كيف يؤثر الإعلام على المتابعين؟

يحتل الطباخون حول العالم أوسع مساحة في شبكات التواصل الاجتماعي، وتتابعهم أعداد كبيرة من مستخدمي منصات الإعلام الاجتماعية، ما يساهم في سرعة الوصول المذهلة إلى عقول المتابعين عبر أجواء الطبخ والوجبات اللذيذة التي يقدمونها، وتتخللها بطبيعة الحال وجبات من الإعلانات تقدمها كل منصة اجتماعية توفر خدمات الفيديو. لقد أصبح المحتوى المتكرر والمُقَلّد الذي يقدمه الطهاة أو “الطباخون الجدد” مجالاً لتنافس كبير بين من يمتهن فنون الطبخ وبين هواة الطبخ.

بموازاة ذلك، ظهر مقّلدو صانعي المحتوى الطبخي، لهم منصات اجتماعية خاصة بهم على اليوتيوب، الفيسبوك وانستغرام… الخ، يروجون عبر الطبخ أو التهامه فقط، لشركات ومطاعم ووكلاء للمنتجات الغذائية. وقد دفعت سهولة الاستثمار في الغذاء والطبخ عدد ملحوظ من مستخدمي المنصات الاجتماعية اللجوء إلى الابتذال والبهرجة من أجل الدعاية والمال. ويمكن الإشارة في هذا السياق الى تجربة شاب عراقي لا يجيد الطبخ وفنونه، انما يجد طرق غريبة في التهام الأكل عبر حساباته على الفيسبوك واليوتيوب، ويتابعه مئات الآلاف من المتابعين في العراق والعالم العربي.

طهاة الإعلام الاجتماعي.. يلتهمون طبخاتهم ويُشبعون المُتابع قهراً

الفقراء يلتهمون قهراً

يبتكر هذا الصنف من مستخدمي الشبكة الافتراضية طرق ووسائل يمكن وصفها بالشرهة في التهام اللحوم والوجبات اذ لا يلتزمون بأية قواعد مهنية وأخلاقية تجاه المتابعين. ففي بلد مثل العراق حيث يتعرض فيه التنوع الأحيائي الى الفقدان والتدهور، بخاصة من ناحية الحيوانات البّرية وتناقص أعدادها جراء الجفاف الصيد الجائر، لا تتردد نجوم في الاعلام الاجتماعي بعرض غزلان، يتم اصطيادها في البرّية، للذبح وتقديم لحومها للزبائن. ليس الكلام هنا عن الرفق بالحيوانات بقدر ما يرتبط بأنواع منها تتعرض للانقراض، ناهيك بظروف قاسية تعيشها تلك الحيوانات من جهة المكان والغذاء وحرمانها من أنماط حياتها البرّية.

وبما ان الفضاء الافتراضي لا تحده قيود جغرافية وثقافية ووطنية، باتت منصات الطبخ على شبكات الاعلام الاجتماعي المرئي، تستقطب المتابعين من كل الجهات، حتى من الأقاليم والمناطق والمدن الأشد فقراً.

وفي هذا الأمر مفارقة غريبة لم يتوقف عندها الإعلام العربي أو الهيئات المختصة بالبحوث والاستطلاع حول الغذاء، وهي حدوث نوع من الانشطار في واقع المجتمعات العربية: قَدَم في الفقر والعوز بين غالبية فئات اجتماعية واسعة في بلدان مثل سوريا، اليمن، لبنان، تونس والعراق، وأخرى في تخوم صور شهية توفرها شبكة الأنترنيت عبر الهواتف الشخصية الجوالة.

اختصاراً، تبدو صورة الطبخ في المنصات المهيمنة على عقول مستهلكي المحتوى الغذائي، كشكل من أشكال مجتمع استعراضي قد يصعب العثور عليه في الواقع. ففي المجتمع السوري على سبيل المثال حيث تواجه أزمات خانقة في الغذاء والطاقة والمياه جراء حرب مزقت أوصال الاقتصاد ومصادر العيش، صار انتظار طوابير من الناس أمام المخابز مشهداً يومياً وصار شراء اللحوم وتناولها بالأشكال المعتادة ضرباً من الخيال. مقابل ذلك، يقدم طهاة السوريون من المهجر استعراضا غير مألوف من البذخ تبدو فيها اللحوم والعناصر الغذائية الأخرى سيدة المائدة.

وبما أن الطهاة الجدد، على الأغلب، يعيشون في المغتربات ولديهم الموارد اللازمة لإنتاج المحتوى الغذائي، لا تقتصر الصورة على الطهي والمائدة فحسب، بل تشمل التنقل في الأسواق والقدرة على الشراء ومستلزمات الطبخ بدءً من المطبخ وصولاً الى مصادر الطاقة والتسهيلات الأخرى.

وبعد الانتهاء من كل وجبة دسمة، يلتهم الطاهي طبخته عبر شاشته الصغيرة متلذذاً بما طبخه وقدمه لمستهلك الإعلام الاجتماعي، إنما في الواقع يشبعه قهراً، ذلك ان ضفة هذا المتابع خالية من الطعام والموارد التي يتباهى بها “الشيف”.

 

كرم افتراضي بلا حدود

القصة وما فيها، هي صور شهية لأطباق متنوعة تشير في الغالب الى كَرَم بلا حدود في طرفي العالم الافتراضي؛ الطرف الأول فاعل ومؤثر، يطبخ ويقضي على “اللقمة الشهية”، بينما يقف الطرف الآخر (المتابع) بين الصورة المشبعة بالمتعة الافتراضية والواقع الفقير غذائياً. كتف خاروف كامل أو نصف خاروف أحياناً، كميات متنوعة من الخضار والبهار والمنكهات، تسخين الفرن قبل الإعدادات بفترة لا تقل عن نصف ساعة، ومن ثم وضع اللحوم في الفرن لساعات كي تستوي وتكون “مهترئة”. انها الصورة المؤثرة في نفوس المنفعلين مع المشهد.

وأثناء أعداد الطعام وتقديمه، يعتد أغلب الطهاة عبر نوافذ منصاتهم الإعلامية على اللقطة القريبة CU أو اللقطة القريبة جداً Extreme CU، وذلك من أجل إظهار اللمسة المهنية والفنية لكل طاه. “انه من أجل صحتك لا من أجل شيء آخر”، هذا ما يكرره الطهاة الافتراضيين عبر امتلاكهم لسطوة الصورة.

لا يستهدف هذا المقال الطهاة العرب على الأنترنيت، فهناك من ينتج المحتوى دون الإغراق في الاستعراض من أجل الاستعراض، انما هو محاولة لمعالجة ظاهرة لا يمكن حصرها في حدود الحرية الشخصية او حرية التعبير، بخاصة ان الطهي اجتاز حدود جدران المبطخ التقليدي وأصبح جزءً من المجتمع الاستعراضي. بناءً على ذلك يمكن نقده والحديث عنه كجزء من الشأن العام. ولو أجرينا استطلاعاً للرأي العام نستنتج بأن الأحاديث حول المطابخ المنتشرة عبر المنصات الاجتماعية تفوق السجالات حول السياسة والأمن والاقتصاد.

يتعلق الأمر من جانب آخر بتفاوت كبير بين قدرة الوصول الى المحتوى الغذائي على الأنترنيت وبين عجز الحصول على المنتج، ما يتجاوز مسألة الإعجاب والمتابعة، بخاصة ان الصفحات الخاصة بالطهي تجني الأموال وراء الإعلانات التجارية. وبما ان ثلاثية (المتابعة، المشاركة، التفاعل) هي من تقف وراء جني الأرباح، يجوز لنا كصحفيين تناول الموضوع وجعله موضع النقد مثل باقي بيئات المعلومات الأخرى.

أسوق هذا الرأي في سياق سجال عام حول قلة الموارد الغذائية جراء الجفاف الناجم عن تغير المناخ، الحروب والتزايد السكاني.. الخ من العوامل في العالم العربي، سيما ان ظاهرة “الفرجة الغذائية” في حال الانتقال من الويب 2.0 (المركزي) الى الويب 3.0 حيث من المتوقع ان يعزز إدارة لامركزية للمستخدمين، سوف يزيد التفاوت بين ملتهمي طبخاتهم وبين مستهلكي المحتوى الخيالي.

ان الهيمنة الكلية هنا هي للصورة ولا شيء يضاهيها سوى الفصل المطلق بين الواقع والمتخيل. انها صورة انفصلت عن كل جوانب الحياة المشتركة التي نعيشها، وتحاول اصهار ما نفتقد اليه في وحدة مزيفة. ويشكل الغذاء ذلك المجال الخصب الذي يحاول فيه صانعو المحتوى الاستعراضي دمج الفاعل والمنفعل في عالم مقلوب، وترك الواقع وراءنا في عالم مُزيف.