سلوك إعلام القاعدة الرسمي خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية يشي بأن السحاب لم تعد أكثر من دار تنشر إصدارات زعيم التنظيم أيمن الظواهري؛ وأن الرجل لم يعد أكثر من باحث في الفلسفة. لا السحاب ولا الظواهري معنيان بمواكبة أحداث مفصلية حاسمة في تاريخ الساحة الجهادية، ناهيك عن أن الظواهري صار معنياً أكثر بالبحث والتأليف لا التوجيه والتخطيط.

عشية الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر، أعلنت السحاب عن مرتقب من دون أن تتضح معالم الإصدار خاصة بعد ساعات من نشر كتاب الظواهري الجديد “الكتاب والسلطان” أنصار القاعدة انتظروا مع المنتظرين وتوقعوا أن أمراً “ضخماً” سوف يصدر عن هذه “العملاقة” أي السحاب الخاصة بالصف القيادي الأول في التنظيم.

بُث الإصدار يوم ١١ سبتمبر؛ وكان فيديو تحدث فيه الظواهري تحت عنوان “القدس لن تُهوّد” في الجزء الأول. الفيديو كان مهماً ومخيباً لآمال الأنصار في نفس الوقت.

إثبات حياة

في الفيديو الذي امتد إحدى وستين دقيقة سرد الظواهري أحداثاً تنفي شائعات وفاته في أكتوبر الماضي. في نوفمبر ٢٠٢٠، راجت شائعات أن الرجل توفي وفاة طبيعية قبل ذلك بشهر. عزز هذا غيابه عن مفاصل مهمة في الساحة الجهادية؛ فإن تحدث تحدث متأخراً حيث لا يعود ثمة أثر للحديث.

في السرد، يذكر الظواهري هجوم تل السمن الذي وقع في الأول من يناير ٢٠٢١ ضد القوات الروسية في الرقة. بقايا فرع القاعدة في الشام، تنظيم حراس الدين، تبنى الهجوم في نهاية الشهر فيما وصفه “بغزوة العسرة.”

في سرد آخر، يذكر “الانسحاب الأمريكي” من أفغانستان. يقول: “وها هي (أمريكا) تخرج من أفغانستان منكسرة بعد حرب عشرين سنة.” على الأرجح أن الظواهري هنا يشير إلى أبريل الماضي عندما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن الانسحاب من أفغانستان بحلول سبتمبر. من الصعب التصديق أن المقصود هو الانسحاب الذي تمّ في ٣١ أغسطس؛ وإلاّ كان أولى أن يشير إلى دخول طالبان كابول وسيطرتهم على مقاليد الحكم في أفغانستان.

في الذكرى الـ ٢٠ لهجمات سبتمبر.. رسالة الظواهري تخيّب آمال أنصار القاعدة

الظواهري هنا كان يتحدث بحماس شديد عن إنجازات ضد “الحملات الصليبية.” فقارب بين الخلافة العثمانية وهجمات سبتمبر، ثم الانسحاب الأمريكي. قال: “وجاءت الدولة العثمانية فخطفت أراضي المسلمين لخمسة قرون … وجاء تسعة عشر مجاهداً … فطعنوا أمريكا في قلبها طعنة لم تذق مثلها، وها هي تخرج من أفغانستان منكسرة بعد حرب عشرين سنة.” في هذا الإطار، يبدو حتمياً أن يشير الظواهري إلى ما يصفه الجهاديون “بفتح كابول” على أقل تقدير.

تاريخ أبريل ٢٠٢١ يتسق مع تأريخ المقدمة التي وقّعها الظواهري في كتابه “الكتاب والسلطان.” وعليه، يبدو مرجحاً أن الرجل حيّ يُرزق على الأقل حتى تاريخ أبريل ٢٠٢١. قد يكشف الجزء الثاني من هذا الإصدار عن تاريخ آخر متى قررت السحاب بثه.

مسألة حياة أو وفاة الظواهري لا تعني الجمهور من باحثين وصحفيين ومشاهدين أو مستمعين إلا بقدر ما يعنيه الخبر. المسألة تعني الكثير، بل يجب أن تعني الكثير لأنصار القاعدة والجهاديين.

ثمة أمران يتعين على القاعديين من أفراد وأمراء حسمهما:

أولاً، أمر البيعة؛ فهل يبايعون رجلاً ميتاً أو عاجزاً؟

ثانياً، أمر القيادة؛ فمن يُسيّر أمور القاعدة؟ هل هو سيف العدل الذي يعيش في إيران منذ هجمات سبتمبر مع زوجته وحماه مصطفى حامد أبي الوليد المصري؟

قد يقول قائل إن القاعدة شبكة لا مركزية فلا تحتاج إلى قرار من القيادة العليا حتى تسير أمور الأفرع. هذا الكلام ليس دقيقاً تماماً. ثمة أفرع قوية وأخرى ضعيفة. تحالف نصرة الإسلام والمسلمين في مالي مستقل تماماً تحت قيادة إياد أغ غالي وخاصة بعد قتل أبي مصعب دروكدال. حتى إن الرجل أعلن العام الماضي استعداده التفاوض مع حكومة باماكو للتوصل إلى اتفاق يشبه اتفاق طالبان مع أمريكا. لكن فرعاً مثل حراس الدين في سوريا يعتمد تماماً في الاستراتيجية والتمويل على القاعدة المركزية. وهذا واضح من التخبط الذي أصاب التنظيم منذ نشأته حتى تلاشى أو يكاد أمام هيئة تحرير الشام بزعامة الجولاني. ونذكر أن الحساب الجدلي “ابن القاعدة” على تليغرام، كتب غير مرة عن أن عناصر الحراس من غير القياديين، أو من تبقى منهم، يعانون مالياً حتى إنه لم يعد أمام بعضهم خيار إلا الانضمام إلى الهيئة. وحتى تنظيم القاعدة في اليمن يبدو متخبطاً معدوم الموارد بعد انحساره حتى إننا سمعنا من أفراد في اليمن وسوريا أن من عناصر التنظيم من ينضم إلى القوات الحكومية أو يسافر إلى الصومال حتى يقيم أوده.

الشبكة

في خطوة هي الاولى من نوعها، استضافت السحاب قياديين من أفرع القاعدة في مقاطع سُجلت خصيصاً لهذا الإصدار، بحسب ما أشار إليه حساب “وريث القسام” القاعدي على تليغرام والذي يحاول أن يسدّ ثغرة في إعلام القاعدة. الإصدار استضاف خالد باطرفي وخبيب السوداني من تنظيم القاعدة في اليمن، وأبا عبيدة العنابي وعبدالإله أحمد من القاعدة في المغرب الإسلامي. كلما تحدثوا، ظهر شريط يقول إنه تم تسجيل هذه “الشهادات” بالتعاون مع مؤسستي الملاحم التابعة لقاعدة اليمن، والاندلس التابعة لقاعدة المغرب.

في الذكرى الـ ٢٠ لهجمات سبتمبر.. رسالة الظواهري تخيّب آمال أنصار القاعدة

ظهور خالد باطرفي في رسالة القاعدة الأخيرة

الذكرى الغائبة

لم يتطرق الإصدار إلى هذه الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر في هذا المفصل الحاسم من تاريخ الساحة الجهادية مع استيلاء طالبان على الحكم في أفغانستان. بالنسبة للسحاب والظواهري، لا يبدو أن اليوم يختلف عن الأمس، وهذا قصور ما بعده قصور.

في ذكرى العام الماضي، في ١١ سبتمبر ٢٠٢٠، بثت السحاب مرئية للظواهري بعنوان “صفقة القرن أم حملات القرون؟” في إشارة إلى اتفاق سلام اقترحه ووقعه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع إسرائيل.

بالرغم من أهمية الموضوع إلا أن الأحداث التي سردها الرجل كانت تعود إلى صيف ٢٠١٩، أي قبل أكثر من عام على تاريخ البث. كما أنه أمضى ٣٧ دقيقة من أصل ٣٤ دقيقة هي مدة الفيديو متحدثاً عن وثائقي لقناة الجزيرة القطرية. ذكرى الهجمات كانت غائبة.

والحال ذاته هنا. ذكر الظواهري أو أشار إلى الهجمات في موقعين اثنين إشارة لا تتعلق بالحدث نفسه، وإنما تتعلق بسياقات أخرى.

في الذكرى الـ ٢٠ لهجمات سبتمبر.. رسالة الظواهري تخيّب آمال أنصار القاعدة

رسالة “صفقة القرن أم حملات القرون؟” في ١١ سبتمبر ٢٠٢٠

طالبان والفخ

لم يذكر الظواهري طالبان أو الإمارة الإسلامية صراحة. ذكرهم تلميحاً كما ورد أعلاه. لكن ثمة أمرين استطرد فيها الظواهري يجب ألاّ يغيبا عن بال أنصار القاعدة عندما يعبرون عن ولائهم لطالبان.

الأول يتعلق بالقبول في المنظومة العالمية. في الدقيقة ٢٠، يتحدث الظواهري عن ميثاق الأمم المتحدة وكيف أن الدول الأعضاء، بما فيها الدول العربية والإسلامية “التي تتحدث عن عدم الاعتراف بإسرائيل” ملتزمة بموجب الميثاق بالاعتراف بإسرائيل باعتبارها عضواً في المنظمة الأممية.

طالبان تسعى إلى اعتراف دولي. وفي سيرتها الأولى عندما حكمت كابول من ١٩٩٦ إلى ٢٠٠١، سعت إلى الانضمام إلى الأمم المتحدة. على الأرجح أنها ستعيد الكرة هذه المرة. فماذا سيكون موقف الظواهري وأنصار القاعدة من ذلك؟ حتى الآن، نجد أن أنصار القاعدة ومنظريهم، المقدسي والسباعي وعبدالحليم وغيرهم، يبررون لأفعال وأقوال طالبان بأنها “سياسة” تهدف إلى اتقاء شرّ أكبر. وبالرغم من تقارب طالبان مع الصين وروسيا وغيرهما من الدول التي يقول الجهاديون إنها تبطش بالمسلمين، يصمت أنصار القاعدة بمجرد أن يبطش طالبان بالنساء المطالبات بالعمل والتعليم.

الأمر الآخر يتعلق بالصين حصراً. في الدقيقة  ٥١، يدعو الظواهري إلى القتال “متحدين كأمة واحدة، ففلسطين هي كشمير، وكشمير هي جروزني، وجروزني هي إدلب، وإدلب هي كاشغر، وكاشغر هي وزيرستان.”

قشقر، أو كاشغر، هي أهم مدينة في إقليم شنجان، أو تركستان الشرقية، حيث يعيش الإيغور المسلمون شرق الصين. وهناك يتعرض الإيغور إلى اضطهاد ممنهج وغير مسبوق يمارسه الحزب الشيوعي الحاكم. نقرأ كلام الظواهري ونسمعه  وطالبان لا يزالون يتمسحون بالصين ويعتبرونها شريكاً استراتيجياً واقتصادياً مهماً. بل إن الصين من الدول القليلة التي أبقت سفارتها وسفيرها في كابول طوال الأيام الماضية بعد أن دخل طالبان إلى كابول. الأهم، أن مسؤولي طالبان لا يزالون يرفضون مجرد الحديث عن اضطهاد الإيغور. في مقابلة حديثة مع التلفزيون الياباني، قال سهيل شاهين المتحدث باسم طالبان إن “الإيغور مواطنون صينيون،” وإن الصين لديها قانون يضمن “مساواة الحقوق.”

في الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر، يعود طالبان إلى كابول التي طُردوا منها لأنهم آووا أسامة بن لادن. لا يزال الوقت مبكراً ليتكشف إن كانوا تعلّموا الدرس. عندها، أي ملجأ يأمل أن يجد الظواهري؟ وفي كل الأحوال، أي زعيم يأمل أفراد أن يجد أفراد القاعدة؟