تطغي أحداث عالمية على التحضيرات الجارية لانعقاد قمة شرم الشيخ حول المناخ والتي تستضيفها مصر في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، من شأنها ارجاء الطموحات بخصوص خفض الانبعاثات الحرارية لأجل غير مسمى. وهو أمر لا يسرّع إيقاع التدهور المناخي فحسب، بل يُفوت فرصة تاريخية أخرى لإنجاز بعض التقدم بخصوص حماية الأرض ومستقبل البشرية.

وتشير صورة العالم الحالية، بما فيها الغزو الروسي لأوكرانيا، صعود اليمين والشعبوية السياسية في أوروبا والتلويح الصيني بنشوب أزمة أخرى في جزيرة تايوان، الى ان المسألة المناخية، وعلى رغم الأخطار التي تشكلها علينا جميعاً، لا زالت رهينة الأطماع والحسابات السياسية الضيقة كما في حالة روسيا.

بعد وباء كورونا الذي أطال عمر الانبعاثات الحرارية لعقود، يأتي الغزو الروسي لأوكرانيا في مقدمة التداعيات الخطيرة على المناخ العالمي والبشرية، ذلك لأن الحرب الحالية لم تؤثر على مناخ العالم وسلاسل التوريد والغذاء فحسب، بل تعرقل الالتزام باتفاقية باريس/2015 واحراز أي تقدم من شأنه الاحتفاظ بدرجة حرارة الأرض أقل من 2.0 بحلول نهاية القرن 21. ويعود سبب ذلك الى ان روسيا والتي تعد رابع أكبر دولة مولّدة للانبعاثات الكربونية على المستوى العالم، لا تولي الاهتمام بالأزمة المناخية، ولديها حسابات “وطنية” ضيقة فيما خص الاحترار العالمي، ناهيك بأن ما يشغلها في الوقت الحالي هو ان تربح الحرب فقط وضم أراضي أوكرانية وبأية وسيلة. 

ولكن نظراً لمساهمة روسيا الكبيرة في انبعاثات الغازات الدفيئة، فإن غيابها يؤثر سلباً على أية اتفاقية دولية بشأن خفض الانبعاثات الحرارية والوصول الى الأهداف المناخية المرجوة عالمياً. تاريخياً، كانت الولايات المتحدة الأمريكية وبقيادة الجمهوريين هي التي عرقلت مسارات التقدم بخصوص سياسة مناخية عالمية، مرة في عهد جورج بوش الابن عام 2001 حيث انسحبت ثاني أكبر مصدر لانبعاثات الكربون من اتفاقية كيوتو/1997، ومرة أخرى في عهد دونالد ترمب عام 2020 حيث أخرج بلاده من اتفاقية باريس/2015. ولكن بعد عودة الديمقراطيين بقيادة جوي بايدن الى الحكم، وعلى رغم سجل غير متسق في سياستها المناخية، أصبحت الولايات المتحدة أكثر ثباتاً في رسم سياسات المناخ العالمية مقارنة مع كل من الصين وروسيا. 

تبدو سياسة روسيا المناخية ثابتة وواضحة في الظاهر، انما هي سياسة مواربة في العمق، باطنية ان جاز الاستخدام، ولا تقيس الآثار الناتجة عن أزمة المناخ بمقاييس بقية العالم. يتفق معظم المحللين والخبراء على ان روسيا تكان ان تكون الدولة الوحيدة في العالم تنظر للانبعاثات الحرارية من زاوية إيجابية، على رغم انها كارثة للأرض بالكامل. وهذه النظرة مبنية على امتلاك مساحات شاسعة من الأراضي تتجاوز مساحتها 17 مليون كيلومتر مربع، أي ضعف مساحة الولايات المتحدة. ما يقارب 60٪ من هذه الأراضي مغطاة بالتربة الصقيعية وغير مستغلة، ويجعلها ارتفاع درجات الحرارة قابلة للزراعة، أي ان روسيا ترى إمكانية رؤية المنتجات الزراعية المتوسطية مثل كروم العنب، أو فول الصويا والقمح والذرة في سيبيريا جراء أزمة المناخ. 

علاوة على ذلك، يوفر ذوبان الجليد في القطب الشمالي الروسي إمكانية انشار طريق تجاري يربط روسيا بالصين والولايات المتحدة وكندا والدول الاسكندنافية. وقد خصصت روسيا أموال وموارد تقدر بأكثر من 230 مليار دولار لتطوير القطب الشمالي بحلول عام 2035 وذلك من أجل توسيع اسطولها في كاسحات الجليد والموانئ وإخراج النفط والغاز ضمن استراتيجية الطاقة المستقبلية. ويولي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اهتماماً كبيراً بالتوسع العسكري في أراضي القطب الشمالي االغنية بالنفط والغاز كما يُعتقد، وذلك جراء ارتفاع درجات الحرارة الناتج عن أزمة المناخ.

ليس هذا فحسب، بل تشير مقالة صحفية بعنوان (مشكلة وفرصة المناخ في روسيا) نشرتها منصة The Cipher brief عام 2012 الى تزايد قدرة روسيا على المناورة في القطب الشمالي جراء ذوبان الجليد ما يسمح بتزايد كاسحات الجليد. ويشير كاتبا المقال المذكور الى ان روسيا تختبر الأسلحة الموجودة في القطب الشمالي بما في ذلك صواريخ كروز التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والطائرات بدون طيار التي تعمل بالطاقة النووية. وتُعرّض هذه التطورات الولايات المتحدة لقدرات الصواريخ الروسية المتزايدة – التقليدية والنووية – في القطب الشمالي بحسب المقالة المذكورة. 

يذكر ان ارتفاع درجات الحرارة في أجزاء كبيرة من روسيا منذ سبعينات القرن المنصرم، يقدر بنحو 0.47 درجة مئوية كل عشر سنوات، ما يفوق ضعف المتوسط العالمي الذي يبلغ 0.18 درجة مئوية كل 10 سنوات. رغم ذلك تشير الخطة الوطنية للتكيف مع أزمة المناخ والتي ترأس لجنة كتابتها رئيس الحكومة السابق ديميتري ميدفيديف، الى ان أزمة المناخ المستمر على الأراضي الروسية أوجد فرص عمل جديدة لاقتصاد البلد.

تالياً، مع تسارع أزمة المناخ وذوبان الغطاء الجليدي تصبح مناطق القطب الشمالي والشمال الأقصى في روسيا صالحة للزراعة في غضون 20 إلى 30 عامًا، مما يفتح مساحات شاسعة من الأراضي أمام الزراعة بحسب وزير الموارد الطبيعية والبيئة، ألكسندر كوزلوف. كما يساعدها تسخين الأراضي المتجمدة على الوصول الى المزيد من مصادر الطاقة الاحفورية. المختصر المفيد، الروس لا يرون ضرراً في ارتفاع درجات الحرارة ويكمن العودة الى رأي الرئيسي الروسي فلاديمير بوتين نفسه بهذا الخصوص حيث قال ذات مرة وبنوع من الغلاظة، “قد لا يكون ارتفاع درجات الحرارة بدرجات قليلة سيئاً للغاية، يمكننا أن ننفق أقل على معاطف الفرو، ناهيك بارتفاع محصول الحبوب”. 

الحرائق الميتة الحية

قد يكون الإنتاج الزراعي الروسي هو الرابح عالمياً جراء أزمة المناخ، ما يساعد روسيا على البقاء في هرم الدول المنتجة للقمح ومنتجات غذائية مستجدة على أراضيها، انما يرتبط ذلك بمدى قدرة موسكو على الاستثمار في الأراضي الزراعية الناشئة من جانب، وبتحديات مناخية كبيرة يحدثها الاحترار. تواجه روسيا تهديدات متزايدة جراء المناخ المأزمة بدءاً من سوء الأحوال الجوية التي تتراوح بين زيادة حالات الجفاف وحرائق الغابات في بعض المناطق وصولاً إلى هطول الأمطار الغزيرة والفيضانات في مناطق أخرى. وبدت آثار الأزمةات واضحة في الأعوام السابقة مثل موجات الحرّ الطويلة في سيبيريا واندلاع حرائق غابات غطت أكثر من تسعة ملايين هكتار (مساحة دولة مثل البرتغال)، ما تسبب بإطلاق حوالي 50 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بحسب بيانات عالمية موثوقة. 

ومن المرجح ان تكون حالات الجفاف والحرارة الشديدة أكثر شدة وتغطي مناطق أكبر بسبب تسارع الاحترار في روسيا مقارنة مع المناطق الأخرى في العالم، الأمر الذي يزيد من موجات الحر والجفاف كما حدث في السابق وأحدث انخفاض كبير في إنتاج الحبوب، ما نتج عنه ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية. يضاف الى كل ذلك حدوث تحولات في أنماط الغطاء النباتي وظهور الآفات وأمراض المحاصيل، ذلك ان ذوبان التربة الصقيعية مدفوع بظهور أنواع ناشئة من البكتريا والميكروبات.

وتُعد سيبيريا والقطب الشمالي من المناطق الأكثر عرضة للأزمة المناخية وسجلت بعض مناطق سيبيريا في السنوات الأخيرة، عام 2020 تحديداً، معدّلات حرارة قياسية (38 درجة مئوية) وحرائق لا سابق لها، ما يسبب بتوليد المزيد من غاز الكربون. وتتسم المناطق القطبية الشمالية في روسيا وأمريكا بنوع من الحرائق قلما وجد لها مثيلاً، وهي الحرائق الجوفية وأطلق عليها العلماء تسمية (الحرائق الميتة الحية). تنطلق شرارة هذا النوع من الحرائق من الكتل النباتية المتحللة في باطن الأرض ويصفها العلماء بالقنبلة الموقوتة. هذا ما حدث عام 2020 في الأراضي السيبيرية. وغالبا ما يكون إخماد هذه الحرائق الاحفورية أصعب من إطفاء حرائق الغابات السطحية.  

قصارى القول، ان ارتفاع درجات الحرارة بعكس ما يفهمه فلاديمير بوتين وفريقه، تسبب في حدوث متاعب كبيرة بالنسبة لروسيا إذا مضت قدماً في سياستها المناخية المواربة ولم تنظم الى الأسرة الدولية لمواجهة آثار أزمة المناخ واتخاذ إجراءات من شأنها خفض الانبعاثات الحرارية. تالياً، إن حلم “القيصر” بالمزيد من الاعتماد النفط والغاز في ظل أزمة المناخ، يزيد من الحرائق الميتة الحية، القادمة من جوف الأرض. وإذا بذل العالم الصناعي جهود منسقة لتغيير أنماط الطاقة، فسوف يشكل ذلك عائقاً كبيراً أمام طموحات روسيا الضيقة من ناحية الاستثمار في أزمة المناخ، فهي قد تكون أكثر دفئاً بكثير مما هي عليه الآن، انما أشد عزلة.