موجات الهجرة هل تستحق الثمن؟

تثير موجة الهجرة الجديدة لألوف العراقيين العالقين بين حدود بيلاروسيا وبولندا حالة من التأمل لأوضاع شعوب العالم الثالث التي تكافح بحثا عن حياة كريمة ومستوى معيشة أفضل فتغامر بالهجرة نحو المجهول بحثا عنها.

 ويعرف المهاجر أن هناك إمكانية موته وهو يحاول الهجرة سواء عبر الحدود البرية أو في قوارب الموت عبر البحار ومع ذلك يدفع ثمن مغامرته من حياته في بعض الأحيان ومن تحويشة عمره في أحيان أخرى..

في منتصف عام 2018 انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الأردن قصة الشاب قتيبة الذي سأل رئيس الوزراء الجديد عبر تويتر إن كانت أوضاع البلد ستتحسن أم أن عليه مواصلة إجراءات الهجرة.

كان جواب الرئيس أن الأوضاع ستتحسن طالبا منه ألا يهاجر ولا يفكر بالهجرة، أما ردود فعل الشارع الأردني فكانت: بل هاجر يا قتيبة.

ربما كانت قصة قتيبة مجرد مؤشر على أوضاع بائسة يعاني منها الشباب العربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ولا يجد لها حلا إلا بالهجرة.

يتفق هؤلاء مع شركات عبر الإنترنت وقد تكون شركات وهمية محتالة لكن الحاجة تدفع بهؤلاء إلى تصديقها ودفع ما يقرب من خمسة آلاف دولار على الأقل مقابل أحلام لا تتحقق.

اللاجئون العراقيون العالقون على الحدود الأوروبية في مواجهة مصير غامض مثل حي على هذا.

قطعوا المسافات وضحوا بما يملكون للوصول إلى أوروبا، فباتوا مشردين قد يجبرون على العودة إلى بلادهم وإذا بهم يخسرون الهجرة بعد خسروا أرصدتهم وأملاكهم إن كان لهم أملاك في بلادهم.

قبل بضعة شهور شهدت منطقة العبور بين الحدود المغربية وجيب سبتة الذي تسيطر عليه إسبانيا أكبر محاولة على الإطلاق لعبور مهاجرين مغاربة قاصدين أوروبا.

ثمانية آلاف من الشبان المغاربة غامروا بحياتهم للتخلص من واقعهم فاصطدموا بالشرطة الإسبانية التي منعتهم ثم أعادتهم إلى المغرب.

محاولات هجرة الشباب من بلدانهم تفاقمت منذ بداية القرن الحالي. وقد بلغت الذروة في العام ألفين وأربعة عشر وكانت إيطاليا الدولة الأكثر استقبالا للمهاجرين من إفريقيا إذ استقبلت أكثر من مئة وسبعين ألفا.

ومنذ بداية العام الحالي بلغ عدد الذين هاجروا إلى أوروبا حوالي مئة واثنين وعشرين ألفا بينما قتل أكثر من ألف وخمسمئة مهاجر أثناء عبورهم البحر المتوسط نحو أوروبا.

ما الذي يدفع الشباب لركوب المخاطرة والمغامرة بحياتهم للوصول إلى أوروبا؟ لقد فقد الألوف حياتهم عبر الطرق غير المشروعة لعصابات التهريب ومع ذلك يواصل الكثير من شبان أفريقيا والشرق الأوسط المحاولة علهم يصلون إلى ما يعتبرونها الجنة الموعودة.

تبدو أوروبا والغرب بصورة عامة الملاذ الآمن والملجأ الأمين للشباب العربي الراغب بالهجرة وإنشاء حياة جديدة ذات فرص عمل وعيش أفضل.

في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الشباب هم الأكثر عددا وهذا واقع يخلق تحديات كبرى للحكومات والأنظمة والمجتمعات. فهؤلاء حسبما يقول الخبراء بحاجة إلى خمسة وخمسين مليون فرصة عمل جديدة.

من المؤكد أن البلدان المصدرة للهجرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تفتقر إلى فرص العمل المجزية بالنسبة للكفاءات الأكاديمية والعمالة الماهرة، البطالة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي الأعلى في العالم، كما أن استشراء الفساد في كثير من الدول وسوء الإدارة وفشل التنمية كلها عوامل تدفع إلى الهجرة ويبدو الأمر أشبه بالحلقة المفرغة.

ما تعانيه البلدان النامية والفقيرة من حروب وصراعات وبؤس اجتماعي وافتقاد للديمقراطية الحقيقية وغياب حرية التعبير والتضييق الاجتماعي وسلطة العادات والتقاليد كلها عوامل إضافية تشجع على الهجرة.

غالبا ما تؤدي سياسة أنظمة دول العالم الثالث المتشددة وغير المتسامحة مع الأفكار اللبرالية على تشجيع خفي لهجرة الكفاءات.

ومن الواضح أنها لا تقوم بأي إجراءات للحد من هجرة مواطنيها، فالدول النامية على ما يبدو تريح نفسها من خلال تشجيع هجرة شبابها إلى الغرب.

فهذه الهجرة ستعود ببعض المنافع للدولة المصدرة للمهاجرين عبر التحويلات المالية لكن ليس كل المهاجرين يمكنهم إرسال تحويلات مالية إلى بلدانهم فأغلبهم ذو أجور متدنية وإقامة الكثيرين منهم غير شرعية فلا يمكنهم إرسال تحويلات.

لم يعد السفر إلى أوروبا أو الهجرة إليها أمرا سهلا. فأوروبا باتت تخشى على هويتها من المهاجرين فاتجهت بعض بلدانها للتشدد في منح التأشيرات سواء للإقامة أو للعبور فكثافة الهجرات أخذت تتسبب في اضطرابات اجتماعية ويمكن أن تخلق خللا في التركيبة السكانية والثقافية للمجتمعات الغربية وبخاصة أن معظم المهاجرين يرفضون الاندماج في المجتمعات الجديدة. ومع أن أوروبا تستثمر سنويا ما يقرب من خمسة مليارات يورو لأجل تنظيم الهجرات إليها ومحاولة إدماج المهاجرين في المجتمع إلا أن الاندماج ضعيف وأحيانا يحدث العكس أي أن ينعزل المهاجرون في أحياء خاصة بهم الأمر الذي ينقلهم إلى التشدد والتطرف وربما إلى الإرهاب.

ولهذا تحاول أوروبا العمل على معالجة الأسباب العميقة للهجرة من البلدان النامية والأفريقية خصوصا عبر مشروعات التنمية والاستثمار في المجالات التي تخلق فرص عمل تؤدي إلى تحسين نوعية الحياة ورفع مستوى المعيشة. وتعمل أوروبا على عقد اتفاقيات لتوفير الدعم المادي للدول الفقيرة المصدرة للهجرة لكي تعمل على تنشيط الاقتصاد وفتح مجالات جديدة للعمالة الوطنية.

في الأثناء تواصل أوروبا وكذلك الولايات المتحدة استقطاب الكفاءات من ذات البلدان النامية للاستفادة منها رغم الخسارة التي تتعرض لها تلك البلدان جراء هجرة كفاءاتها. فأصحاب الكفاءات في معظم الأحيان لا يحتاجون لمن يحرضهم على الهجرة فهم يجدون صعوبة في التكيف مع ظروف المعيشة في بلادهم وبصورة خاصة إن كانوا من الذين تعلموا في الغرب. وهؤلاء الذين تعلموا في الغرب في العادة لا يرغبون في العودة إلى بلدانهم. والقليل ممن يعودون يرضى بالحال السائد أما أغلبيتهم فلا تعجبه الحياة في بلاده فيعود إلى البلاد التي درس فيها وتعود على نمط حياتها.

لا شك أن الشباب العربي يدرك بوضوح ولكن بأسى الفروقات الهائلة بين ظروفه وظروف الشباب في الغرب وهذا بدوره يخلق تحديات جديدة وإضافية تشكل أحيانا صدمة حضارية وإحباطا ينتج عنه أزمة ثقة بالحاضر وخوف من المستقبل. يعود هذا المتعلم إلى بلاده فيجد نظاما لا يستطيع التعايش معه بعد أن تعود على أجواء الانفتاح السياسي في الغرب، ويجد مجتمعا منغلقا فلا يعجبه بعد أن اختبر الانفتاح الاجتماعي. ثم لا يجد في بلاده البنية التحتية التي تسهل معيشته، ويكتمل بؤسه بالراتب القليل الذي يمكن أن يحصل عليه إن وجد عملا.

باتت الحياة في دول العالم الثالث صعبة وقاسية ويرى الشباب أن الحل في الهجرة لكن هؤلاء ما إن يصلوا إذا وصلوا سالمين يكتشفون أن الواقع ليس كما تصوروه. وستظل هجرة الشباب من اهم القضايا التي تواجهها البلدان النامية وقد تكون مرشحة للتفاقم والزيادة. ومع كلفتها العالية تظل الهجرة غير المشروعة محفوفة بالمخاطر وكثيرا ما تؤدي إلى كوارث إنسانية في عرض البحر لا يمكن تعويضها.