ثروة “بن لادن” لغز الأموال التي صنعت القاعدة

في صيف عام 2012، وبعد نحو شهر من الذكرى الأولى لمقتل زعيم تنظيم القاعدة المؤسس “أسامة بن لادن”، خرج نائبه وخليفته في قيادة التنظيم “أيمن الظواهري”، ليروى بعضًا من ذكرياته مع “الرجل الذي أنفق كل ماله في سبيل الجهاد”، على حد تعبيره، في الحلقة الثانية من السلسلة الدعائية “أيام مع الإمام” التي نشرتها مؤسسة السحاب، الذراع الإعلامية للتنظيم، على 8 حلقات متفرقة، في الفترة الممتدة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2011: أبريل/ نيسان 2019.

وخلال الحلقة، قال “الظواهري”، بلهجة واثقة: “كان الشيخ- يقصد بن لادن- سخيًا في الإنفاق على الجهاد، وأذكر أني تباحثت مرة مع أخي أبو حفص- أبو حفص المصري، نائب “بن لادن” والشهير بالكومندان– فسألته: في نظرك ما هو السبب الذي منح “الشيخ” هذه الشعبية والقبول بين الناس “الجهاديين”، فقال أحسب أنه إنفاق ماله كله في سبيل الجهاد، فقلت والله صحيح”.

لم يكن هذا الحديث الجانبي بين “الظواهري”، و”الكومندان” سوى واحدًا من أحاديث وروايات عديدة صاحبت رحلة صعود “بن لادن” لسدة قيادة الحركة الجهادية العالمية التي مثلها تنظيم القاعدة، منذ أواخر الألفية الماضية، وهي الرحلة التي ارتبطت، في أصلها، بثروة أسامة بن لادن التي صنعت “القاعدة”، ومولت هجماته الأبرز على برجي التجارة العالميين ومقر وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”، في 11 سبتمبر/ أيلول 2001.

بريق الثروة

وفي هذا الإطار، احتفى أعضاء التنظيم بإنفاق وتمويل أسامة بن لادن له، في مناسبات عديدة، وكذلك صاغت الآلة الدعائية للقاعدة، صورةً لزعيمه التنظيم، قائمة على أساس تضحيته بماله في سبيل إنشاء وتأسيس “القاعدة” وانتقاله بين شمال إفريقيا وجنوب آسيا، لإنجاز المهمة التي نذر نفسه له وهي القتال ضد الولايات المتحدة الأمريكية.

كما حرص قادة التنظيم، على التذكير بما وصفوه بـ “فضل أسامة بن لادن” على الحركة الجهادية المعاصرة، فتغنى أحد منشدي القاعدة مادحًا له: “تركت الأهل والمال وجبت الأرض ترحالًا”، وأثنى رفيقه أيمن الظواهري عليه، في رثاءه له، قائلًا إنه “اختار حياة الجهاد والهجرة والتقشّف، فأُبدل بها حبًا ملأ قلوب أتباعه”.

لغز أموال "زعيم القاعدة".. أين ذهبت ملايين أسامة بن لادن؟

أسامة بن لادن يتوسط أبو حفص الكومندان وأيمن الظواهري

بيد أن الاهتمام بـ “ثروة بن لادن”، لم يقتصر على أتباعه “الجهاديين”، إذ ركزت أجهزة إنفاذ القانون والوكالات الاستخبارية الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها الاستخبارات الأمريكية، على تحديد الأصول المالية لزعيم القاعدة وتجميد أرصدته، وبالتالي حرمان التنظيم من الموارد المالية اللازمة لشن هجمات إرهابية في أي بقعة من العالم.

ورغم الجهود الاستثنائية التي بُذلت، طوال سنوات الحرب على الإرهاب، لتفكيك الشبكة المالية لتنظيم القاعدة وزعيمه، إلا أن حجم ثروة “بن لادن”، والطرق التي تم إنفاقها فيها يبقى لغزًا كبيرًا، حتى الآن.

لغز أموال “زعيم القاعدة”

ولعل منشأ الخلاف حول ثروة زعيم تنظيم القاعدة الراحل، يرتبط بعدم وجود تقدير دقيق لها، واختلاف الجهات المعنية والخبراء حول حجم هذه الثروة، فضلًا عن هالة السرية المفروضة حول أصولها، وسبل إنفاقها.

فخلال السنوات الأولى من الحرب الأمريكية على الإرهاب، قدر مسؤولون في وزارة الخارجية الأمريكية ثروة “بن لادن” بنحو 300 مليون دولار، والتي حازها بطريق الإرث عن والده “محمد بن لادن”، بينما قدرت تقارير غربية أخرى ثروة زعيم القاعدة بـ 1: 3 مليار دولار، وفقًا لما ذكره رئيس جهاز الاستخبارات السعودي الأسبق الأمير تركي الفيصل.

وبحلول عام 2002، قدرت لجنة التحقيقات في الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة والشهيرة بـ “لجنة 11 سبتمبر” أن ثروة أسامة بن لادن تتراوح ما بين 50: 300 مليون دولار، موضحةً أن تنظيم القاعدة لديه شبكة مالية مستقلة يُدير ويمول من خلالها أعماله الروتينية، والتي تتكلف شهريًا نحو 30 مليون دولار، بينما قدرت الاستخبارات السعودية أن ثروته تتراوح ما بين 40: 50 مليون دولار فقط.

غير أن مصادر ثروة “بن لادن” لم تقتصر على إرثه ونصيبه في أموال العائلة، إذ كشف العديد من قادة تنظيم القاعدة السابقين، والذين عاشوا بالقرب منه، أن زعيم القاعدة حصل على أموال تُقدر بملايين الدولارات تبرع بها أثرياء مؤيدون للقاعدة، ونُقلت له عبر وسطاء، وهو ما أكدته لجنة 11 سبتمبر الأمريكية والتي قالت بدورها إن “بن لادن” حصل على تبرعات تصل لنحو مليون دولار سنويًا في الفترة من 1970: 1994.

وعلاوة على أموال الإرث والتبرعات، خصصت القيادة العامة للتنظيم جزءًا من الإيرادات التي تحصل عليها لزعيمه، وأنشأت له حسابًا خاصًا مستقلًا عن الحساب العام للقاعدة.

وتوضح رسالة سرية “ضمن وثائق آبوت آباد التي نشرتها الاستخبارات المركزية الأمريكية”، أرسلها أسامة بن لادن إلى عطية الله الليبي “جمال المصراتي”، مسؤول العمليات الخارجية في القاعدة سابقًا، أن زعيم القاعدة امتلك حسابًا مستقلًا عن الحساب المالي العام للتنظيم، وكان هذا الحساب تحت تصرف مسؤولي العمليات الخارجية الذين أشرفوا على تحويل الأموال إلى “بن لادن”، على دفعات بالعملة الأجنبية “اليورو/ الدولار”، والعملة المحلية في باكستان “الروبية”، بناءً على طلبه، كما استخدموا حسابه الخاص في تمويل العمليات الإرهابية عند الحاجة لذلك.

بخصوص إرسال الأموال إلي فأرجو تعميد من يلزم بارسال كامل كشف حسابي الخاص وحبذا أن ترسلوا إلي مبلغ ٣٠ ألف يورو يؤخذ ما وجد منها من حسابي الخاص ويتم الباقي قرضاً علي من الحساب العام على أن يبقى بعض المال في حسابي الخاص لتسيير أمور الأهل والأبناء إذا وصلوا من إيران

رسالة بن لادن لعطية الله الليبي

الدولارات الضائعة على طريق “بن لادن”

إلى ذلك، عمد “بن لادن” إلى توزيع أمواله على أنشطة تجارية مختلفة، بجانب وضع مبالغ منها في حسابات سرية لا تحمل اسمه، لتضليل الجهات المعنية بالتفتيش عن ثروته الطائلة، لكن الجزء الأكبر من تلك الثروة تبدد بين السودان وأفغانستان، خلال الفترة من 1991: 2001.

وأثناء تواجده في السودان،سعى أسامة بن لادن للاستثمار في مشروعات تجارية متنوعة، فأسس شركات: وادي العقيق للمقاولات، وطابة للاستثمار، وشركة الهجرة، وعمل على الاستثمار في الرقعة الخضراء، وتصدير المنتجات الزراعية، واشترى مزرعة تابعة لجامعة الخرطوم بضاحية سوبا “جنوبي العاصمة”، ونفذ مشاريع لشق الطرق وتشييد الإنشاءات، قبل أن تتوتر علاقته مع نظام الرئيس، آنذاك، عمر البشير.

وعقب محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، منتصف عام 1995، تعرضت السودان لضغط إقليمي ودولي للتخلص من أسامة بن لادن وأتباعه الجهاديين، وبالفعل توجه “البشير” لمقر إقامة زعيم القاعدة وأخبره بوجوب مغادرة البلاد، وعندما سأل الأخير عن مصير أمواله وممتلكاته في السودان، أبلغه الرئيس السوداني أنها ستُصفى وتنقل له كاملة.

ويذكر أيمن الظواهري، في الحلقة الثانية من “أيام مع الإمام”، أن زعيم القاعدة المؤسس خسر أموالًا كثيرة وضعفت ميزانيته عند خروجه من السودان، ولم يعد بنفس الثراء الذي كان عليه، لكن من حوله اعتقدوا أنه لا زال بنفس الثراء، لاسيما وأنه ظل يُنفق بسخاء على تمويل هجمات القاعدة.

وقدر أسامة بن لادن، حجم خسائره في السودان بنحو 150: 160 مليون دولار، معتبرًا أنها سُرقت منه بصورة مؤسسية وتحت ستار ديني “في إشارة لما قام به مسؤولو نظام الرئيس عمر البشير، المحسوب على جماعة الإخوان، وغيرهم من المنتمين لتيارات الإسلام السياسي”، وذلك بحسب ما قاله في أحد الحوارات الصحفية التي أجراها عقب خروجه من السودان، عام 1996.

لغز أموال "زعيم القاعدة".. أين ذهبت ملايين أسامة بن لادن؟

الرئيس السوداني عمر البشير والقيادي الإخواني السوداني حسن الترابي

ويوضح “الظواهري” أن بعض الجهاديين اقترضوا أموالًا من زعيم القاعدة لاستثمارها في الأعمال التجارية، وعجزوا عن سدادها، لاحقًا، وبالتالي فقد مبالغًا ضخمة، مشيرًا إلى أن أحد “الأفغان العرب” حصل على كميات كبيرة من السكر الذي كان أسامة بن لادن يتاجر فيه، خلال وجوده في السودان، وأصبح مدينًا له بعشرات الآلاف من الدولارات “لم يحدد المبلغ بدقة”، ثم تعرض لعملية نصب بواسطة جمال أبو الفضل، مساعد بن لادن الذي سلم نفسه، بعد ذلك، للسلطات الأمريكية في تسعينيات القرن الماضي، ولم يتمكن من سداد سوى نصف المبلغ الذي اقترضه، قبل أن يُقتل، لاحقًا، في القصف الأمريكي على أفغانستان عقب هجمات 11 سبتمبر، وعندها تنازل “بن لادن” عن بقية الدين المستحق.

وفي سياق متصل، حصل زعيم القاعدة على مليون و100 ألف دولار فقط من إجمالي أمواله قبل الرحيل عن الخرطوم، بحسب ما كتبه في وصيته المالية التي تركها لأسرته، ثم تلقى 800 ألف دولار أثناء وجوده في جلال آباد عام 1996، كما حصل على مليون و250 ألف دولار أثناء وجوده في قندهار عام 1998، ليبلغ إجمالي ما حصل عليه 3 ملايين و150 ألف دولار فقط، بجانب 12 مليون دولار حصل عليها عن طريق أخيه أبو بكر بن لادن، بينما استولى مسؤولون بنظام البشير على جزء من أمواله وتركته في السودان، واحتفظوا بها لنحو عقدين من الزمان، قبل أن تُقرر لجنة اجتثاث وتفكيك نظام الرئيس المعزول عمر البشير، مصادرتها في عام 2020.

لغز أموال "زعيم القاعدة".. أين ذهبت ملايين أسامة بن لادن؟

وصية بن لادن المالية

وعقب الخروج من السودان، عرض أبو حفص الموريتاني “محفوظ ولد الوالد”، مفتي القاعدة سابقًا، أن يتولى إخراج أموال “بن لادن” من السودان وإيصالها له، مقابل أن يحصل على نسبة قدرها 1% منها، وبالفعل تلقى ما بين 20: 30 ألف دولار كدفعة أولى من نسبته المتفق عليها، كما أوصى زعيم القاعدة بمنح “أبو إبراهيم العراقي”/ المهندس سعد جوهر، أحد مؤسسي شركة وادي العقيق، نسبة 1% من أمواله الموجودة في السودان، لدوره في إدارة المشروعات التي عملت فيها الشركة، أثناء وجودها في السودان.

على ثرى أفغانستان

وصل أسامة بن لادن إلى أفغانستان، منتصف عام 1996، حيث استضافه الملا محمد يونس خالص، المنشق عن الحزب الإسلامي الأفغاني والمتفرغ لرعاية شؤون قبيلته في تلك الفترة، في مدينة جلال آباد “ولاية ننجرهار- شرق البلاد”، تحت رعاية ومباركة حركة طالبان الأفغانية وزعيمها الملا محمد عمر مجاهد، واستفاد الأول من سيطرة الحركة الأفغانية على جنوب البلاد لترميم شبكته المالية، ووضع القواعد المؤسسة لتنظيم القاعدة، بشكل رسمي.

وفي فبراير/ شباط 1998، أعلن أسامة بن لادن وأيمن الظواهري “ممثلًا عن جماعة الجهاد”، ورفاعي طه “ممثلًا عن الجماعة الإسلامية المصرية”، ومير حمزة “ممثلاً لجمعية العلماء بباكستان”، وفضل الرحمن “حركة الأنصار بباكستان”، وعبدالسلام محمد”زعيم حركة الجهاد ببنغلادش”، ما أسموه بـ”الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين“، والتي حددت هدفها بـ “قتال الأمريكيين وحلفائهم من العسكريين والمدنيين في كل بلد يتيسر فيها ذلك”.

وعند تلك المرحلة، بدا أن حقبة جديدة من “الجهاد المعولم” بدأت بشكل رسمي، بتحالف الجهاديين المصريين وغيرهم، مع أسامة بن لادن، الذي وقع على بيان تأسيس “الجبهة الإسلامية العالمية” كفرد مستقل عن أي جماعة أو تنظيم.

لغز أموال "زعيم القاعدة".. أين ذهبت ملايين أسامة بن لادن؟

رفاعي طه القيادي بالجماعة الإسلامية سابقًا

على أن تشكيل الجبهة الجديدة، ارتبط، بشكل وثيق، بالانتكاسات التي تعرض لها الجهاديون المصريون، وفشل تنظيم الجهاد بإمارة أيمن الظواهري في توفير الأموال اللازمة لإعاشة أعضاءه والإنفاق على عملياته، ما دفعه للتحالف مع أسامة بن لادن، للتغلب على الأزمة المالية التي يواجهها، في حين عقد الأخير، اتفاقًا مع حركة طالبان، لتوفير راتب شهري يبلغ نحو 100 دولار، لأعضاء تنظيم الجهاد الذين انتقلوا إلى أفغانستان.

ويؤكد أيمن الظواهري أن القدرات المالية لأسامة بن لادن تآكلت في تلك الفترة، وأصبح يعاني لتوفير الأموال اللازمة لإعاشة أتباعه الذين انتقلوا إلى قندهار “جنوبي أفغانستان”، وأنشأوا مجتمعًا لـ “الأفغان العرب”، تحت رعاية “طالبان”.

تمويل الحرب الجهادية

ومن داخل قندهار، شرع أسامة بن لادن في خوض “حربه الجهادية” ضد الولايات المتحدة، وأنفق جُل أمواله على تمويل الهجمات ضد المصالح الأمريكية، إذ أنفق 50 ألف دولار من أصل 55 ألف “إجمالي ما يملك في أحد الأشهر الثمانية الأولى في 1998″، لتمويل عملية استهداف السفارتين الأمريكيتين في نيروبي “كينيا”، ودار السلام “تنزانيا”، والتي تمت في أغسطس/ آب 1998، بحسب ما نقله “الظواهري” عن أحد رفاق زعيم القاعدة، في تلك الفترة.

ونتيجة ضعف موارده المالية، قصر “بن لادن” إنفاقه على تمويل أنشطة “القاعدة” الجهادية فقط، ورفض تخصيص أي أموال لأغراض أُخرى، معتبرًا أن الإنفاق على الأعمال الخيرية ككفالة الأيتام، وبناء المدارس، وإطعام الجائعين لا قيمة له، إذا لم يتم تمويل الجهاد، على حد قول “أيمن الظواهري”.

وبعد تنفيذ هجمات نيروبي ودار السلام، شرع مسؤولو العمليات الخارجية في التنظيم، في العمل على مخطط 11 سبتمبر، الذي تحمس له أسامة بن لادن ورفضه 9 من أصل 11 من مجلس القاعدة القيادي “يُعرف أيضًا بمجلس الشورى العالمي”، وأشرف أسامة بن لادن على تمويل الهجمات بنفسه، وأنفق عليه جل الأموال التي يمتلكها، حتى أنه اضطر، في أحد المرات، لإنفاق أموال الإعاشة الشهرية المرصودة للإنفاق على أفراد التنظيم وأسرهم، على تدريب منفذي هجمات سبتمبر، وبقي أعضاء التنظيم بلا راتب شهري/ معاش، حتى حصل على أموال من جهة أخرى.

وفي حين اعتبر تقرير صادر عن لجنة 11 سبتمبر أن التكهنات الرائجة حول تمويل أسامة بن لادن للهجمات الإرهابية، التي كلفت القاعدة ما بين 400: 500 ألف دولار، “غير دقيقة”، أكد أيمن الظواهري، في سلسلة أيام مع الإمام، أن زعيم التنظيم الراحل مول الهجمات بنفسه بما توافر لديه من أموال، وأن تلك الأموال استُخدمت في إعداد وتدريب “مختطفي الطائرات” بقيادة المصري محمد عطا.

وإلى جانب تمويل الهجمات الإرهابية، سعى أسامة بن لادن إلى شراء دعم مكونات حركة طالبان، وكسب وُدّ القبائل الأفغانية المحلية عبر تقديم الهبات المالية لهم، بجانب الإنفاق ببذخ على شراء السلاح والذخيرة، استعدادًا لمواجهة الحملة الأمريكية المتوقعة على أفغانستان عام 2001.

لغز أموال "زعيم القاعدة".. أين ذهبت ملايين أسامة بن لادن؟

رسالة من أحد قيادات القاعدة عن تقديم دعم مالي بالدولار لطالبان

وأبرم “بن لادن” صفقة لشراء قذائف R.B.G المضادة للدروع مع أحد الأفغان، ودفع مقابلها مبلغًا كبيرًا من المال يفوق قيمتها الحقيقية، لأنه كان متعجلًا في شراء السلاح والاستعداد للهجوم الأمريكي المتوقع، ولم يفاوض على أسعار الشراء، متذرعًا بأن “الوقت غير مناسب”، على حد تعبير “الظواهري” في الحلقة الثامنة من “أيام مع الإمام”.

ونجحت طريقة زعيم القاعدة في استمالة عدد من زعماء القبائل المحليين، الذين عارضوا حركة طالبان وانضموا لتحالف الشمال الذي حارب إلى جانب القوات الأمريكية، خلال غزو أفغانستان، خاصةً وأن الأول ظل يرسل الهبات المالية لهم، حتى أثناء حصار بعضهم له في تورا بورا “ولاية ننجرهار شرق أفغانستان”، معتبرًا أن تلك الأموال تدخل ضمن ما سماه “جهاد الدفع” أي “رد العدو عن طريق قتاله أو استمالته وتحييده بالمال”، وساهمت تلك الأموال في تهريب أسامة بن لادن ومقاتلي التنظيم من أفغانستان بعد إطباق الحصار عليهم، وذلك بعد أن هربهم “المعلم أول قل”- قائد لواء الدبابات في جلال آباد والذي انضم لتحالف الشمال وأبقى على صلاته مع القاعدة في نفس الوقت- في سيارته ووسط حرسه الخاص.

تجفيف المنابع

وبالتوازي مع بدء العمليات العسكرية على معاقل التنظيم في أفغانستان، شنت الولايات المتحدة والعديد من الدول والمنظمات الدولية المعنية بمكافحة الإرهاب، حملة لتجفيف موارد الدعم المالي للقاعدة، وشملت تلك الحملة تجميد حسابات بنكية لأسامة بن لادن ولأعضاء وقيادات تنظيمه، والمنظمات والجمعيات المرتبطة به.

وفي غضون أقل من أسبوع على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، جمدت الحكومة الباكستانية نحو 27 حسابًا بنكيًا لأسامة بن لادن وجمعيات خيرية مرتبطة به، منها مؤسسة عبد الله عزام التي ظلت تملك حسابات وأرصدة داخل البلاد، حتى ذلك الحين، وبعد أيام معدودة من هذا القرار، جمدت الولايات المتحدة 27 حسابًا آخرًا لمنظمات وجمعيات يُشتبه في وجود علاقات بينها وبين تنظيم القاعدة.

ومن الواضح أن عملية تجميد الأصول المالية للقاعدة جرت بشكل منسق بين الولايات المتحدة وباكستان وغيرهما من الدول التي اتفقت على التعاون في ما بينها لخوض حرب “تجفيف المنابع المالية” للإرهاب.

وخلال 15 شهرًا، بلغ إجمالي الأموال المجمدة للقاعدة والجهات المرتبطة بها في باكستان نحو 640 مليون روبية “10 مليون دولار”، بيد أن إجمالي نصيب أسامة بن لادن منها كان أقل من ألفين دولار فقط، وُجدت في حساب باسمه داخل مدينة بيشاور “قرب الحدود الأفغانية” حيث أقام، في وقت سابق.

وعلى نفس الصعيد، أكد تقرير صادر عن فريق الرصد المعني بمتابعة تنظيم القاعدة، والمُنشأ بموجب قرار لمجلس الأمن الدولي عام 2001، أن الجهد غير المسبوق لتجميد أموال أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان، أدى لتجميد 112 مليون دولار خلال الربع الأخير من عام 2001، بينما جرى تجميد 10 ملايين دولار إضافية، عقب إصدار قرار مجلس الأمن رقم 1390، في يناير/ كانون الثاني 2002.

لغز أموال "زعيم القاعدة".. أين ذهبت ملايين أسامة بن لادن؟

تقرير مجلس الأمن الدولي عن تجميد أموال بن لادن

ويلفت التقرير إلى أن تنظيم القاعدة بقيت لديه القدرة على الحصول على دعم مالي من الإرث الشخصي لـ “بن لادن” واستثماراته، وعبر أعضاء ومؤيدي التنظيم ومن التبرعات التي حصل عليها من خلال جمعيات خيرية، مشددًا على أن تجربة ملاحقة التنظيم ماليًا أثبتت أنه من الصعب تعقب كل الأموال التي تُجمعها أو تنفقها هذه الجمعيات، وبالتالي صعوبة القضاء على كل موارد التنظيم المالية.

إيران الحاضرة دائمًا

على أن حملة تجفيف الموارد المالية للقاعدة، تسببت في قطع العديد من روافد التمويل الخاصة به، وصار التنظيم أمام معضلة حقيقية لتوفير المصروفات التشغيلية الخاصة به، ودفع الرواتب لأعضاءه، كما حُرم من ملاذاته الآمنة في أفغانستان بعد سقوط نظام حركة طالبان في ديسمبر/ كانون الأول 2001.

وفي ذلك التوقيت، سمحت إيران للتنظيم باستخدام أراضيها كممر للأموال والأفراد، وصارت الأراضي الإيرانية المعبر الرئيس أمام التنظيم لإيصال التمويل، ونقل التبرعات من كافة المناطق إلى أسامة بن لادن، كما ينص خطاب أرسله قيادي بالقاعدة “حركي المحب” لفرع التنظيم في العراق.

إيران ممر أموال القاعدة

كما دعا أسامة بن لادن، مؤيدي تنظيم القاعدة في جميع أنحاء العالم للتبرع للتنظيم، وذلك في أكثر من مرة، من بينها خلال كلمته المعنونة بـ”يا أهل الإسلام”، والمنشورة في 24 أبريل/ نيسان 2006، والتي قال فيها: “أيها المسلمون من عجز عن الجهاد بنفسه، فلا يبخل على نفسه بالجهاد بماله وقلمه ولسانه..”.

ويبدو أن دعوة التبرع لـ”القاعدة” لاقت رواجًا عند بعض المتعاطفين معه، والذين هربوا بدورهم أموالًا لصالح “بن لادن”، كما تقول إحدى رسائل آبوت آباد الموجهة لأسامة بن لادن، والتي يذكر فيها “حاجي عثمان”، القيادي بالقاعدة، أن أحد المتعاونين مع التنظيم كان لديه مبلغ مالي كبير ورفض تسليمه لهم إلا بعد أن يحصل على رسالة موافقة من زعيم التنظيم شخصيًا، وكذلك طلب منسق القاعدة المالي في الجزيرة العربية ثم في أوروبا لاحقًا والمكنى بـ”نجم الخير”، أن يكتب “بن لادن” رسالة لأحد شيوخ الجزيرة العربية “حركي خير الخير”، والذي كان لديه مبلغ يُقدر بملايين الريالات “2 مليون ريال سعودي دفعة أولى”، مجهزة للتحويل لكن شريطة أن تصل لزعيم القاعدة شخصيًا.

ورغم تدفق أموال الدعم لزعيم القاعدة، إلا أن التنظيم ظل يعاني من محدودية القدرات المالية، كما نصت رسائل عديدة بين أسامة بن لادن وعطية الليبي، لذا تبرع الأول بآلاف الدولارات لصالح التنظيم من حسابه الخاص، وحول أموال تبرعات حصل عليها إلى الحساب العام للتنظيم، وكذلك خصص أمولًا لشراء الأضاحي وتوزيعها على أعضاء القاعدة.

وعلى ذات الصعيد، كلف “بن لادن” مسؤولي العمليات في القاعدة بانتقاء الكوادر النوعية المناسبة للعمل الإرهابي وعدم التوسع في ضم الأفراد أو فتح جبهات جديدة خصوصًا في الجزيرة العربية، لضعف الإمكانيات المالية، كما وجه بتكليف المسؤول المالي للقاعدة بتقديم تقرير نصف شهري عن الأموال التي بحوزته وأن يتم توزيعها على أشخاص مكلفين وقادرين على حفظها.

كما أمر  زعيم التنظيم بتقديم دعم للجماعات المتعاونة مع القاعدة في باكستان وأفغانستان بنحو 150 ألف دولار على أن يتم تحويلها لهم بالعملة المحلية “الروبية”، وكذلك حظر تسليم رواتب أفراد القاعدة لهم، قبل موعدها المحدد، لأن بعض الأفراد ينفقون رواتبهم، ثم يطلبون قروضًا إضافية وقد يبددونها كما حدث أثناء خروج عائلات أفراد القاعدة من باكستان إلى إيران.

وتبين هذه الرسالة أن زعيم القاعدة الراحل حصل  على نسبة من الأموال التي جناها التنظيم، وأودعت تلك الأموال في حسابه السري الخاص لدى القاعدة قبل أن تُنقل له بصورة يدوية عن طريق وسطاء، وأنه كان حريصًا للغاية على عدم إضاعة الأموال في ظل الأزمة المالية التي يعانيها تنظيمه، وهو ما يظهر في توجيهه لـ “عطية الليبي” بالحفاظ على مبلغ 2 مليون دولار “من أصل 6 ملايين دولار” حصلوا عليها كفدية مقابل إطلاق سراح دبلوماسي أفغاني، معتبرًا أن هذه المبلغ “قد يكون رزق التنظيم لمدة 6 سنوات”، على حد وصفه.

بعض الأخوة لا يملكون قدرات إدارية تؤهلهم للمحافظة على المال سواء بضياعه أثناء الحركة أو بصرفه في غير موضعه فسنكون في موقف حرج إن صرف الأخ المال وطلب قرضاً فلن نملك إلا أن نعطيه فلا ينبغي أن نضع أنفسنا في هذه المواقف

رسالة بن لادن بالحفاظ على أموال القاعدة

انتعاشة مالية ومصير غامض

وعبر تحليل المئات من الرسائل الداخلية المتبادلة بين أسامة بن لادن ومسؤولي العمليات الخارجية في القاعدة وعلى رأسهم عطية الليبي، يُمكن استنتاج أن التنظيم وزعيمه، عاشا انتعاشةً مالية، في عام 2010، وأوائل عام 2011، وخلال تلك الفترة تحسن تدفق الأموال لصالح التنظيم من داخل وخارج باكستان، وجرى تحويل جزء من العملة المحلية “الروبية” إلى ذهب، وعملات أجنبية منها اليورو والدولار، وكذلك سداد بعض الديون القليلة الموجودة على التنظيم، وتقديم دعم للمجموعات المتعاونة معه، واستحداث ميزانيات جديدة ورفع قيمة ميزانيات سابقة.

وعلى نفس الجهة، رصد أسامة بن لادن مبلغًا ماليًا لتهريب أعضاء أسرته من إيران إلى مقر إقامته في آبوت آباد بباكستان، وأبلغ زوجته ونجله “حمزة” بطلب أي أموال يحتاجونها من عطية الليبي، الذي كان لديه تفويض بصرف أي أموال لازمة لأسرة زعيم القاعدة من حسابه الخاص، وتأمين عملية نقلهم خارج إيران.

وتحدد رسالة سرية أرسلها أبو عبدالله الحلبي، القيادي بالقاعدة، لخالد نجل أسامة بن لادن، “قُتل معه في آبوت آباد”، أن حساب والده الخاص تبقى فيه 10 آلاف و500 يورو، و10 آلاف دولار، في الـ 26 من أغسطس/ آب 2010، وذلك بعد خروج أسرة زعيم القاعدة من إيران ووصولهم إلى باكستان.

غير أن”وصية بن لادن” التي كتبها بخط يده، تؤكد أن إجمالي ثروته يتخطى المبلغ القليل الموجود في حسابه، ويصل إلى عشرات الملايين من الدولارات “نحو 29 مليون دولار”، والتي طلب من أسرته أن ينفقوها في خدمة “الجهاد العالمي”.

وبينما حسمت القوات الأمريكية مصير زعيم القاعدة، ونجحت في تصفيته خلال عملية خاصة على مقر إقامته في باكستان، في مايو/ آيار 2011، ظل مصير أمواله المتبقية غامضًا، ولم يكشف التنظيم أو غيره عما إذا كانت قد بقيت في السودان، أو خرجت وأودعت في حسابات سرية لدعم القاعدة، كما أوصى أسامة بن لادن قبل مقتله.

ومع اقتراب تصفية تنظيم القاعدة اقتصاديا، من المرجح أن تنتقل أمواله وخاصة الجزء الكبير الذي تركه أسامة بن لادن إلى زمرة أشخاص صغيرة غير مستحقة لها.

الأموال جزء من موارد كبيرة أهدرها تنظيم القاعدة بدعوى شن حرب عالمية باسم أيدلوجيته الدينية، وفي نهاية المطاف، لم يطله من هذه الحرب سوى الفشل وخيبة الأمل لأتباعه.

إن استخدم تنظيم القاعدة كل الأموال المخبأة لدفعها مقابل دماء الأبرياء التي سفكها فلن تكفي. ومن غير المرجح أن يحدث ذلك.

إذ أن الأموال لن تصل إلى الأسر المحرومة من عائلات التنظيم التي تعيش في عزلة وسط أوطانهم، فيما لم يسمع أحد أن تنظيم القاعدة يمنح الزكاة من أمواله للعائلات الفقيرة من أعضائهم المتوفيين في ميليشيا التنظيم. وفي الواقع فإن غموض ما حدث لأموال المنظمة يكشف الكثير عن طبيعتها الحقيقية.

الخلاصة:

• أموال بن لادن أحد العوامل الحقيقية التي أدت لميلاد القاعدة، بعد انكسار تنظيم الجهاد المصري وضعف مصادر تمويله، وبحث قيادته عن “ممول سخي” لينفق على “الجهاديين” وأسرهم.
• ثروة بن لادن الحقيقية تجاوزت الـ 300 مليون دولار، التي حازها بطريق الإرث، كما تلقى زعيم القاعدة تبرعات تصل إلى عشرات ملايين الدولارات من قبل المتعاطفين مع التنظيم على مدار سنوات طويلة.
• فقد أسامة بن لادن أغلب ثروته في السودان، لكنه حرص على تمويل الهجمات الإرهابية ضد المصالح الأمريكية، ليعلن أن حرب “القاعدة” الأيدولوجية ستستمر رغم كل الأموال المهدرة والأرواح التي أزهقت.
• أنفق زعيم القاعدة جزءًا من ثروته في شراء السلاح، وكسب ود القبائل والتنظيمات المحلية في أفغانستان وباكستان، وتسبب ذلك في ضعف القدرات المالية للتنظيم، لكنه وجد طريقًا لتهريب أموال التبرعات والتمويل عبر الأراضي الإيرانية.