مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، يبدو أنّ استقرار بيلاروسيا المجاورة برئاسة ألكسندر لوكاشينكو، والتي تدعم الغزو الروسي، يعاني من اضطراب لافت، ما يرفع منسوب القلق لدى البيلاروسيين الذين باتوا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، يبحثون  عن أيّ وسيلة من أجل مغادرة البلاد.  

استجاب نظام ألكسندر لوكاشينكو للمظاهرات التي أعقبت الانتخابات بالترويع والإرهاب والاعتقالات الجماعية، وذلك ما أدّى إلى اندلاع احتجاجات أكبر. وفي غضون أيّام من الانتخابات، بدأت قبضته على السلطة تضعف، مع خروج العمال ووسائل الأعلام والأطباء والطلاب والمتقاعدين وغيرهم… علانية ضدّ الأجهزة الأمنية. ودخلت البلاد بأسرها في إضراب، لكن لوكاشينكو الذي يتولّى السلطة منذ العام 1944، أمسك بالسلطة مستعيناً بالتدخلات الوحشية التي شنّتها قوات خاصة موالية.

وفي المقابل، تزداد المعارضة البيلاروسية قوّة، وثمّة تغيير ملحوظ لناحية أنّ الحكومة في المنفى تضمّ بالفعل فرعاً مسلّحاً التحق به أكثر من 200 ألف بيلاروسي، على استعداد للانتفاض ضدّ نظام لوكاشينكو ما إنْ تسمح الفرصة.

انقلاب حياة البيلاروسي دانيل كوسينكو

دانيل كوسينكو (Danil Kosenko)، هو مدوّن بيلاروسي يبلغ من العمر 26 عاماً، شارك في سلسلة تظاهرات في بيلاروسيا وكان شاهداً على العنف الذي مورس بحقّ المتظاهرين. كان الشاب يستشيط غضباً جرّاء الأحداث الدائرة في بلده، فقرر أن يقاتل وحشية السلطات وظلمها بالطرق المتاحة أمامه، وهنا بدأ ينشر تعليقات ساخرة وناقدة لتدابير لوكاشنكو الصارمة والقاسية على صفحات مدوّناته الإلكترونية. ولمدّة عام ونصف العام، نجح في أن يبقى في الخفاء، لكن ذلك لم يدم طويلاً، ففي خريف العام 2021، استُدعي إلى اللجنة العامة في بيلاروسيا ليتمّ اعتقاله. 

أخبار الآن” التقت دانيل في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، حيث روى تفاصيل ما حدث معه وكيف تمّ اعتقاله وصولاً إلى الهروب، فقال: “لقد راقبت كلّ شيء بعينيّ منذ البداية وحتى النهاية، ولا أظنّ أنّني على خطأ، ومن المؤكد أنّه لا يتعيّن علينا أن نطيع تلك السلطة”. وأضاف: “بينما كنت في أوكرانيا، وصلتني رسالة مفادها أنّه تمّ رفض الدعوى المقدمة ضدّي لعدم كفاية الأدلّة، فعدت إلى بيلاروسيا، لكن بعد عودتي بأسبوع تمّ اعتقالي ليتمّ إرسالي إلى سجن أوكريستسينا” (Akrestsina Detention Centre).

لوكاشينكو يقبض على نفس الشباب.. البيلاروسي دانيل كوسينكو من الزنزانة المظلمة إلى الحرية

الزنزانة المظلمة

ووصف كوسينكو في حديثه لـ”أخبار الآن” يومياته في سجن أوكريستسينا قائلاً: “لقد جئنا إلى مبنى مهجور، كانت الأرضية من الإسمنت وكانت الظروف قاسية جداًّ وغير إنسانية. كان هناك لوح خشبي يتوسطه ثقب، ليكون ذلك المرحاض… وكان الموقوفون ينامون على الأرض وكانوا كلما أراد أحدهم أن يقضي حاجته، يديرون وجوههم باتجاه الحائط. لا يمكن لك أن تنام خلال النهار بل يمكنك أن تجلس أو تقف فحسب. عندما كانوا يرون أنّ النعاس يغلبك، كانوا يفتحون الزنزانة ويدفعون الموقوفين نحو الحائط ويضربونهم على رجليهم. كما كان هناك في الزنزانة ضوء مزعج للغاية، لم أكن أعرف ما نوعه ولكنه يزعج العينين كثيراً ولم يكونوا يطفئونه بتاتاً”.

وتابع: “كنا نسمع صراخاً من الكاميرات الأخرى، كان الموقوفون يشعرون دائماً بالإنزعاج وكان بعضهم يعانون من رهاب الأماكن الضيقة ومن مشاكل أخرى. لكن لحسن حظّي، بقيت هناك فقط لـ5 أيّام، لكنّني التقيت بموقوفين قضوا 30 أو 40 يوماً في ذلك المكان. يعيش الموقوفون هناك كابوساً ورعباً كبيراً”.

حكم على دانيل بتنفيذ أعمال إصلاحية لمدّة سنتين بسبب إقدامه على توجيه انتقادات للسلطات، لكن أطلق سراحه في المحكمة لأنّ القانون يسمح بمنح بضعة أيّام للراحة بين إصدار العقوبة ودخولها حيّز التنفيذ، فاستغل دانيل تلك الثغرة للفرار إلى ليتوانيا المجاورة حيث طلب اللجوء السياسي.

في ذلك السياق، يقول كوسينكو: “كان ذلك القرار بالغ الصعوبة وحتّى اليوم لم أستوعبه بالكامل لأنّني اضطررت إلى العيش في ليتوانيا لمدّة 6 أشهر، وكان عليّ أن أبدأ من الصفر. كنت أعيش وضعاً غير قانوني بما أنّني كنت أنتظر حماية دولية، فلم يكن بوسعي العمل وكان عليّ فقط أن أكافح للبقاء على قيد الحياة”.

وعبّر كوسينكو عن قلقه الشديد تجاه أحداث أوكرانيا الذي قد تتكرر في بيلاروسيا: “لديّ جذور أوكرانية، فجدّي أوكراني ووالدتي نصف أوكرانية، وقد أمضيت كلّ طفولتي في أوكرانيا، ولطالما كانت أوكرانيا بيتي الثاني وبقيت كذلك”.

وتابع: “ما يحث الآن يحزنني، لديّ أقارب يعيشون هناك يزداد قلقي عليهم. أحاول أن أكون ناشطاً قدر الإمكان، لكن من المريع أنّ الروس لا يدركون أين أصبحوا اليوم لناحية تراجع مستوى حياتهم جرّاء الساسية الروسية والأكيد أنّهم يعيشون ضغطاً وقمعاً كبيرين. لكن ليس كلّ شيء سيئاً هنا، فالبيلاروس يصمدون وهناك حركة حزبية وحزبيون يعملون بعكس الروس لا يدعمون روسيا إطلاقاً”.

لوكاشينكو يقبض على نفس الشباب.. البيلاروسي دانيل كوسينكو من الزنزانة المظلمة إلى الحرية

الحرب مزقت الروابط الأسرية

في مينسك (Minsk) اضطر دانيل لأن يعيش ليس فقط في ضيق مادي، إنّما بات يفتقد إلى الكثير من الأمور التي كانت تشكل جزءاً مهمّاً منه منذ الطفولة، ومنها الروابط الأسرية والعائلية، وذلك أهم ما خسره في حياته كانعكاس للحرب الروسية والدعم البيلاروسي لنظام بوتين على حياة البيلاروسيين بشكل عام.

في السياق، قابلت “أخبار الآن” جدّة دانيل المتواجدة في مدينة مينسك، فقالت إنّ “الحرب فرّقت أبناء العائلة الواحدة، فيما الظلم بحقّ أبنائنا يدفعهم للبحث عن مستقبلهم خارج بيلاروسيا”. وتتابغ بغصّة كبيرة أنّها تشتاق إلى حفيدها، قائلة: “أريد أن أرى حفيدي وأن ألتقي به وأغمره بين ذراعيّ قبل أن أفارق الحياة”. 

لوكاشينكو يقبض على نفس الشباب.. البيلاروسي دانيل كوسينكو من الزنزانة المظلمة إلى الحرية

 

شباب بيلاروسيا يبحثون عن مستقبل

يواصل دانيل دراسته في الإعلام ويعمل حالياً في وسيلة إعلامية ناطقة باللغة البيلاروسية: “أصبحت في الـ 26 من عمري وأدرس التواصل الإعلامي، فذلك ما أحبّه، واليوم أعمل في وسيلة إعلامية ناطقة باللغة البيلاروسية حيث أعدّ فيديوهات متخصصة بتعليم اللغة البيلاروسية والتاريخ وبرامج التسلية. أريد أن أعمل في الدوائر الإعلامية الدولية وأنشر الأخبار السارّة وأعلّم البشر اللطافة والرحمة والتأمل وتفهّم بعضهم البعض”.

في المحصّلة، أنّ دانيل هو واحد من شباب بيلاروسيا الذين يسعون لتحسين ظروف حياته، وتغيير واقعهم من خلال تغيير نظام الحكم في بلادهم، لكنّهم يُجابهون بردّ قاسٍ من قبل النظام الذي يبذل كلّ جهد لردع أيّ صوت مناهض، فمتى تنطلق سكةّ التغيير الفعلي في البلاد وكيف؟    

تجدر الإشارة إلى أنّ حرب روسيا على أوكرانيا قد تقدّم سيناريو مماثلاً لبيلاروسيا، فمنذ العام 2020، عبّر المجتمع البيلاروسي بوضوح عن قيمه، وتعلم فن المقاومة الطويلة الأمد، وأنشأ منافذ إعلامية حرّة في الخارج. اليوم وربّما للمرّة الأولى على الإطلاق، يضع المنشقون البيلاروسيون أيديهم على الزناد وينضمون إلى القتال ضدّ بوتين في أوكرانيا.

شاهدوا أيضاً: “مات والدي بين يديّ”.. يورا الناجي من ما حدث في بوتشا يروي التفاصيل كاملة!