نظام عالمي جديد يتشكل في غزو روسيا لأوكرانيا

 

صدقت توقعات الرئيس الأمريكي جو بايدن وتحقق الغزو الروسي لأوكرانيا فانتفض الغرب وهدد بالعقوبات وتعزيز قدرات أوكرانيا العسكرية وبدأت سلسلة اجتماعات مهمة في الغرب لتحديد شكل الرد على روسيا التي حملوها مسؤولية تداعيات ما سيحدث بعد الغزو.

صنفت الصحافة الأمريكية عملية روسيا في أوكرانيا بأنها بداية الحرب الباردة الثانية. لكن هذه الصحافة أخذت تثير الشكوك حول قدرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القيادية وبدأت تنشر معلومات تفيد بأنه قد يفقد التأييد الشعبي الذي حظي به حتى الآن إذ بدأ الروس يكتشفون الوجه الآخر للرئيس واخذوا يشككون في قدراته البراغماتية.

الخبراء الغربيون يرون أن بوتين يحيط نفسه بمستشارين يقولون له ما يحب أن يسمع ولا يقدمون له المشورة الصادقة. لذلك عاد بوتين إلى مفردات إعلام الحرب الباردة ليصف حكومة أوكرانيا بانها ليست حكومة حقيقية بل عصابة من اللصوص وتمارس سلوكا نازيا تجاه المواطنين من أصل روسي وتجاه الروس في المناطق المتمردة شرقي أوكرانيا. ولذلك فإنه يبرر العملية العسكرية التي بدأ بها الجيش الروسي ضد أوكرانيا فجر الخميس الماضي بانها تهدف إلى نزع سلاح أوكرانيا حتى لا تواصل اعتداءاتها.

مهد بوتين لعملية الغزو بسلسة لقاءات مع مجلس الأمن القومي الروسي وخطابات مباشرة إلى الشعب تحدث فيها مطولا عما أسماه باستغلال الغرب لأوكرانيا لتكون رأس حربة ضد مصالح روسيا وتحضيرها لتكون مسرح الحرب القادمة ضدها. كما تحدث مطولا عن أن أوكرانيا كانت صنيعة النظام الشيوعي السوفياتي وكان ذلك أحد أخطاء ذلك النظام.

يمتلئ بوتين بالغضب على انهيار الاتحاد السوفياتي ليس لأنه مؤيد للشيوعية ولكن لأنه يرى أن ذلك الانهيار هو الذي أفقد روسيا مكانتها ونفوذها وفقدانها مجالها الحيوي الذي كان متمثلا في الجمهوريات التي استقلت عن روسيا. ومن وجهة نظر بوتين كان انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيوبوليتيكية في القرن العشرين.

عاش بوتين اللحظات العصيبة التي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي وشاهد كيف قام الغرب باقتسام التركة الشيوعية وملء الفراغ الأمني الذي خلفه تفكك حلف وارسو فتمدد حلف الناتو نحو شرق أوروبا وبدأ يتمركز على أعتاب الحدود الروسية رغما عن إرادة روسيا التي لم تكن قادرة على منع ذلك وقد شعرت أنها تعرضت للخديعة وان الغرب حنث بوعوده وصار لزاما على روسيا اليوم أن تنقذ نفسها من تلك الخديعة..

يقدم بوتين نفسه كرائد للقومية الروسية فامتلأت خطاباته الأخيرة بالروح القومية التي قصد منها تحريك مشاعر الروس لكسب تأييدهم له في هذه الحرب.

كان لسان حال الولايات المتحدة والغرب عموما أنه لن يحارب نيابة عن أوكرانيا وعندما تأكد بوتين من ذلك قام بالعمل العسكري المباشر.

فهو يؤمن أن مكانة روسيا في العالم تقررها قوتها العسكرية بالدرجة الأولى. ومن هنا هدد كل من يتدخل عسكريا لصالح أوكرانيا بأنه سيواجه ردا غير مسبوق فهمته الصحافة الغربية على أنه تحذير نووي جدي. وبالفعل وضع الرئيس الروسي قواته النووية في حالة تأهب فعادت واشنطن للتركيز على الجهود الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية.

الهدف المعلن من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هو نزع سلاحها ومنعها من الالتحاق بركب الناتو الذي ظل يتجاهل المخاوف الأمنية الروسية. لم يفصّل الروس أهدافهم في أوكرانيا لكن يبدو وكأن العملية بالدرجة الأولى عقاب لأوكرانيا أكثر منها حماية للمناطق التي يسيطر عليها المتمردون كما أعلن عند بدء العملية. فليس الهدف منطقة المتمردين لأن القوات الروسية وصلت إلى العاصمة كييف. من هنا يبدأ نزع سلاح أوكرانيا وجعلها عاجزة عن الدفاع عن نفسها أو القيام بأي عمل عسكري. وقد يكون الهدف الأكبر غير المعلن للعملية الروسية أن تكون ضربة استباقية لإثبات قوة روسيا وإرهاب باقي دول البلطيق التي انضمت إلى الناتو وكذلك دول أوروبا الشرقية التي خرجت عن طاعة روسيا عند انهيار الاتحاد السوفياتي.

ما يريده بوتين فعليا وإن لم يعلن عنه هو استعادة المجد الروسي الذي ضاع والوقوف في وجه الهيمنة الأميركية المعادية لروسيا. لا شك أن هذا طموحه الخفي ولا شك انه يسعى لبسط نفوذ روسيا في كل أوروبا الشرقية التي يعتبرها المجال الحيوي لروسيا مثلما كان الحال أيام الحكم السوفياتي وكانت روسيا القطب المضاد للقطب الأميركي.

لا أحد يدري غير الرئيس بوتين نفسه ما الذي سيتم فيما بعد. إذا مرت عملية أوكرانيا بتحقيق روسيا لأهدافها المعلنة والخفية فإن بوتين لن يتوقف عن السعي لتحقيق باقي أهدافه في البلطيق وأوروبا الشرقية. تبدو عملية أوكرانيا الخطوة الأولى لتجسيد طموحه في بناء نظام عالمي جديد. لكن ما يفعله بوتين في أوكرانيا قد لا يستطيع فعله في البلطيق أو غيرها وهي أعضاء في حلف الناتو وقد تعهدت الولايات المتحدة بانها ستدافع بكل قوة عن كل شبر من أراضي الدول الأعضاء في الحلف. ففي هذه الحالة تكون مغامرته مدمرة لأنه سيصطدم بحلف قد لا يقدر على الصمود أمامه. لكنه قد يستطيع المساومة ويتمكن من منع أرمينيا وجورجيا من الانضمام إلى حلف الناتو وكذلك تحجيم باقي دول أوروبا الشرقية.

لا شك أن الفوضى ستعم أوكرانيا بدخول القوات الروسية إلى العاصمة وإسقاط حكومتها وهو ما قد يدفع الرئيس الأوكراني لمغادرة بلاده بناء على نصيحة ما ويشكل حكومة في المنفى. إذا ما خرج الرئيس من كييف فلن يقدر على العودة إليها لأن روسيا في هذه الحالة ستنصب حكومة موالية لها تنفذ ما تريده موسكو وتقف في مواجهة واشنطن. وهذه قد تكون البداية لتغيير بنية النظام في أوكرانيا وتحويلها إلى دولة محايدة على غرار النمسا وقد يتبع ذلك تحييد جورجيا وارمينا بضغط روسي.

لا يسعى بوتين فقط إلى استعادة وضع روسيا كقوة مناهضة للولايات المتحدة وتتعامل بندية بل قد تتفوق عليها وتعمل على تحديد قواعد لعبة الأمم الجديدة وتحجم الهيمنة الأميركية في أوروبا. يرسم بوتين في مغامرة أوكرانيا ملامح النظام العالمي الجديد الذي تريد موسكو تشكيله بعد ثلاثين سنة واكثر من انهيار الاتحاد السوفيات وهزيمة الشيوعية.

من المؤكد انه بهذه الحرب في أوكرانيا وهذه النتائج المتوقعة يؤسس بوتين لمرحلة جديدة من العلاقات بين الشرق والغرب ويبدأ ببناء أجواء حرب باردة جديدة وقطبية ثنائية للنظام العالمي. ولكي ينجح بوتين في ذلك عليه أن يسعى لاستمالة الصين إلى جانبه. وقد بدأ بذلك فعلا لكن إلى أي مدى يمكن للصين أن تتماشى مع أهداف بوتين السياسية بعيدة المدى فهذا أمر غير معروف على وجه الدقة حتى الآن.

تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع “أخبار الآن” تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع “أخبار الآن”.