أخبار الآن | العراق –  وثائقيات

سالت الدماءُ في السواقي حين كان داعش هنا،  وكانت تغطي الأحياءَ والأمواتَ على حد سواء.

صورةٌ لا تفارق  ذاكرةَ الحاج مروان. يحدثنا عنها وهو يتجول فوق أنقاض منازل عائلتهِ الموصلية العريقة التي دمرتها الحرب. وهي صورة لا تفارق أيضا، ذاكرةَ من حوصروا في سراديب البيوت العتيقة، وعلقوا بين مطرقةِ داعش وسندان القوات المحرِرة للموصل.

كانت عائلة الحاج مروان وعوائلُ إخوته وأخواتِه، آخرَ من تركوا منطقة الشهوان في المدينة القديمة. تلك أيامٌ تفوح من ذكرياتِها رائحةُ الجوع والفزعِ والعطش والموت. يتذكر تفاصيلَ الأيام االتي عاشها في سراديب المدينِة مع 125 عائلة، ينامون على وقع القنابل والصواريخ ورصاصِ مسلحي داعش ويصحَون على عويلٍ وصراخ.

تخنقُه العبرات حسرةً وألما على أهله وأحبابِه. لن تستطيع الكلماتُ رسم الصورةِ التي تتمثل أمام عيني الحاج مروان وهو يخبرنا عن ذكرى قتل أخيه وأولاد إخوته  أثناء الحصارِ الداعشي. كان يدرك كما غيرُه من أهل المدينة أن احتلال داعش للموصل صيف عام 2014 بدايةٌ لفتنة حربٍ ودوامتِها التي ابتلعت ألافَ الضحايا وخلّفت مثلَهم مصابين ومشردين، وتركت المدينة ممزقة الأوصال. تمسّك وعائلتُه الممتدة وآلافُ الموصليين بمدينتهم.

كانت سراديب المدينةِ القديمة في الموصل مخزناً لمؤونة أهلها وحضناً لسمرهم أوقاتَ الحر الشديد. مع احتلال داعش وحربِه عليهم ومن ثمّ حرب التحرير، صارت ملاذَهم من القصف والرصاص. لم تصمد السراديبُ دائما. وتلك التي لم تُهدم على رؤوس المختبئين فيها، شهدت دربا من الآلام طويلا. كان اللاجئون للسراديب مجبرين على العيش مع موتاهم فيها، أو يضطرون إلى دفنهم في أرض السرداب نفسِه حين لا يجدون طريقةً  للخروج بحثاً عن حديقة مهملة أو سردابٍ آخر في منزل مدمر، يدفنون به عزيزا فقدوه.

صار الموصليون يحسدون الموتى.

مع ازدياد شدة المعارك خلال الأيام الأخيرة من معركة تحرير الموصل، جازف الأهالي المختبئون والمحاصرون في السراديب بالخروج منها بحثاً عن الخلاص. كان أمامهم وقتها خياران لا ثالث لهما. إما الموت َ تحت الأنقاض، أو المجازفةَ والخروجَ من المناطق التي يسيطر عليها داعش إلى المناطق المحررة، مع كامل معرفتهم باستهداف مسلحي داعش لكل المدنيين الهاربين. لم يبقَ لهم سوى الأمل.

للأماكنِ عطرُ الأحباب. ولرائحةِ الأحباب الذي رحلوا عطرَ المشاعر التي نكنُها لهم. رائحةُ فلذةِ كبده، تشد الشيخ أبو محمد أمين كل يوم إلى منزله الذي سويَ  بالأرض. وكل يوم، تأتي به رائحة ابنه محمد إلى الزقاق نفسه حيث كان منزل ولده ومنازل باقي إخوته وأقاربه. يصعد على وهن بين الأنقاض ليشتم عطر المكان، لعله يأتيه ببعض من روح محمد الذي رحل. كان الشيخ أبو محمد وأولاده آخر من خرجوا من منطقة القليعات المحاذية لنهر دجلة. خرج معهم مئات ممن كانوا مثلهم محاصرين في السراديب أو تحت أنقاض المنازل. لكن  قبل عبورهم نحو النجاة، قتل ولده محمد أمين حين كان ينقذ صغاراً جرحى.

غاضبا مما فعله داعش حين استباح المدينة وقتل أهلها واستخدمهم دروعاً بشرية، يروي أبو محمد أمين، ممارسات مسلحي داعش التي خلت من أي التزام ديني يدعونه أو مروءة عربية أو شهامة تفرضها أعراف المجتمع وأحكام الشرف. يصف الحاج شاكر قتلة ومجرمي حرب ضعفاء، استقوا على المدنيين العزل بقوة السلاح والترويع.

حين يكون الهرب ليس إلا حباً بالحياة يحاول الإنسان أن يستطيع إليه سبيلا. وقد حاول آلاف الموصليين هذا السبيل هرباً من الإرهاب الذي مارسه داعش طوال فترة احتلاله للمدينة. وحين سنحت للشابين أحمد وعمر فرصةُ الهروب خارج المدينة بمساعدة مهربين قبيل بدء حرب التحرير، سارعا إلى اغتنامها.

التقتهم قناة الآن صدفة وهما يتجولان قرب أنقاض كنيسة مار إشعيا التي يعود بناؤها الى القرن الخامس الميلادي. رافقناهما وهما يستذكران سنوات الطفولة والشباب التي عاشاها جنبا الى جنب مع  جيرانهم المسيحيين الذين كانوا يقطنون بكثافة في هذا الحي التاريخي.

بالرغم من أوجاعها، فالموصل حكاية مدينة لا تموت.. ودجلة يشهد لها بذلك. وإن زُنّر تاريخ آشور بالنار وفجرت جوامعها وكنائسها التاريخية، وإن أُذبلت وخسرت أجيالاً من أبنائها، إلا أن موسيقاها وأغانيها وقصائدها التي تختصر الروح الموصلية تأبى أن تموت. فالموصل مدينة على قيد الأمل.