إقليم ناغورنو كاراباخ (Nagorno Karabakh)، حلبة الصراع بين أرمينيا (Armenia) وأذربيجان (Azerbaijan). يعود ذلك الصراع في الإقليم الذي تبلغ مساحته 4,400 كيلو متر مربع، إلى 3 عقود إلى الوراء، وهو يعتبر الموطن الأصلي لأرمن وأذريين على حدّ سواء، 90 % من السكان الأصليين أرمن مسيحيون، ونحو 10 % أذريون مسلمون. 

الإقليم كان بين العامين 1994 و2020  تحت سيطرة قوات أرمينية بإدارة ذاتية تُعرف باسم أرتساخ (Artsakh)، أو جمهورية أرتساخ، كما تعتبرها أرمينيا. فتلك الادارة التي حكمت البلاد لم يكن معترفاً بها دولياً، إلا من قبل أرمينيا. بقي الوضعُ على حاله إلى أن اندلع نزاعٌ مسلحٌ جديد في مرتفعات الإقليم في سبتمبر العام 2020 ليُعاد خلطُ الأوراقِ، ويعود الاقتتال الى الاقليم. فماذا في تفاصيل ذلك النزاع التاريخي المتجدد، والذي يعود إلى الواجهةِ من حين إلى آخر، وما هي جذوره؟ 

ناغورنو كراباخ خلال حقبة الاتحاد السوفياتي

في العام 1923، أسَّس الاتحاد السوفياتي، إقليم ناغورنو كاراباخ ضمن حدود جمهورية  أذربيجان الاشتراكية السوفياتية (Azerbaijan Soviet Socialist Republic)  لكن كان للاقليم إدارة أرمينية ذاتية خاصة به. وهي نفسها إدارة أرتساخ. وبالفعل بقي الإقليم ضمن دولة أذربيجان السوفياتية الاشتراكية طوال الحقبة، ولكنَّ التوترات بين الأرمن والأذريين لطالما كان يرتفع منسوبها خصوصا أن ذكريات مذبحة العام 1915 التي راح ضحيتها 1.5 مليون أرميني كانت تغذّي تلك التوترات. ومع تفاقم الضعف المركزي للاتحاد السوفياتي، ازدادت الأزمات والخلافات في ناغورنو كاراباخ، وتحوَّل الأمر إلى مواجهات دامية في العام 1988 حيث غندلع القتال بعد سنوات من الحساسيات والاحتقان، وقد أشعل الاستفتاء الذي أجراه الاقليم للانفصال عن أذربيجان فتيل تلك المواجهات التي استمرت إلى العام 1994 وراح ضحيتها حوالى 30,000 شخص من الجانبين، الأذري والأرميني. 

في ذلك السياق، قالت كريستين كريكوريان (Kristine Grigorian) مسؤولة ملف حقوق الإنسان في أرمينيا لـ أخبار الآن: “الأرمينيون وقتها أعلنوا استقلالهم، وقاموا بالاستفتاء، وقالوا نحن مستقلّون ولدينا حق تقرير مصيرنا، ونريد من خلال الاستفتاء العيش باستقلالية عن جمهورية أذربيجان الجديدة، وليس أذربيجان السوفياتية، ولكن بعد ذلك اندلعت فوراً معارك وعمليات عسكرية وحربية وسقطت آلاف الضحايا من الجانبين”.

بدورها، قالت النائبة في برلمان أذربيجان نيجار أربداري (Nigar Arpadariلأخبار الآن، تعليقاً على ذلك النزاع الأول، “كاراباخ قانونياً هي جزء من أذربيجان كما أن القانون الدولي ينص على ذلك، هي أرض أذربيجان التاريخية وجزء منها وفقاً للقانون الدولي وذلك أمر معترف به من قبل كل البلدان ما عدا أرمينيا”. 

ناغورنو كاراباخ حلبة دامية.. كلّ ما تريد معرفته عن صراع العقود بين أرمينيا وأذربيجان

إنتهاء القتال الدامي (1988 – 1994)

عشرات المحاولات والوساطات لانهاء القتال الدامي الذي أودى بحياة الآلاف فشلت لعدة أسباب. الأمم المتحدة، بقيت صامتة من العام 1988 حتى الانهيار الرسمي للاتحاد السوفياتي لأسباب مرتبطة بعدم رغبتها في استفزاز الإتحاد السوفياتي والتدخل في شؤونه، معتبرة الملف داخلي مرتبط بسيادة الاتحاد. ولكن بعد الانهيار الرسمي للاتحاد السوفياتي، أصدرت الأمم المتحدة في العام 1993، 4 قررات، صدرت عن مجلس الأمن مرتبطة بالصراع في ناغورنو كاراباخ، كلها صدرت في العام 1993.

قرار رقم 822 صدر في أبريل، قرار رقم 853 صدر في يوليو، قرار رقم 874 صدر في أكتوبر، وقرار رقم 884 صدر في نوفمبر. وكل تلك القرارات كانت تنادي بالنقاط نفسها وهي 3 نقاط: الوقف الفوري لاطلاق النار، انسحاب القوات المحتلة من مناطق في أذربيجان (وهنا قصدت القوات الأرمينية التي دخلت اقليم ناغرنو كاراباخ)، واتباع الخطوات الديبلوماسية والسلمية لحل النزاع.

القرارات تلك لم تنه النزاع في العام 1993، بل استمرت ملحمة الدماء وهجمات القتل حتى توقيع بروتوكول بيشكك (Bishkek Protocol) وهو اتفاق وقف اطلاق نار، أتى برعاية روسية، بنى على قرارات مجلس الأمن المذكورة سابقا، ولكنَّه أعطى ادارة الاقليم لأرمينيا بالاضافة إلى مناطق واسعة خارج نطاق الاقليم أيضا أعطيت لأرمينيا، ليُترك بذلك الاقليم مستقلا عن أذربيجان، تحت حكم حكومة أرمينية في ستيباناكيرت (Stepanakert) التي نصبت نفسها بنفسها، في ستيباناكيرت التي اختاروها الأرمن عاصمة أرتساخ (الاسم الأرميني للإقليم). 

 

ناغورنو كاراباخ حلبة دامية.. كلّ ما تريد معرفته عن صراع العقود بين أرمينيا وأذربيجان

خلال توقيع بروتوكول بيشكيك بين ممثلي كل من أرمينيا وأذربيجان، وحكومة الاقليم الانفصالية التابعة لأرمينيا – في عاصمة قرغيزستان بيشكيك – 5 مايون 1994

مواجهات مستمرة وتقاذف تهم ومسؤوليات(1994 – 2020)

من العام 1994 إلى العام 2020، حصلت مواجهات متقطعة في الإقليم تضمنت بعضها استخدام أسلحة ثقيلة ومسيرات هجومية، وكان الخطر دائماً داهماً بأن تندلع  الحرب في أي لحظة، إذ لم تكن أذربيجان راضية باستحواذ أرمينيا على الإقليم، كما لم تكن أرمينيا قادرة على إرساء الاستقرار والأمن والأمان، مع استمرار الاعتراض من قبل سكان الإقليم الأذريين على معاملة حكومة ستيباناكيرت لهم. 

مَطلِعَ أبريل العام 2016، وقعت مواجهات دامية دامت 4 أيام بين ما يعرف بجيش دفاع أرتساخ (التابع لحكومة ستيباناكيرت) والقوات الأرمينية من جهة، وقوات أذربيجان من جهة أخرى. وقد انتهت تلك الجولة باتفاق وقفِ اطلاق نار، أتى مجددا برعاية روسية، في حين كما جرت العادة، تمايزت النتائج التي أُعلنت بعد الهجوم بين الجانبين، إذ أعلنت أذربيجان انها استعادة 20 كيلومتراً مربعاً من أراضيها في الاقليم، في حين أعلنت أرمينيا أنَّها لم تَخسَر إلا 8 كيلومتر مربع من أراض لا قيمةً استراتيجية لها، وَفق أرمينيا.

عن تلك الحقبة تقول غريغوريان لـ أخبار الآن، “النوايا السياسية والجغرافيا السياسية للإقليم لم تهم السكان لأنَّهم عانوا وما زالوا يعانون الكثير، وليس لهم اتصال مع الهيئات الدولية وليس هناك أي وجود دولي على الأرض”. 

من جهتها النائبة الأذربيجانية أرباداري فسَّرت المواجهات المستمرة من منطلق التقلب الذي اعتبرته احدى سمات الادارة الأرمينية، وفسرت ذلك انطلاقا من حادثة جديدة لرئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان (Nikol Pashinyan) حيث كان قد أعلن أنّه سيوقع معاهدة سلام مع أذربيجان، وبعد أقل من 3 أو 4 ساعات، بحسب قولها، ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي ليقول أن ذلك كان مجرد مناورة وأنه لن يوقع على المعاهدة وذلك الأمر لن يحدث. 

ناغورنو كاراباخ حلبة دامية.. كلّ ما تريد معرفته عن صراع العقود بين أرمينيا وأذربيجان

مدينة أغدام التي باتت تعرف بـ “هيروشيما القوقاز” بعد الحرب التي طالتها، وجعلت منها منطقة غير مأهولة إلى اليوم (سكانها أذريون)

حرب سبتمبر 2020.. أرمينيا تخسر

في  27 سبتمبر 2020  أطلقت أذربيجان عملية عسكرية على إقليم ناغورنو كاراباخ اسمتها “القبضة الحديدية” لاستعادة السيطرة على كامل الأراضي التي خسرتها العام 1994. وقد قدمت تركيا التي تربطها روابط عرقية وثقافية وتاريخية وثيقة بأذربيجان، دعمًا قويًا لها.

في غضون 6 أسابيع من القتال باستخدام المدفعية الثقيلة والصواريخ وهجمات طائرات من دون طيار، قُتل أكثرُ من 6,500 شخص، فيما تمكّنت أذربيجان من طرد قوات أرتساخ وأرمينيا من أجزاءٍ واسعةٍ واستراتيجيةٍ من إقليم ناغورنو كاراباخ، حتى أنَّها ضمت مناطق خارج المنطقة الانفصالية. 

ناغورنو كاراباخ حلبة دامية.. كلّ ما تريد معرفته عن صراع العقود بين أرمينيا وأذربيجان

معضلة منطقة لاتشن

حرب العام 2020 كانت دامية، وكانت مواجهات لم تشهد مثلها منطقة القوقاز منذ الحرب العالمية الثانية. أرمينيا لم تكن تتوقع أن تشنّ أذربيجان عملية عسكرية بتك الضخامة والدقة وفي لحظة حساسة من التاريخ. وتقول في السياق مسؤولة ملف حقوق الإنسان في أرمينيا كريستين غريغوريان لـ أخبار الآن، “كان العالم بأسره يكافح جائحة كورونا وكان هناك كارثة وكانت الشعوب والحكومات تشعر بالإحباط في مكافحة هذه الجائحة، ولكن أذربيجان وجدت في ذلك، فرصة مناسبة جدا لشن هجوم على الرغم من الدعوة التي وجهها آنذاك  الأمين العام للأمم المتحدة للامتناع الدول عن الدخول في نزاعات عسكرية خلال تلك الجائحة لأن العالم كان يجهل ماذا يخبئ له المستقبل، لكن أذربيجان نفذت هجوماً حينها وأنا أرى أنها استغلت تلك الظروف”.

حرب العام 2020، التي كانت الأكثر دموية من العام 1994، انتهت باتفاق سلام وقع في 10 نوفمبر من العامِ نفسه بين الأطراف المتنازعة عبر وساطة ورعاية روسية، تلزم بنوده القوات الأرمينية على التراجع. وبالفعل قدمت أرمينيا استنادا إلى نص الاتفاق، تنازلات جمَّة بموجب مبادرة موسكو موضع ثقة أرمينيا تاريخياً، لكنَّها شعرت آنذاك بخذلان، إذ فسّر البعض حينها اتفاق السلام الذي أعطى أذربيجان مناطق شاسعة في الاقليم، على أنّه رسالة من بوتين لأرمينيا حكومة وشعبا، مفادُها: “إياكم وعدم الانصياع لموسكو”، وقد تضمن الاتفاق وضع روسيا 2000 جندي في الإقليم، كقوات لحفظ السلام.

ولا بد من الإشارة إلى منطقة لاتشن (Lachin) التي تضم الطريق الرئيسي المؤدّي من ناغورنو كاراباخ الى أرمينيا، كانت ضمن المناطق التي أعطيت لأذربيجان، لتثور ثائرة أرمينيا. 

ناغورنو كاراباخ حلبة دامية.. كلّ ما تريد معرفته عن صراع العقود بين أرمينيا وأذربيجان

تقسيم اقليم ناغورنو كاراباخ بموجب الاتفاق الروسي الموقع فينوفمبر العام 2020

ممر زنغيزور

بعد تلك الحرب، والاتفاق الروسي الذي نتج عنه، اعتبرت أذربيجان أن الصراع الدامي بينها وبين أرمينيا قد انتهى، وذلك ما أكدته لنا أربداري التي اعتبرت أنَّ “العمود الفقري لجيش الاحتلال الأرميني قد تحطم وتم تطهير معظم الأراضي من قوات الاحتلال”.

ذلك الكلام تعارضه أرمينيا جملة وتفصيلا، وقد شهدت مختلف مدنها احتجاجات واضرابات واضطرابات بعد توقيع رئيس الوزراء الاتفاق الذي اعتبره الشعب يطعن بأرمينيا وحقوقها. وقد اعترفت السلطات الأرمينية أنَّ ذلك الاتفاق ولَّد مشاكل كبيرة لها، منها ضرورة القبول مثلاً بممر زنغيزور (Zangezur Corridor) الذي يمرّ من أرمينيا ليربط أذربيجان بجمهورية ناكشيفان (Nakchivan) الأذرية، غير المتصلة بأذربيجان. 

الاحتجاجات التي اجتاحت أرمينيا بعد توقيع الاتفاق الثلاثي وصفت الأخير بالخيانة العظمى لمصالح البلاد. وقد اعتبرت مسؤولة ملف حقوق الإنسان في أرمينيا ذات الصفة الرسمية كريستين غريغوريان في حديثها لأخبار الآن عملية أذربيجان العسكرية لعام 2020 مقدمة تمهيدية للعملية الروسية أو بالاحرى الغزو الروسية لأوكرانيا العام 2022، وقد نددت بغزو روسيا رغم كون موسكو الحليفة الأولى لأرمينيا.

ناغورنو كاراباخ حلبة دامية.. كلّ ما تريد معرفته عن صراع العقود بين أرمينيا وأذربيجان

صورة توضيحية لزنغيزور التي تعتبر م نالأراضي الأرمينية وبموجب الاتفاق الثلاثي لعام 2020 أصبحت ملكيتها لأذربيجان كي تربط الدولة بجمهورية ناخجيفان الأذرية

فشل كلّ التدخلات الخارجية لحل ذلك النزاع

من جهتها تضغط أذربيجان التي تمتلك قدرات عسكرية أعلى من تلك التي تمتلكها أرمينيا، على الأخيرة للالتزام التام ببنود الاتفاق الثلاثي دون مناقشته وتقول: “لا تريد أرمينيا التخلي عن ادعاءاتها بملكية أراض أذربيجانية والتوقيع على اتفاق سلام معنا، نحن ننادي بذلك منذ عامين على الرغم من التفوق العسكري لأذربيجان، ونحن لطالما نظرنا إلى الاتفاق على أنه فرصة كبيرة للوصول إلى سلام دائم ومستدام لأن غالبية أراضينا قد تم تحريرها من الاحتلال ولأنّه فرصة أخيرة لعودة اللاجئين والنازحين”.

على المقلب الآخر، تردّ أرمينيا بالرفض لتنازلات الممرات وتقول غريغوريان لـ أخبار الآن، “أذربيجان كانت تدافع في السابق عن مبدأ سيادة الأراضي لذلك يأتي مطلبهم اليوم كتناقض مباشر مع مفهوم سيادة الأراضي. إذاً تلك هي المشكلة، من جهة أخرى تقول أرمينيا أنها وافقت على فتح كل قنوات التواصل ونقول أنَّنا على استعداد لتقديم طرقات وخطوط لسكك الحديد ولكن مع شرط أن تكون تحت سيطرتنا، ونحن نمنح أذربيجان الحرية في نقل الأشخاص والسلع ولكن لا يمكنكه أن يطالبوا بملكية أرض تعود ملكيتها لدولة أخرى”. 

ناغورنو كاراباخ حلبة دامية.. كلّ ما تريد معرفته عن صراع العقود بين أرمينيا وأذربيجان

رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان ، رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل ، والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، في صورة رسمية قبل اجتماعهم في بروكسل في 6 أبريل 2022

إلى الآن، فشلت كلّ التدخلات الخارجية لحل ذلك النزاع بين البلدين، الذي أصبح اليوم مرتبط بممرات جديدة ومطالب سيادية ومخاوف متبادلة في ظل غياب الثقة بين الطرفين.  موسكو وواشنطن والاتحاد الاوروبي، جهاتٌ تدخلت في أوقات متقطعة من الزمن لحل النزاع الأقدم والأكثر دمويا في القوقاز، علما أنَّ روسيا تاريخياً تصطف إلى جانب أرمينيا، تركيا تقدم دعماً منقطع النظير إلى أذربيجان، فيما تدعم إيران أرمينيا بكل خياراتِها، وباتت شريكا استراتيجياً لها. المسارُ التاريخي لذلك الاقتتال، لا يوحي بأنّ النزيفَ سينتهي قريباً، فيما يَزيدُ حجم التدخلات الدولية المشهد تعقيداً.

شاهدوا أيضا: الكبتاجون من المصدر إلى المستهلك.. فمن هم أرباب حبَّة الموت؟