إنجاز هندسي في إدارة المياه يُسبب كارثة في كاليفورنيا

  • مستويات تاريخية لهطول الأمطار تسببت في وفيات وأضرار بالغة
  • الأمطار لن تحل أزمة الجفاف في الولاية الأمريكية
  • محاولة الإصلاح مكلفة للغاية لكنها ممكنة

قبل أشهر قليلة من الآن أتت الحرائق التي استعرت في ولاية كاليفورنيا الأمريكية على الأخضر واليابس، نتيجة موجة جفاف غير مسبوقة ضربت البلاد، هي الأسوأ منذ نحو 1200 عام، وتسبب في أضرار بالغة بالحقول الزراعية ناهبك عن جفاف الآبار.

من الطبيعي أن يكون سكان هذه الولاية الواقعة في الغرب الأمريكي والأكبر من حيث التعداد السكاني في الولايات المتحدة بـ39.2 مليون نسمة، أشدُّ فرحًا حينما تهطل الأمطار الآن، لكن ما حدث عكس ذلك تمامًا، فقد حولت المياه المُنهمرة التي انتظروها كثيرًا حياتهم إلى كابوس،

بعد أن تعرضت الولاية لعواصف شتوية قوية، وتسببت بضرر بالغ للسكان، نتيجة هطول أمطار غزيرة ورياح وفيضانات وانهيارات طينية خطيرة لم تشهدها كاليفورنيا منذ عقود.

المأساة بدأت منذ 27 ديسمبر الماضي، عندما تسببت عواصف شتوية قوية بحدوث فيضانات وانهيارات أرضية وانزلاقات تربة في كاليفورنيا، أجبرت عشرات الآلاف من الأشخاص على إخلاء منازلهم، فيما قُدّرت الأضرار بحوالى مليار دولار.

وارتفعت المياه فوق ضفاف الأنهار وأغرقت المجتمعات السكنية على الواقعة على ضفافها، وأطاحت بالأشجار المُجهدة نتيجة الجفاف، فيما تحولت سفوح الجبال المُحترقة إلى انهيارات طينية، وقطعت العواصف الكهرباء عن عشرات الآلاف من المنازل في جميع أنحاء الولاية.

في شمال كاليفورنيا، سجلت سان فرانسيسكو أكثر من 45 سنتمتراً من الأمطار منذ 26 ديسمبر، وفق تقرير مصلحة الأرصاد الجوية الوطنية في الولايات المتحدة، وهذه أكبر نسبة هطول أمطار تسجلها المنطقة خلال 22 يوما منذ يناير 1862.

أما في منطقة الوادي الأوسط الأكثر خصوبة في كاليفورنيا، والتي تنتج 40% من الفاكهة في الولايات المتحدة، فقد سجلت مدينة موديستو، الإثنين، مستوى يوميًا غير مسبوق لهطول الأمطار منذ 1950، وكذلك مدينة ستوكتون منذ 1973، بحسب ما أكدت مصلحة الأرصاد الجوية.

وعلى ساحل المحيط الهادئ، هطلت أمطار غزيرة، السبت، ما أدى إلى فيضان أنهار عدة، فيما غمرت المياه مناطق سكنية ومنازل وأراضي زراعية شهدت جفافاً لفترة طويلة، ودُمّرت خطوط كهرباء كما غمرت المياه حقولا وطرقا.

فيضانات كاليفورنيا القاتلة.. كيف دفع السكان ثمن أخطاء استخدام المياه في الماضي؟

وفي وصفه لما حدث في كاليفورنيا، يشير كريستوفر فلافيل، مراسل شؤون المناخ بصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، إلى أن ما يحدث في كاليفورنيا ملحميًا. لذلك من الصعب إيجاد طريقة للتعبير عن مدى سوء هذا الأمر.

وفي حديث لـ”أخبار الآن”، أضاف أن إجمالي هطول الأمطار قُدر بما يزيد عن 400٪ إلى 600٪ عن المتوسط، ما أدى لتعرض عشرات الملايين من السكان لفيضانات تهدد حياتهم، وانزلاقات طينية وعمليات إخلاء، ناهيك عن تقطع السبل بآلاف السكان بعد أن فروا من منازلهم، وأودت هذه الكارثة بحياة 20 شخصًا على الأقل.

وأوضح أن هناك أمثلة مُفجعة ترصد قسوة ما حدث. هناك قصة عن طفل يبلغ من العمر 5 أعوام جرفته السيول بعيدًا عن ذراعي أمه، وطفل صغير آخر سحقته الأشجار. وهناك تقارير صحفية تتحدث أن عدد القتلى من جراء هذه الفيضانات حتى الآن أعلى من موسمي حرائق الغابات الماضيين مجتمعين.

هل تحل الأمطار أزمة الجفاف؟

يعاني المزارعون في كاليفورنا من جفاف مُدمّر، بعدما تراجع مستوى المياه في بحيرة ميد، وهي الخزان المائي الضخم المقام على نهر كولورادو الذي يروي كاليفورنيا، حيث يشهد منسوب هذه البحيرة انخفاضًا مطردًا منذ سنوات، رغم أن السكان يحصلون على 75%، من مخزونها، لأغراض الزراعة.

ولكي نعرف أهمية الزراعة في كاليفورنيا، يكفي أن نعرف أن أكثر من ثلث محصول الخضروات في الولايات المتحدة تتم زراعته في ولاية كاليفورنيا، وكذلك نحو ثلثي محاصيل الفواكه، لكن آلاف الأفدنة ظلت غير مزروعة لأن أصحابها لا يمكنهم الحصول على المياه الكافية لزراعتها بسبب موجات الجفاف الكبيرة التي ضربت الولاية مُؤخرًا.

فيضانات كاليفورنيا القاتلة.. كيف دفع السكان ثمن أخطاء استخدام المياه في الماضي؟

وللوهلة الأولى يمكن للبعض أن يبتهج بكمية الأمطار الكبيرة التي سقطت على الولاية لتعوض سنوات من الجفاف غير المسبوق، لكن الواقع يثبت عكس ذلك، فقد اعتبرت الأرصاد الجوية الأمريكية أن هذه الأمطار “لن تكون كافية لملء بحيرة ميد”.

وجهان لعملة واحدة

تمثل حالات الجفاف القاحل والعواصف الشتوية المتصاعدة في كاليفورنيا، وجهين لعملة واحدة وهي التغيرات المناخية؛ فكلاهما مرتبط بحقيقة أن كل زيادة درجة مئوية واحدة في درجة الحرارة تسمح للهواء بحمل 7% أكثر من الرطوبة، وهذا يجعل الجو “عطشانًا” خلال مواسم الجفاف؛ ما يتسبب في امتصاص الماء من الغطاء النباتي والتربة، وهذا يعني أيضًا في الوقت نفسه، أن هناك المزيد من المياه المتاحة لتشكل العواصف. لذلك عندما تُمطر، فإن المياه تنهمر بشدة.

وأدى تغير المناخ إلى ارتفاع درجات الحرارة في ولاية كاليفورنيا بنحو 1.4 درجة مئوية (2.5 درجة فهرنهايت) منذ عام 1895، وفقًا لتقرير صادر عن وكالة حماية البيئة في كاليفورنيا عام 2022. يقول العلماء إن هذا الارتفاع في درجات الحرارة يؤدي إلى تفاقم مناخ كاليفورنيا الذي يتميز بصيف جاف وشتاء رطب.

ورغم أن كاليفورنيا اعتادت على الظروف الجوية القاسية، كما أنّ العواصف شائعة فيها خلال فصل الشتاء، لكن مثل هذه الموجة من الفيضانات والأمطار الغزيرة تعتبر خارجة عن المألوف، فما السر؟ ولماذا أحدثت كل هذا الدمار بالولاية؟

أخطاء الماضي و”الغطرسة الهندسية”

تمتلك كاليفورنيا وأحد من أكثر أنظمة التحكم في الفيضانات الحضرية تطورًا في العالم، وهو مصمم لصدّ المياه من عواصف المحيط الهادئ الهائلة مثل تلك التي ضربت الولاية مؤخرًا.

وعلى الرغم من أن هطول المطر يجب أن يكون جانبًا مضيئًا لمنطقة عالقة في جفاف تاريخي، إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا بكثير.

وعن سر ذلك، يشير كريستوفر فلافيل، إلى أن الطريقة التي اختارت بها كاليفورنيا التعامل مع مياهها في الماضي جعلت الفيضانات اليوم أسوأ بكثير، مما كانت ستصبح عليه لولا القيام بذلك.

ففي أواخر خمسينيات القرن الماضي، قام سلاح المهندسين بالجيش الأمريكي “بتوجيه” نهر سان لورينزو لجعله يجري بشكل أعمق وأسرع، وقام ببناء حواجز في اتجاه المنبع لإدارة التدفقات، في سبيل التحضر لموجات الجفاف التي تضرب الولاية. لكن هذا النظام، عرّض الولاية لدرس قاس خلال أزمتها الأخيرة.

فيضانات كاليفورنيا القاتلة.. كيف دفع السكان ثمن أخطاء استخدام المياه في الماضي؟

سقوط سيارتين في حفرة بالوعة في كاليفورنيا (رويترز)

وللتغلب على الجفاف، غيّرت الولاية شكل أنهارها كثيرًا، ببناء السدود على ضفافها، وتقويم المنعطفات والمنحنيات، وأدى هذا إلى القضاء على السهول الفيضية الطبيعية للأنهار؛ ما زاد من صعوبة تجديد المياه الجوفية.

وما زاد الطين بلة أنه تم بناء مجتمعات سكانية على تلك السهول الفيضية، لذلك عندما تغمر الأنهار على ضفافها، تذهب المياه إلى منازل الناس وتغرقها بدلاً من أن تذهب في موائل الأراضي الرطبة وتغرق ببطء في التربة.

من جانبه، قال عالم الهيدرولوجيا جيفري ماونت، زميل معهد السياسة العامة بكاليفورنيا وأستاذ فخري بجامعة كاليفورنيا إن مقاطعة سانتا كروز، التي غمرتها المياه خلال العواصف الأخيرة، هي مثال رئيسي على هذه “الغطرسة الهندسية” ” التي تسببت في قتل عشرات الأشخاص، وأجبرات الآلاف على ترك منازلهم.

وأضاف ماونت لصحفية “واشنطن بوست” أن “الأشياء التي فعلناها في الماضي لإدارة المياه لن تكون كافية في الوقت الحاضر، ناهيك عن المستقبل”.

إنجاز هندسي غَيّرَ وجه كاليفورنيا

في “بودكاست” أعدته صحيفة “نيويورك تايمز” عن أخطاء الماضي وعلاقتها بفيضانات كاليفورنيا الحالية، حكى “فلافيل” قصة الإنجاز الهندسي الذي غَيّرَ وجه كاليفورنيا، مؤكدا أن القصة بدأت في النصف الثاني من القرن الماضي، حيث بدأت كاليفورنيا تدرك أنها حصلت في الوادي

الأوسط على مصدر رائع للثروة الزراعية، فالتربة خصبة، والشمس ساطعة، لكن هناك مشكلة واحدة كبيرة وهي المياه، التي لا تتوافر في أكثر المواسم حرارة في الصيف.

لذا كانت نقطة التحول الأولى في أوائل القرن العشرين، حيث حصل المزارعون على تكنولوجيا أفضل لسحب مياه الآبار، واستخدامها لري مجموعة من المحاصيل عالية القيمة، والنتيجة كانت مبهرة من حيث حصيلة الزراعة والثروة في الوادي الأوسط.

ولمواجهة مشكلة المياه الجوفية التي كانت تُستهلك بشكل أسرع، شرعت الولاية في إجراء تغييرات جذرية للاستفادة من مياه الأمطار، وأطلقت مشروع سنترال فالي العملاق، حيث تم بناء سلسلة من السدود الضخمة التي من شأنها أن تلتقط الجريان السطحي للماء من سييرا نيفادا، وتحجزها خلف السدود، ويتم استخدامها في الري.

في الوقت نفسه، قامت الحكومة الفيدرالية ببناء سد هوفر؛ ما سمح لها بتسخير مياه نهر كولورادو، والذي كان مصدرًا آخر للري ومياه الشرب لكاليفورنيا والولايات المحيطة بها، وهذان المشروعان العملاقان هما إنجاز هندسي لا يصدق، ونجح في تغيير المناظر الطبيعية وإمكانيات كاليفورنيا، وفق “فلافيل”.

وتحول الوادي الأوسط إلى أهم رقعة من الأراضي الزراعية في الولايات المتحدة وربما في العالم، حيث ينتج حوالي ربع الطعام الذي تستهلكه الولايات المتحدة، وهو حقًا ركيزة أساسية لاقتصاد ولاية كاليفورنيا، وهي خامس أكبر اقتصاد في العالم.

لكن كيف تحول هذا الإنجاز إلى جعل وضع الفيضانات الآن في كاليفورنيا أسوأ؟

أشار “فلافيل” إلى أن هذا النظام تسبب في أنه عندما تهطل الأمطار الشديدة، لا توجد مساحة كافية لتلك المياه، لأن القنوات التي تم إنشاؤها لتلك المياه من خلال بناء السدود أصبحت ضيقة جدًا بالنسبة لحجم المياه التي تحصل عليها، وهذا يؤدي لحدوث المزيد من الفيضانات.

كما أن الوادي الأوسط كان يتحول قديما إلى ما يشبه البحر الداخلي لأنه كان عرضة للفيضان خلال أجزاء من العام، لكن الآن لم يعد ذلك مُتاحًا، لأن لدينا ما يقرب من 200 عام من الزراعة والتطورات واسعة النطاق، ولا يمكنك ترك المياه تذهب إلى كل مكان في هذه المرحلة من الوادي دون التسبب في دمار هائل للحقول والبساتين والبلدات والمدن.

كاليفورنيا

ونوه بأن هناك مشكلة أساسية أخرى في أسلوب كاليفورنيا في التعامل مع المياه، حيث تسوء العواصف الممطرة، وهو أن النظام الذي تستخدمه الدولة الآن لا يحاول الاستفادة من كل هذه المياه الزائدة لإعادة شحن طبقات المياه الجوفية المهمة للغاية في الولاية، لأن النظام الحالي مصمم فقط لالتقاط مياه الفيضانات الزائدة، وهو أمر رائع، لكنها لا تلتقط الكثير من المياه، ويجري المياه الزائد بسرعة شديدة إلى المنازل المجاورة للأنهار، وهناك جزء أكبر يشق طريقه إلى المحيط.

وألقت الأمطار الغزيرة ما يصل إلى 9 بوصات من الأمطار على جبال سان جابرييل، وتم حجز حوالي 8.4 مليار جالون فقط خلف 14 سدًا كبيرًا؛ ما أدى إلى تخفيف الفيضانات وإنشاء مخازن قيمة من المياه لأشهر الصيف الأكثر جفافاً.

لكن في ولاية تتغلب على جفاف متعدد السنوات، تندفع تيارات أكبر بكثير من المياه -تقدر بعشرات المليارات من الجالونات- في الأيام الأخيرة مباشرة إلى المحيط الهادئ، وهو لغز مدمر لولاية يعتمد مستقبلها على الاحتفاظ بكل قطرة مياه.

هل هناك حل؟

تحدث “فلافيل” عن حل ربما يلوح في الأفق، لكنه سيكون مكلفًا جدًا، حيث يمكن إفساح مساحة أكبر للنهر عن طريق سحب السدود وتخصيص المزيد من الأراضي على جانبي هذه الأنهار، بحيث عندما يكون هناك أمطار غزيرة، يكون هناك مساحة أكبر للمياه وفرصة أكبر لأن تغرق بالمياه وتعيد شحن طبقات المياه الجوفية ليستفيد منها السكان في أوقات الجفاف.

لكن المشكلة هي أن القيام بذلك أمر صعب حقًا، وفق “فلافيل لأنه من الناحية الاقتصادية، فإن سحب جزء كبير من الأرضي الزراعية والسكنية يتطلب تعويضات كبيرة للسكان، أما من الناحية السياسية، فإنه لا يوجد شيء مؤلم أكثر من محاولة المسؤولين الحكوميين أو المحليين إجبار الناس على ترك أراضيهم.

فيضانات كاليفورنيا القاتلة.. كيف دفع السكان ثمن أخطاء استخدام المياه في الماضي؟

منظر جوي لنهر الكرمل في وادي الكرمل حيث تضررت عدة منازل بسبب الفيضانات (رويترز)

هناك أيضًا حاجز ثقافي، فقد تم بناء كاليفورنيا على فلسفة أنه يمكننا ترويض الطبيعة، وجعلها تعمل لتحقيق أهدافنا، وأساس فكرة توفير مساحة أكبر للأنهار هو أنه في مرحلة ما، لا يمكنك الاستمرار في ترويض الطبيعة. عليك الانصياع للطبيعة وقبول فكرة أن الخطط البشرية لها حدود، لأننا لا نستطيع دائمًا ترويض الطبيعة.

ونوه إلى أن القيام بذلك، وإفساح مساحة أكبر للأنهار، سيتضمن بالتأكيد إخراج بعض الأراضي الزراعية من الإنتاج، وهذا سيجعل النظام بأكمله أكثر استدامة لأن الأراضي الزراعية المتبقية سيكون لديها المزيد من المياه الجوفية للاستفادة منها في المستقبل، وإذا تمكنت كاليفورنيا من فعل ذلك، فستكون هذه الحالة نادرة في التكيف مع المناخ.

وأخيرًا، فإن الدرس القاسي الذي تعرضت له كاليفورنيا، نتيجة طريقتها الخاطئة في إدارة المياه في الماضي، كلفها كثيرًا، ويحتاج الإصلاح إلى تكلفة أكثر، لذلك لا مجال الآن أمام الجميع سوى محاولة التكيف مع تداعيات المناخ، وعدم العبث بالطبيعة، للنجاة من الطوفان المتصاعد بقوة وهو الحرارة الشديدة والأمطار الغزيرة.