نصف القروض التي تُقدمها الصين للدول النامية لا يتم الإبلاغ عنها في الإحصائيات الرسمية الخاصة بالديون

إيد داتا

وقد أوردت دراسة أجرتها “إيد داتا”، وهي هيئة تنموية دولية في جامعة وليام أند ماري في الولايات المتحدة، أنّ نصف القروض التي تُقدمها الصين للدول النامية لا يتم الإبلاغ عنها في الإحصائيات الرسمية الخاصة بالديون. ويتم في الغالب إبقاؤها خارج الميزانيات العمومية الحكومية، وتوجيهها إلى الشركات والبنوك المملوكة من الدولة أو المشاريع المشتركة أو مؤسسات القطاع الخاص، بدلاً من أن تتم بشكل مباشر من حكومة لأخرى. وهناك الآن أكثر من 40 دولة من ذوات الدخل المنخفض والمتوسط، بحسب “إيد داتا”، التي تبلغ نسبة انكشافها المتعلق بالديون للمقرضين الصينيين أكثر من 10 % من حجم الناتج المحلي الإجمالي السنوي نتيجة لهذا “الدين المخفي”.

ويتعلق جزء كبير من الديون المستحقة للصين بمشاريع كبيرة للبنية التحتية مثل الشوارع وسكك الحديد والموانئ، وكذلك بصناعة التعدين والطاقة، بموجب مبادرة الرئيس الصيني شي جينبينغ المعروفة باسم “مشروع الحزام والطريق”.

 

الصين رفضت إعادة التفاوض على ديون سريلانكا وقدمت عرضاً أسوأ.. ما هو؟

متظاهرون سيريلانكيون يحتجون على منح حصة مقترحة لشركة صينية في ميناء هامبانتوتا (2017) – Getty

سريلانكا مثال جديد وأكثر وضوحاً لديبلوماسية الصين

سريلانكا هي أحد الأمثلة التي غالباً ما يستشهد بها منتقدو الصين، والتي بدأت قبل سنوات في مشروع إنشاء ميناء ضخم في هامبانتوتا باستثمارات من الصين. وقد أثير الكثير من الأخذ والرد وتمّ اتهام العديد من أفراد عائلة الرئيس اللانكي Rajapaksa بالفساد في ذلك المشروع. لكن مشروع المليار دولار الذي يستخدم قروضاً ومقاولين من الصين أصبح موضوع جدل كبير، وصارع من أجل إثبات قابليته للتطبيق، وهو ما ترك سريلانكا مثقلة بديون متزايدة. وبعد ذلك، وافقت سريلانكا في العام 2017 على منح شركة “تشاينا ميرتشانتس” المملوكة للدولة الصينية، حصة بنسبة 70 % في الميناء في عقد إيجاريمتد على 99 سنة مقابل استثمارات صينية إضافية.

تجدر الإشارة إلى أنّ علاقات سريلانكا مع بكين لاسيّما مشاركتها في مشروع البنية التحتية للحزام والطريق، كانت مصدر خلاف مع الهند المجاورة التي تعتبر نشاط منافستها في الجزيرة تهديداً للأمن القومي، ومن هنا فبكين لا تسعى وحدها إلى ممارسة نفوذها في سريلانكا، إذ أنّ الهند والتمويل الصيني الإضافي يمكن أن يعقّدا العلاقات مع نيودلهي، التي كانت أكبر متبرع لسريلانكا ذلك العام بخطوط ائتمان ومقايضات ومساعدات أخرى تعادل أكثر من 3 مليارات دولار.

في المحصّلة ثمة حقيقة واحدة، أنّ سريلانكا مثال حي وأكثر وضوحاً اليوم لديبلوماسية الصين في فخ الديون وباتت اليوم الحلقة الأضعف أمام بكين.

شاهدوا أيضاً: سريلانكا تستلم لفخ ديون الصين.. فما الخطوة التالية إذاً؟