العراق.. أزمة جفاف تؤثر على المواطنين

  • تمارس إيران سياسة “حبس” المياه وقطعت كل الأنهار العابرة للحدود
  • العراق في ظل إدارة الموارد المائية الحالية متجه إلى ما هو أسوأ

قام عدد كبير من السكان المحليين قرب هور الحويزة بمحافظة الميسان جنوبي العراق ببيع قطعانهم وممتلكاتهم وهاجروا نحو المدن جراء جفاف عنيف أدى إلى تجفيف الهور الذي يعد مصدر رزقهم واقتصادهم المحلي.

“لا حول ولا قوة للسكان أمام أزمة الجفاف الحالية وتلوث الأنهر المغذية للهور، لقد فقد الكثير منهم مواشيهم جراء المياه الملوثة. تعتمد عائلتي على تربية الجاموس وصيد الأسماك ولا نملك موارد أخرى، لقد انتهى مصدر دخلنا بانتهاء الهور”، هذا ما نقله لي مصطفى هشام وهو أحد من السكان المحليين بالقرب من هور الحويزة جنوبي البلاد.

وسجلت وزارة البيئة 700 حالة تسمم بسبب تلوث مياه الأهوار هذا العام، علاوة على التجاوزات على حصص مياه القرى المجاورة للهور بحجة سد صعود اللسان الملحي في شط العرب. علما أن أزمة الجفاف بدأت العام الماضي (2021) ولم تحرك الحكومة العراقية ساكنًا ولم تقدم أي مساعدات للسكان المحليين بحسب مصطفى.

كري الأنهار

يذكر أن الأهالي خرجوا قبل أشهر وقاموا بالاحتجاج في مركز محافظة الميسان، العمارة، وذلك من أجل كري الأنهار وتنظيفها من الترسبات والتلوث وتوفير الحد الأدنى من المياه لإدامة حياتهم، إنما لم تهمل الدوائر التابعة لوزارة الموارد المائية مطالب السكان فحسب، بل اتهمت قيامهم بفتح النواظم بالتخريب، ولم تلتفت إلى التدهور البيئي الحاصل بحسب متحدثي.

ويقع هور الحويزة على الجانب الأيسر من نهر دجلة، تبلغ مساحته نحو (2400 كم2). تزداد نسبة المياه فيه خلال ‏فصل الفيضان وتصل إلى (3500 كم2) بينما تنحسر وتتقلص في فصل ‏الصيف والخريف إلى نحو (650 كم2). ويتغذى الهور من مصدرين أساسيين وهما: المصدر الغربي من مياه نهر دجلة، ‏والمصدر الشرقي النابع من المرتفعات الإيرانية ‏والتصاريف الواردة إثناء الفيضانات والأمطار. تمارس إيران سياسة “حبس” المياه وقطعت كل الأنهار العابرة للحدود.

يضاف إلى ذلك الجفاف الذي يضرب المنطقة وكذلك انخفاض غير مسبوق في مناسيب نهر دجلة جراء إنشاء سد اليسو التركي.

المستنقعات العراقية في مستنقع السياسة

انخفاض غير مسبوق في مناسيب نهر دجلة جراء إنشاء سد اليسو التركي

تمارس إيران سياسة “حبس” المياه وقطعت كل الأنهار العابرة للحدود

لقد تم تجفيف الهور وأصبح صحراء قاحلة، وبدأ السكان يرحلون إلى “الولاية” حسب تعبير أحد السكان المحليين. ولكن ماذا يفعل هؤلاء المهاجرون الأهواريون في المدينة، هل ينتظرهم شيء آخر باستثناء العمالة اليومية، أن وجدت بطبيعة الحال؟ أن هذه الأزمة البيئية وإن بقيت دون معالجة مستدامة، قد تؤدي إلى صراعات اجتماعية وقبلية تعيد للأذهان صراعات واشتباكات عنيفة حصلت بين القبائل الجنوبية صيف 2018، جراء التزاحم على مياه الري.

وتلك الأحداث العنيفة التي أدت إلى سقوط ضحايا في محافظة ذي قار، تزامنت مع أزمة تلوث مياه الإسالة في مدينة البصرة حيث أُدخل على أثرها أكثر من 100 الف فرد أُصيبوا بالإسهال الشديد معظمهم من الأطفال.

الاستحواذ على المياه

بحسب مدير منظمة طبيعة العراق، الناشط والباحث البيئي العراقي جاسم الأسدي، يعود جزء من أسباب جفاف الأهوار العراقية إلى تغاضي وزارة الموارد المائية عن الأهوار وسوء إدارتها للمياه. ويشير الأسدي في حديث أجريته معه عبر الهاتف إلى أن محافظات في الفرات الأوسط تستحوذ على كميات من المياه من أجل الري تفوق الحصص الممنوحة لها، مما يؤدي إلى حرمان المحافظات الجنوبية مثل البصرة، الميسان وذي قار.

ويعود سبب ذلك إلى غياب نظم وقوانين وطنية من شأنها تنظيم توزيع المياه على المحافظات بشكل عادل. وكان السبب الرئيسي للاقتتال بين القبائل الجنوبية عام 2018 هو التجاوزات على المياه. وهناك بطبيعة الحال أسباب أخرى تقف وراء أزمة العراق المائية وهي سياسات كل من تركيا وإيران من جانب وتناقص الهطول المطري لفصيلين متتاليين جراء تغير المناخ الذي تأثر به العراق أكثر من غيره من البلدان في المنطقة.

وكانت وفرة المياه في العراق منذ تاريخه القديم إلى عام 2015، أكثر من الطلب عليها، انما تغيرت هذه المعادلة ابتداءً من 2014 حيث أصبح الطلب أكثر من المياه المتوفرة، مما أدى إلى إرباك سياسات العراق المائية. ففي السباق، بناءً على مدير (طبيعة العراق)، كانت الفيضانات وسبل أدارتها هي مشكلة العراق بينما أصبح الجفاف مشكلته الرئيسية اليوم. “نحن لا نملك ثقافة ووسائل إدارة الجفاف” يقول الباحث.

الاستنزاف

العراق في ظل إدارة الموارد المائية الحالية متجه إلى ما هو أسوأ وسيشهد في شهري تموز وآب المزيد من استنزاف المياه، تحديدًا في الأهوار الجنوبية. وكان منسوب المياه في نهر الفرات بقضاء الجبايش شمال البصرة، حيث يقع جميع مغذيات الأهوار الوسطى وهور الحَمّار، هو (1.94 سم) عن مستوى سطح البحر عام 2019 وتناقص بشكل مخيف هذا العام ووصل إلى (0.81) اليوم، أي انه تناقص متر و19 سم خلال عامين. يذكر أن 90٪ من مياه حوض الفرات الذي يغذّي الأهوار الوسطى وهور الحمار الغربي، يتدفق من الأراضي التركية. ونلاحظ من خلال هذه المقارنة التي يقدمها جاسم الأسدي مدى تأثير السدود التركية ضمن مشروع (GAP) على العراق وأهواره.

أما من الجانب الإيراني فقد اغلق هور الحويزة تمامًا، وذلك جراء إنشاء ثلاثة سدود على نهر الكرخة وسدة ترابية على مساحة ٦٤ كلم وكذلك على نهر الكارون.

يضاف إلى كل ذلك آثار تغير المناخ حيث أدت إلى تناقص المخزون المياه في السدود العراقية. وهناك أمر ثالث وهو أساسي ورئيسي: سوء إدارة الموارد المائية في العراق وكذلك سوء إدارة الأهوار وغياب التخطيط لمواجهة الجفاف. ويقول الأسدي في سياق الحديث عن المسؤوليات التي تقع على عاتق العراق، “لقد أدارت وزارة الموارد المائية ظهرها لملف الأهوار ولم تف بالتزاماتها، بينما يعد توفير الحد الأدنى من المياه لإدامة النظام الأيكولوجي واحدة من التوصيات الرئيسية لمنظمة اليونسكو حين أدرجت الأهوار ضمن المواقع التراثية في العالم”.

خزان طبيعي لامتصاص الكربون

يذكر أن سكان الأهوار قاموا بعد عام 2003، بكسر سدود ترابية قامعة انشأها نظام صدام حسين في الأهوار بغية السيطرة على الحركات المعارضة المسلحة. وعادوا بعد ذلك إلى أنماط حياتهم الاقتصادية والثقافية المتمثلة بتشييد بيوت القصب وممارسة الصيد وتربية الجواميس وصناعة الحلوى من القصب البردي. وتعد الأهوار العراقية التي تم إدراجها ضمن لوائح منظمة اليونسكو للتراث العالمي بما تملكه من خصائص طبيعية وثقافية، من أراضي الخث الحيوية في العراق، أي انها خزانًا طبيعيًا لامتصاص ثاني أوكسيد الكربون.

وتساهم الأهوار في اقتصاديات المجتمعات المحلية وإدامة أنماط حياتهم على مساحات واسعة في محافظات البصرة، العمارة وذي قار. فهي لا تتميز بتنوع بيولوجي فريد من نوعه فحسب، بل توفر بيئة مناسبة لتربية الجواميس، ومصدر لأنواع من الأسماك ونبات البردي الذي يصنع منه البيت السومري القديم منذ آلاف السنين، إضافة إلى دقيق نبات البردي حيث يصنع منه حلوى (الخرّيط) حسب

التسمية الجنوبية الدارجة في العراق.

ويعرّف الاتحاد العالمي لحفظ الطبيعة أراضي الخث أو المستنقعات بأنها نوع من الأراضي الرطبة التي تعد بالغة الأهمية لمنع وتخفيف آثار تغير المناخ، والحفاظ على التنوع البيولوجي، وتقليل أخطار الفيضانات، وضمان مياه الشرب الآمنة. كما انها قادرة تخزين الكاربون الأرضي أكثر من جميع أنواع النباتات الأخرى في العالم مجتمعة. وفي حال تعرض هذه الأراضي للضرر جراء النشاط البشري والجفاف، تتحول إلى مصدر رئيسي لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وهي مسؤولة عما يقرب من 5٪ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون البشرية المنشأ عالميًا. بناءً على ذلك تستوجب على البلدان حماية الأراضي الرطبة أو استعادتها ضمن التزاماتها بالاتفاقيات الدولية، بما في ذلك اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ لعام 2015. ويعد العراق من ضمن البلدان التي وقعت على بنود اتفاقية باريس للمناخ، ولكن يبدو أن المستنقعات الطبيعية وقعت في مستنقعات السياسة!

لقد تعرضت مستنقعات العراق في تاريخها القريب إلى مختلف أنواع المظالم

المسؤوليات والحلول

لقد تعرضت مستنقعات العراق في تاريخها القريب إلى مختلف أنواع المظالم، أولها كانت عمليات التجفيف من قبل النظام العراقي السابق ابان تسعينات القرن المنصرم. بعد ذلك التاريخ تعرضت هذه المسطحات المائية إلى موجات جفاف عنيفة، مما أدى إلى هجرة سكانها والتوجه إلى المدن، وكانت الموجة الأقسى من بينها عام 2016. وتتحمل كل من تركيا وإيران مسؤولية جزء كبير من تداعيات التدهور البيئي في الأهوار، وذلك بسبب تحكمهما بمياه المنابع وحرمان العراق الواقع في مصبات العطش.

أن الواقع المائي الحالي يقتضي وضع حلول جدية للحيلولة دون تفاقم تداعيات الجفاف ومخاطره على أمن واستقرار البلد. وذلك عبر الضغط على وزارات البيئة، الزراعة، التخطيط، المالية والموارد المائية من أجل انقاذ ما تبقى من الأهوار، ناهيك باللجوء إلى المحاكم الدولية من قبل الحكومة العراقية بغية استرداد حقوق العراق المائية.