أثر العقوبات الغربية على الدائرة المحيطة بالكرملين

  • موجة العقوبات الغربية الأخيرة هي الأكثر إيلاما منذ عام 1922
  • 5 عمالقة اقتصاد داعمين لبوتين على رأس قائمة المتضررين
  • العقوبات تستهدف كل ملياردير ومليونير روسي دعمه النظام الروسي الحالي

منذ العام 1922، بعد انتهاء الحرب الأهلية الروسية؛ بين الجيش الأبيض الموالي للحكم الإمبراطوري والجيش الأحمر التابع للبلاشفة، وسيطرة الأخير على السلطة في روسيا، تم فرض العقوبات بشكل دوري على السلطة الحاكمة في موسكو، وكانت الموجة الأكبر لهذه العقوبات قد حدثت في العام 2014، بعد استيلاء روسيا غير القانوني على شبه جزيرة القرم، وضمها إلى قوام الاتحاد الروسي، وهو ما لم تعترف به أوكرانيا والغرب ومجمل المجتمع الدولي.

رغم التاريخ الطويل للعقوبات والعقوبات المضادة، إلا أن موجة العقوبات الأخيرة التي بدأت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في يوم 24 فبراير المنصرم هي الأكثر إيلامًا وتأثيرًا وذكاءً في الوقت نفسه، كونها استهدفت هذه المرة الدائرة المحيطة بالكرملين، التي تنفق على مشاريعه الخارجية الدعائية، ويشتري عبرها ولاءات بعض القيادات السياسية فيما يسمى روسيًا “المحيط القريب”، بل وفي بعض البلدان الغربية.

مشروع مارشال والإدماج من أجل الاحتواء

منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، عمدت الولايات المتحدة، إلى سياسة ذكية لتتجنب أي مواجهة قد تتطور إلى حرب مباشرة بين الطرفين، وذلك عبر ربط روسيا بالمنظومة المالية الدولية، وهو ما يضمن لها أن يظل الاقتصاد الروسي تحت السيطرة مستفيدة من الخطأ التاريخي الذي ارتكبته عندما قررت عزل الاتحاد السوفيتي عن هذه المنظومة العالمية عبر اتفاقية نظام بريتون وودز، الموقعة في 22 يوليو 1944، ومشروع مارشال، الذي أقره الرئيس الأمريكي هاري ترومان، في الثالث من أبريل 1948، وهو ما أدى لاعتماد الاتحاد السوفيتي على آليات مالية ونقدية وتجارية مختلفة عن تلك الغربية بقيادة واشنطن، وقد أدى ذلك لإضعاف قدرة الأخيرة على التأثير في سياسات موسكو عبر سلاح العقوبات الاقتصادية.

عندما تفكك الاتحاد السوفيتي، كانت المشاعر الأمريكية مختلطة تجاه الاتحاد الروسي الوريث الشرعي له، بين متفائلون يعتقدون أنه بالإمكان أخيرًا عقد تعاون وربما حتى تحالف بين واشنطن وموسكو، ومجموعة أخرى متشائمة مشبعة بالأفكار التي لا ترى في روسيا سوى مهدد للأمن والسلم الدوليين، بين كلا الطرفين كان هناك فريق آخر يمكن تسميته بـ “الواقعيون” الذين رأوا أن الحل الأسلم لتجنب أي سياسة عدوانية قد تقدم عليها روسيا مستقبلاً، هي إدماجها في المنظومة المالية والاقتصادية العالمية، وهو ما يضمن تأثير أي عقوبات محتملة حال كان هناك داعي لها، وهو سلاح أقل كلفة من الحرب والمواجهة المباشرة، ويمكن أن يكبح طموحات موسكو بالتوسع الإقليمي، حيث تلك سياستها التي ظلت مقترنة بتاريخها عبر عصورها المختلفة.

الاختيار ما بين الفرد و الجماعة

مع بدء الأزمة الأخيرة عبر الاستعراض الروسي للحشود والمناورات العسكرية على حدود أوكرانيا، وعد الرئيس الأمريكي بايدن، بعقوبات “قاسية” ستدمر الاقتصاد الروسي، وهو ما لم يأخذه فيما يبدو سيد الكرملين على محمل الجد، وظن بوتين أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أشبه ما يكون بقطرات دماء تسربت من الجسد الأمريكي حفزت شهية القرش الروسي المفترس، ودفعته لتلك المغامرة بغزو أوكرانيا، معتبرًا أنها جولة جديدة من جولاته المعتادة مع الغرب التي لن ينتج عنها سوى بعض الإدانات وعقوبات اقتصادية محدودة سترتد آثارها على الشعب الروسي المسكين، وسيتم تبريرها كالعادة بأن: “الغرب لا يريد أن تنهض دولتنا من جديد” ، ويعمد بشكل ممنهج على “تعطيل” تنميتها، وهو ما يعفيه من أي مساءلة داخلية عن الفساد وسوء توزيع الثروة.

تميزت العقوبات هذه المرة بأنها ضربت عصب الاقتصاد الروسي المالي ومصالح الدائرة المحيطة بالكرملين من الداعمين والمروجين لسياساته

 

لخلق تغيير داخلي بشكل أكثر ذكاءً عبر ضرب وحدة هذه الدائرة المستفيدة من بقاء بوتين في السلطة – حيث تحول نموذج السلطة في روسيا إلى ما يشبه مجلس إدارة لقلة تمتص هذا الجسد الروسي وتتربح منه على حساب الشعب

حيث يجسد فلاديمير بوتين شخصية رئيس مجلس الإدارة الحامي لها والحكم فيما بينها حول تقسيم الغنائم. لكن لو شعرت هذه النخبة بأن بوتين قد تحول من قيمة مضافة لتعزيز ثرواتهم المنهوبة من الشعب؛ إلى عامل ضغط وخسارة لكل ما اكتسبوه، ووصم لهم ولعائلاتهم بالداخل والخارج، فسيتم شق الصف وقد تدفعهم نفس المصلحة التي لأجلها دعموا بوتين؛ بالتخلي عنه وربما بدء البحث عن بديل. تلك هي قواعد لعبة السلطة في روسيا، التي جاءت ببوريس يلتسن ودعمته وتخلصت منه عبر الضغط عليه ليتقدم باستقالته بعدما تحول لعبء، وقد حدث هذا الأمر بالعهد السوفيتي عندما أقصت نخبة الحزب الشيوعي السوفيتي السكرتير العام نيكيتا خروشوف، عام 1964، وهي نفسها من تخلت عن الإمبراطور الأخير نيقولا الثاني عام 1917.

الحسابات الأمريكية، تعتمد على هذا الإرث التاريخي لحكم القلة في روسيا، التي تتبدل وتتغير أشكالها لكنها تظل واحدة في منطقها وسياساتها، وهو ما سيدفع بوتين إلى الضغط عليها بشكل أكبر لتوريطها في مغامراته الخارجية حتى لا تتملص منها في لحظةٍ ما لو شعرت بالخطر، وهو ما يفسر ذلك الموقف الذي حشر فيه مدير جهاز مخابراته الخارجية سيرغي ناريشكين، عندما احرجه أمام عدسات الكاميرات ليصرح بموافقته على الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.

يتوقع أن يؤدي هذا الحصار الأخير إلى تهور أكبر لبوتين في عملياته العسكرية، ومع تعثرها قد يصل هذا التهور إلى مداه عبر التلويح باستخدام السلاح النووي، وهو ما حدث بالفعل أو تراجع هيبته، وفي كلا الحالتين سترى هذه القلة المتنفذة أن التضحية برجل واحد في سبيل حماية المجموعة، وتسويق ذلك بأنه “حماية” لروسيا من الفناء أو الانهيار الاقتصادي بعدما فقد الرئيس رشده، وهذا هو الرهان الأمريكي فيما يبدو والذي يفسر إلى حد كبير منطق وطبيعة هذه العقوبات.

دقة التصويب في توجيه العقوبات

اعتمدت العقوبات هذه المرة على دقة التصويب، فتوجهت نحو كل عناصر “القوة الناعمة” الروسية من إعلام، وفن، ورياضة، وما خلف هذه القطاعات من مصالح مالية وقوى اجتماعية ستتعرض لأضرار كبيرة، وهي التي برع الكرملين في استخدامها على المستويين المحلي والدولي لتبييض سمعته، والترويج لسياساته. لذلك لم يكن عبثا أن تم استهداف هذه القطاعات تحديدًا، ووصم المسؤولين عنها، واحداث حالة من الشقاق الداخلي تفقدهم السيطرة عليها. وربط المصلحة الوطنية بضرورة التخلص من هذا النظام وسياساته، إذ أن هذا المسار إن ظل سيؤدي لتآكل لكل ما تراكم من ثقافة وفن ورياضة ونجاح حققه الشعب الروسي وحضارته في كل المجالات، وإن كان الحصار في الماضي لم يكن مجديًا كون موسكو كانت تحكم اتحاد كامل من عدة دول فالآن هي وحيدة بمفردها، وبنفس سلاح “المصلحة” الوطنية التي يسوق بها الكرملين سياساته سيتمكن خصومه من استخدامها للتخلص منه، ومن هذه الزاوية يمكن فهم فلسفة هذه العقوبات في أحد جوانبها.

ماليًا، أصبح كل مليونير فضلاً عن ملياردير روسي، سبق وجمع أمواله بفضل الحماية التي وفرها له بوتين ونظامه، مستهدف في الخارج عبر حساباته واستثماراته، وصولاً لما يمتلكوه من يخوت ومنازل فاخرة في أرقى الأحياء الأوروبية، وبات أبناؤهم معرضون للوصم والعقوبات أيضًا، ولن يحميهم من ذلك تمتعهم بالإقامة في العواصم الغربية، أو الادعاء بأنهم شخصيات ذات ذمة مالية مستقلة عن رب العائلة، وهو ما يخلق ضغطًا مزدوجًا عليهم من الناحيتين المالية والعائلية.

عمالقة الاقتصاد الروس تحت الضغط.. هؤلاء يدفعون ثمن غزو بوتين لأوكرانيا

أبرز رجال الكرملين المتأثرين بالعقوبات الغربية بسبب غزو روسيا لأوكرانيا

أبرز المتضررين ومدى تأثيرهم

في عملية منسقة بين الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، تم فرض عقوبات على شخصيات عامة ومالية روسية، وقد استهدفت ولأول مرة فلاديمير بوتين شخصيًا، قد يبدو أن القرار مجرد عملية رمزية، وقد يكون كذلك بالفعل لصعوبة الوصول إلى أرصدته المالية، ولكنه يحمل دلالة كبيرة للأوليغارشية المرتبطة به، وهي “أن الكل مستهدف ولا وجود لشخص محصن، وإذا كان زعيمكم قد وضع تحت طائلة العقوبات فما بالكم بمن هم أدنى منه”. ضمن عقوبات الاتحاد الأوروبي الأخيرة (26) فردًا، بما وأبرزهم:

١- ميخائيل فريدمان

ملياردير روسي من أصل يهودي أوكراني، ولد في مدينة لفيف بغرب أوكرانيا، ويستثمر في قطاعي الغاز والنفط والمصارف، ومن ضمن قائمة الأثرياء العشرة في روسيا، ويعتقد إلى حد كبير أنه بسبب شبكة اتصالاته الواسعة برجال المال اليهود حول العالم، تم تكليفه بمهمة إيجاد ملاذات آمنة لأموال الأوليغارشية الروسية والسياسيين المرتبطين بهم. وربما كان السبب في اختياره أيضًا تصور كونه يهوديًا، سيكون ضمانة بأن الغرب لن يقترب منه ولا من دائرته لما يتمت به اللوبي اليهودي من قوة وتأثير، فكانت العقوبات الأخيرة دليل على عزم الغرب اتخاذ إجراءات جادة لا هوادة فيها دون الخضوع لأي تأثيرات مهما كانت، ولذلك فهذا القرار الأخير يعد ضربة قوية لكل هذه المجموعة المنتفعة من حكم بوتين.

٢- أليشر عثمانوف

ملياردير روسي من أصل أوزبكي، أحد أكبر الأثرياء في روسيا، وقطب الغاز. يقدم نفسه على أنه راعي للفنون، والرياضة من خلال مساهماته في عدة أندية رياضية بالداخل الروسي وأوروبا، وعبر دعمه لزوجته إيرينا فاينر رئيسة الاتحاد الروسي للجمباز الإيقاعي سابقًا، والمنتمية لأسرة يهودية لها علاقات تجارية واسعة.

٣- أليكسي مورداشوف

ملياردير روسي يهودي، وقطب صناعة الصلب وقطاع التعدين في روسيا، ويصنف على أنه الثري رقم (4) في روسيا، وله استثمارات عديدة في مناطق دونيتسك ولوغانسك.

٤- غينادي تيموشينكو

ملياردير روسي من أصل أرميني، وأحد أقطاب صناعة السيارات والفوسفات، ويستثمر في المعتاد بأماكن النزاع التي يدعمها الكرملين، وكانت له استثمارات في شرق أوكرانيا وجورجيا وسوريا.

٥- ألكسندر بونومارينكو

ملياردير روسي من أصل أوكراني، ومستثمر رئيسي في قطاع البنية التحية والموانئ، ومن ضمن قائمة العشرة الكبار لأثرياء روسيا.

يتضح من عينة الأسماء السابق ذكرها، أن الكرملين اعتمد على شخصيات من أصول تنتمي لبلدان سوفيتية سابقة، ليحافظ عبرها على نفوذه في هذه البلدان، وكذلك من خلفيات يهودية ظنًا منه أن ذلك سيوفر حماية وقدرة وكفاءة أكبر في إخفاء أموالهم وحمايتها.

وهذه الأسماء ظلت في مأمن طيلة الفترات الماضية، ودعمت الكرملين بما لديها من أموال، وساهمت في دعم تمردات بعدة مناطق حول العالم، وبعضها الآخر استثمر في أندية أوروبية مثل الملياردير الروسي اليهودي رومان أبراموفيتش، وغيره من باقي رجال الأعمال اليهود القاطنين في لندن، والتي أصبحت تسمى تندرًا لكثر تردد رجال بوتين عليها للاستثمار فيها “لندن غراد”، الآن لم يعد هناك من مأمن لأحد ليس فقط على أموالهم وأموال عائلاتهم؛ بل أيضًا من المسائلة القانونية، وعليهم الاختيار بين ضياع كل شيء، أو وضع أموالهم بالداخل الروسي ليظلوا تحت رحمة سيد الكرملين الذي يمكن أن يعصف بهم في لحظة واحدة كما فعل مع “الأوليغارشيين السبعة” الذين أوصلوه للسلطة وعلى رأسهم بوريس بيريزوفسكي، أو الحل الأسلم بالتخلص من بوتين نفسه.

الخاتمة

تبدو هذه المرة أن العقوبات الاقتصادية الغربية دقيقة وذكية، وذات تأثير ممتد على كافة الجهات، الاقتصاد الروسي الكلي؛ الثقافة والفن والرياضة ومجمل التراكم الحضاري الروسي، عامة الشعب الذي يعاني بالفعل من سياسات النظام الاقتصادية وفساده، الحلقة الأهم والأقوى، هم رجال الأعمال المستفيدين من حكم بوتين، كل ذلك ستشكل تفاعلات ربما تؤدي لخلق تغيير داخلي في روسيا، يجنب هذا البلد وجواره والعالم أجمع تلك المقامرات السياسية المدمرة، ويظل الوقت والتعويل عليه على المدى المتوسط في غير صالح بوتين، وهو ما يفسر أيضًا عزم الغرب على دعم المقاومة الأوكرانية لكي تطول الحرب، ولا تصبح حرب خاطفة كما تعود بوتين على “الانتصار” السهل بالسنوات الماضية.

*تم إنجاز هذا التقرير بالتعاون مع مترجم مقيم في موسكو تم إخفاء اسمه حرصا على أمنه