الإدمان دفع مراهقين مثل عُديّ إلى عالم الجريمة والسجون
في غرفة معتمة في نهاية أحد الأزقة الملتوية في مدينة منزل تميم شمال شرقي تونس، يجلس عُديّ (اسم مستعار) وحيدا محاطا بأعقاب سجائر القنب الهندي وبقايا مخدرات أخرى، فهو يتعاطى أكثر مما يأكل أو يشرب.
لا يستطيع الشاب البالغ من العمر 31 سنة أن يظهر خارج المنزل خوفا من الشرطة التي تطارده منذ أسابيع، مسلّما بأن حياته في تونس قد انتهت وأن سبيله الوحيد للنجاة هو الهرب نحو أوروبا لاحتراف ترويج المخدرات هناك.
التقى مراسل أخبار الآن عُديّ سرّا بينما كان يستعد للهروب من تونس نحو أوروبا. كان من الصعب اقناعه بالحديث للكاميرا ولكنه قبل ذلك بعد أن ضمنا له الحفاظ على سرية هويته. في الواقع عُديّ هو واحد من آلاف المروجين الصغار في البلاد، وهو كذلك مدمن تحولت حياته إلى جحيم بعد أن صار مدمنا على الباركيزول (حبوب مخدرة) ومستهلكا ومروجا لأي مخدر تقع عليه يديه. يومه بمثابة جري محموم وراء الانتشاء، ما دفعه إلى ارتكاب جرائم إما لشراء المخدرات أو تحت تأثيرها.
يؤكد عدي أن كافة انواع المخدرات موجودة في حيّه وأن جسده على نحافته صار أكثر مقاومة للمخدرات ولا يصل إلى الانتشاء إلا بعد استهلاك كميات أكبر وأنواع مختلفة. نجد في كلام عدي إسقاطا منطقيا لما تشهده تونس منذ سنوات من إغراق متزايد بالحبوب المخدرة، حيث تضاعفت الكميات المحجوزة أكثر من ثماني مرات بين 2018 و2023 وفق البيانات التي أمدتنا بها وزارة الداخلية. كما يؤكد الناطق الرسمي باسم الديوانة التونسية، شكري الجبري في حوار لأخبار الآن، أن عمليات حجز المخدرات شهدت ارتفاعًا غير مسبوق، مع زيادة ملحوظة في تهريب الكوكايين، حيث ارتفعت الكميات المحجوزة من بضع جرامات سنويًا إلى أكثر من 140 كيلوغراما سنة 2023.
بالإضافة إلى عُديّ التقت أخبار الآن كلّا من صبري وطارق (أسماء مستعارة). الأول مدمن على الإكوانيل، كان في مراهقته بطل تونس في المصارعة الحرة لستّ مرات متتالية. يكشف لأخبار الآن كيف تحول من بطل واعد إلى شخص منحرف يسرق وينهب لشراء المخدرات وفعل أي شيء لتحقيق الانتشاء.
أما الثاني فهو عامل سابق في أكبر مجمّع ملاهٍ ليلية في تونس، يروي تجربته مع عالم المخدرات وكيف عايشها لدى الطبقات المرفهة فيما يستذكر صبري تفاصيل دخوله السجن حيث قاده إليه أقرب شخص إليه -والدته- وكيف تؤثر التجربة السجنية على حياة المدمنين والمروجين داخل السجن وبعد الخروج منه.
السجن الذي كان سببا في تعرف صبري على أنواع جديدة من المخدرات كانت تهرب إلى محبسه بأشكال متعددة يرويها لنا في الفيلم، مكّن عُديّ من بناء شبكة علاقات مع عصابات ومروجين في أماكن أخرى لم يكن ليتعرف عليهم لولا أن جمعهم السجن.
فيما يتعلق بالسجن نكشف في التحقيق أيضا كيف أن استهلاك وترويج المخدرات يعدّان السبب الأول لدخول التونسيين للسجن. إذ في الوقت الذي تؤكد فيه بيانات مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة أن عدد الموقوفين في السجون التونسية قد بلغ 12881 شخصا سنة 2021 فإنه بناء على طلب نفاذ إلى المعلومة تقدمت به أخبار الآن إلى السلطات التونسية نكتشف أن حوالي 70% من هؤلاء الموقوفين تم اعتقالهم في قضايا تتعلق بالمخدرات بواقع 8779 موقوفا تحديدا.
الملفت في الأمر أيضا هو ارتفاع عدد المتورطين في قضايا استهلاك المخدرات بين 2020 و 2023 إلى حوالي الضعف تقريبا من حوالي 10 ألاف إلى قرابة 19 ألفا فيما قفز عدد الموقوفين في السجون في قضايا تتعلق بالمخدرات قد قفز في ذات الفترة من 8 آلاف إلى أكثر من 16 ألفا.
ما يثير الاستغراب أيضا هو تحول السجن من مكان وظيفته إعادة تأهيل المجرمين إلى مكان لاحتراف الترويج والغرق في الإدمان. تقول المحامية التونسية انتظار السنوسي لأخبار الآن : أنه بات من المعلوم اليوم أن مدمن المخدرات يخرج من السجن مباشرة ليتعاطى المخدرات، موضحة أن السجون في تونس فاقدة لوظيفة التأهيل وعاجزة عن علاج المدمنين.
ولئن كان مسؤولو النفاذ إلى المعلومة بوزارة الداخلية قد أجابوا عن طلباتنا فإن مكتب الإعلام والاتصال بذات الوزارة قد رفض التجاوب معنا لإجراء مقابلة أو الحصول على ردّ بخصوص الجهود المبذولة في مكافحة انتشار المخدرات وما يتردد عن تورط بعض رجال الشرطة في عمليات التهريب رغم المراسلات المتكررة عبر البريد الالكتروني لمدة تجاوزت الشهرين.
كذلك كان الحال مع وزارة العدل المسؤولة عن السجون والإصلاح في تونس التي تجاهلت رسائلنا في علاقة بحقيقة انتشار المخدرات بالسجون والإجراءات المتبعة للتوقي من ظاهرة العود وإعادة تأهيل المدمنين.
اللاعدالة في استهلاك المخدرات
من جهته يروي طارق تجربته الشخصية مع استهلاك المخدرات موضحا كيف كان رؤساؤه في النوادي الليلية التي اشتغل فيها يستهلكون الكوكايين ليتمكنوا من العمل طوال الليل، كاشفا عن التباين بين الفئات الاجتماعية في نوعية المخدرات وطريقة استهلاكها. ولكنه يحيلنا من خلال ما عايشه إلى أن الفئات الأكثر حظًا قد لا تفلت هي الأخرى من الإدمان والصدمات النفسية، رغم اقتصار تجربتهم على السهر والاستمتاع بالموسيقى.
يعلق أستاذ علم الإجتماع محمد الجويلي عن ذلك قائلا: “تحول بأن الشباب المرفه اليوم بات يبحث عن التجربة وعن إشباع رغبته في ركوب المخاطر من خلال تجربة المخدرات التي تمنحه احساسا بأنه يعيش تجربة الشباب في كل أبعاده وبأنه يستمتع بحياته، ولكنها رغبة قد تتحل إلى سباق وتنافس على من يستهلك ويجرب أكثر، مستبدلا في ذلك الكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر أنا موجود” بـأنا أستهلك إذا أنا موجود”
يظهر التحقيق كيف أن استهلاك المخدرات في تونس قد تحول فعلا إلى ممارسة شائعة وطقس من طقوس الشباب للاستمتاع بالحياة. يظهر هذا بوضوح في الفئات الاجتماعية الأكثر حظًا، حيث يرتبط الاستهلاك بالرفاهية والاستمتاع. ولكن هنا بالضبط تكمن الفوارق حتى في مجال المخدرات، إذ تبرز الفجوة بين الطبقات، ففيما يستمتع المرفهون بالتجربة في أجواء احتفالية وفي سرية تامة غالبا يدفع أبناء الأحياء الفقيرة ثمنًا باهظًا يتمثل في الإدمان الذي يقودهم إلى الانحراف والإجرام فقط لتأمين ثمن المخدرات والوصول للانتشاء.
يقول أستاذ علم النفس والمتخصص في علوم الإجرام يسري الدالي عن ذلك: إن الهشاشة النفسية في تونس وفي غير تونس في حدود 20- 25% ، هذه الاضطرابات النفسية المرضية تجعل الشخص عمليا غير قادر على التقييم والاختيار وغير قادر على الصبر على هذه المؤثرات التي باتت آفة اليوم تمس الأطفال من عمر 11 و12 سنة وتجعلهم في وقت قصير غير قادرين على تركها لأنهم تحولوا إلى مدمنين على صغر سنهم.
في المحصلة تظهر المخدرات اليوم في تونس كوحش فاهر فمه ليتغذى على المراهقين والقصر الذين يسهل استدراجهم عن طريقة استراتيجيات الإغراء التي ينتهجها المروجون بين الشباب الميسور وظروف الحياة الصعبة في الأحياء المفقرة ولئن تختلف المواد المخدرة والسياقات بين الفئتين إلا أن الأثر على الفقراء أعمق لأن الإدمان يكاد يرتبط حتميا بعالم الجريمة والإنحراف الذي تكون نهايته السجن في سن مبكرة وليستمر معه وصمهم واقصائهم اجتماعيًا لبقية حياتهم.