بوتين وحسابات الحرب في أوكرانيا

يتفق المعلقون الغربيون على أن الحرب في أوكرانيا إذا ما استمرت طويلا فإن العالم بعدها سيتغير بالفعل. في الحروب الكبرى كانت أوكرانيا محور الأحداث. فهل تكون هذه المرة شرارة الحرب العالمية الثالثة ويتغير العالم بعدها تغيرا جذريا؟ لقد تحدى بوتين العالم ونفذ التهديد بغزو أوكرانيا لكن هل جاءت حساباته وفق ما تمنى.
لا أحد يدري إلى أين ستقود الحرب في أوكرانيا هذا العالم فالوضع لا يزال مرشحا للتصعيد. ومراقبة مجريات الأعمال العسكرية في أوكرانيا تبين كم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أساء التقدير وأساء الحساب وأساء توقع النتائج.
ولا يزال الغرب ينظر إلى العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على أنها مغامرة غير محسوبة جيدا وستكون مثل مغامرات أخرى سبقتها في التاريخ الحديث وتجر إلى تداعيات غير مرغوبة وستكون نتائجها وخيمة على من ابتدأها. فهل بعد خمسة أسابيع من القتال أخطأ بوتين في حساباته لتصبح حرب أوكرانيا المدخل لسقوطه ودمار روسيا؟
المغامرة المحسوبة ليس بالضرورة أن تكون حساباتها صحيحة وتؤدي إلى نتائج صحيحة. ويبدو أن بوتين أخطأ الحساب عندما لم يقدر مستوى التحدي العسكري الأوكراني والمقاومة التي أبداها جيش أوكرانيا برغم الدمار الهائل الذي لحق بالبلاد. كانت حسابات بوتين تقول له أن الأوكرانيين سيرحبون بالقوات الروسية وان الجيش الأوكراني سيضع سلاحه ليصافح القوات الروسية لكن هذه لم تكن الحقيقية. أساء بوتين تقدير الموقف الحقيقي الذي ستبديه القوات الأوكرانية التي قاومت بشدة ودافعت عن بلادها وصمدت.
ستقود حسابات بوتين الخاطئة إلى مزيد من العنف والدمار في أوكرانيا ولم يقدر أن قواته ستلقى مقاومة صلبة لم يتوقعها أو لم يقدرها جنرالاته تقديرا صحيحا. وبحسب الإعلام الغربي توقع بوتين أن الحملة ستنتهي باستسلام أوكرانيا خلال أيام قبل أن يستطيع الغرب التدخل. كما ترى وسائل الإعلام الغربية أن بوتين توقع أيضا أن الغرب سيوافق على دخوله أوكرانيا ويقبل احتلالها.
ربما توقع الرئيس الروسي فرض عقوبات اقتصادية على بلاده لكنه لم يتوقع هذا التكاتف والتعاضد الهائل الذي شهده الغرب في مواجهة غزو أوكرانيا. لم يكن بوتين يتوقع أن الغرب سيكون موحدا بهذا الشكل ضده. وبالرغم من قوة النيران الروسية في أوكرانيا فإن في حسابات بوتين أن الجيش الأوكراني لن يستطيع الحاق الهزيمة بالجيش الروسي وهذا صحيح إلى حد كبير لكن ما لم يحسبه بوتين هو أن الجيش الأوكراني يستطيع أن يمنع الجيش الروسي من الهيمنة على أوكرانيا وحكمها.
لا بد أنه قيل للرئيس الروسي، وكان هذا صحيحا، أن حلف الناتو لن يقاتل دفاعا عن أوكرانيا. لكنهم لم يقولوا له أن الحلف سيقدم أكبر مساعدة عسكرية ممكنة للجيش الأوكراني ولأن الغرب سيفرض اقسى العقوبات على روسيا. هل كانت تلك الأخطاء تقصيرا من الاستخبارات الروسية وعدم قدرتها على التقدير الصحيح أم أن القادة الروس قالوا للرئيس ما يحب سماعه؟ هل كان يمكن لقادة الجيش الروسي أن يقولوا للرئيس بوتين أن الغرب سيقف متكاتفا مع أوكرانيا وإنه سيهب لتزويدها بسلاح لم يتوقع أحد كم سيكون حجمه وقوته؟
إنه الخطأ الكلاسيكي الذي يقع فيه كل حاكم متفرد يحيط نفسه بالمطيعين من المسؤولين الذين لا يقولون له الحقيقة وبالتالي يفصلونه عن الواقع.

ويبدو أن الرجل هو من هذا النوع من الزعماء الذي يطرب للمديح والإطراء ولا يقول له مستشاروه غير ما يرضاه ويرضي غروره.

فآراء المستشارين من هذا النوع وتقديراتهم لا تعني أن القرار صحيح وأن نتائجه ستاتي كما يتمنى الزعيم.
الخطر الحقيقي الذي لم يقدره بوتين أو مستشاروه هو المعارضة الداخلية للحرب ضد شعب لا يراه الشعب الروسي عدوا له في الأساس.

فالمثقفون الروس أخذوا يضيقون ذرعا بما تتطور إليه الحرب في أوكرانيا.

وبدأوا يجهرون بأصواتهم المناهضة للحرب على الرغم من حملات الاعتقال التي طالت الألوف في روسيا.
أما بالنسبة للعقوبات الاقتصادية المدمرة التي فرضت على روسيا فربما لم يتوقع بوتين مدى خطورتها وقوة تأثيرها الكارثي على اقتصاد روسيا وعلى الشعب الروسي نفسه وهذا خطأ آخر في حسابات بوتين. الاقتصاد الروسي حتى الآن لم يسقط لكن الخبراء الغربيين يرون أن المفعول الكارثي للعقوبات سيبدأ مع تواصل الحرب وتحولها إلى حرب استنزاف وعند ذلك قد تلجأ روسيا إلى خيارات صعبة جدا.
مع ذلك فلا أحد يعتقد أن العقوبات مهما كانت قاسية ومدمرة قد تدفع بوتين لوقف الحرب وسحب قواته من أوكرانيا.
ربما الأمر على عكس ذلك. فكثرة الضغط وشدة العقوبات قد تزيد من حدة الضغط العسكري الروسي وتوسع رقعة الحرب. وهذا سيكون خطأ آخر في الحسابات يزيد من غرقه في مستنقع أوكرانيا التي قد تصبح أفغانستان ثانية بالنسبة لروسيا.
من المبكر القول كيف ستنتهي هذه الحرب أو كيف ستتطور في الأسابيع القادمة لكن الخيارات تبدو شديدة الصعوبة أمام جميع الأطراف خصوصا بعد أن قام حلف الناتو بإرسال أربعين ألف جندي إضافي إلى قواعده في أوروبا الشرقية وقام بتفعيل وحداته الخاصة بالسلاح النووي والبيولوجي والكيماوي لتكون مستعدة في حال كانت هناك حاجة لاستعمالها ردا على التصعيد الروسي المحتمل.
على الرغم من كل هذه الحسابات الخاطئة يجد الرئيس بوتين نفسه وسط موقف لا يستطيع معه التراجع وقد يواصل مغامرته اعتمادا على القوة الروسية الهائلة. فاحتفاظ الجيش الروسي بأوكرانيا سيكون عملا شاقا على القوات الروسية والانسحاب من هناك قبل تحقيق الأهداف السياسية التي أرادتها موسكو سيكون معناه شيئا واحدا: الهزيمة المدوية.
وبحسب قول الرئيس الأميركي عنه يريد بوتين استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي لكن طموحه هذا مناقض تماما للحال الذي وصل إليه العالم. انه يعيش في الماضي وفي عالم لم يعد موجودا بعد سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة. وفي رأي بعض المحللين لا يزال بوتين يعيش في ثوبه القديم كرجل مخابرات في نظام شمولي أي انه لا يزال يعيش في الماضي ولم يتعلم من دروس التاريخ وقد يدرك بعد فوات الأوان كم كان ضحية حساباته غير الدقيقة.