بعد القرار الاستراتيجي للولايات المتحدة بالخروج من الشرق الأوسط استعدادا لجعل آسيا ميدانها الرئيسي تحسبا لصراع محتمل مع الصين أضحت دول الشرق الأوسط مضطرة للتعاون فيما بينها لحل خلافاتها من دون الاتكال على الدول الكبرى.
ولأن السياسة فن الممكن ومعرفة التحرك المناسب في الوقت المناسب فإن ما تفعله الرياض الآن في مجال العلاقات مع طهران يدخل في هذا الباب. فالرياض تجد نفسها مندفعة نحو المصالحات والتوافقات لحل المشكلات العالقة استعدادا على ما يبدو لما هو أكبر وأكثر أهمية.
ومن الأهمية بمكان أن تجد المملكة العربية السعودية وبقية دول مجلس التعاون وسيلة للتفاهم مع إيران بعد أن أدرك الجانبان أن مصلحتهما الحقيقية هي مع بعضهما البعض. ربما كان مثل هذا التقارب مستحيلا قبل بضع سنوات لكنه الآن يكاد
يصبح حقيقة ملموسة باختلاف الظروف الإقليمية والدولية. فالإدارة الأميركية الجديدة في البيت الأبيض تقوم بإعادة ترتيب أولوياتها وأولويات حلفائها وأي تقارب سعودي إيراني سيسهم في تسهيل التقارب الأمريكي الإيراني فيما يخص الاتفاق النووي الذي يرغب الجانبان في العودة إليه.
في الأسابيع القليلة الماضية وبحسب مصادر سياسية عربية وأجنبية جرت محادثات في بغداد بين الرياض وطهران شملت أكثر من لقاء على المستوى الدبلوماسي والأمني (قائد فيلق القدس من إيران ومدير المخابرات من السعودية) وشارك في
بعضها مندوبون من دول عربية أخرى. أكثر من لقاء معناه أن النتائج المتوقعة ستكون إيجابية وتقود إلى هدوء واستقرار سيغيران الكثير في الشرق الأوسط.
لم تتسرب تفاصيل المحادثات لكن عناوينها كانت اليمن والميلشيات الشيعية في العراق والوضع في سوريا والأمن في منطقة الخليج ولبنان. وما يميز هذه المحادثات بالدرجة الأولى أنها لا تجري برعاية دولة عظمى وإنما انطلقت برغبة ذاتية من
الجانبين أي أنها محادثات تقودها المصلحة الوطنية لكل منهما. ومع أن الجانبين الإيراني والسعودي لم يقدما أي تلميحات عن الاجتماعات إلا أن الإشارات التي يمكن رصدها في تصريحات المسؤولين في البلدين تؤشر على مرحلة جديدة.
من اهم الإشارات التي رصدت تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي قال في مقابلة تلفزيونية “إن إيران دولة جارة وكل ما نطمح له أن يكون لدينا علاقات طيبة ومميزة معها… نريد إيران مزدهرة ومتقدمة ولدينا عندهم مصالح ولهم عندنا مصالح”.
بهذا يمد الأمير بن سلمان غصن الزيتون لإيران متقدما هذا الجهد التصالحي باحثا عن نقاط الالتقاء ومعترفا بوجود قضايا مختلف عليها لكنه يرى أن العلاقات الإيجابية بين طهران والرياض ستكون في صالح جميع الأطراف.
كذلك كانت هناك تعليقات سعودية رفيعة المستوى تحدثت عن سعي الرياض إلى علاقات جيدة مع طهران. وجاء في بيان سعودي صدر أواخر إبريل الماضي أن المملكة العربية السعودية ستواصل انتهاز أي فرصة لتعزيز السلام في المنطقة.
الترحيب الإيراني باللهجة التصالحية القادمة من الرياض جاءت على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية الذي قال في مؤتمر صحفي انه من الممكن لطهران أن تعيد بناء العلاقات مع السعودية لأن السعودية بلد مهم في المنطقة. كما كانت هناك إشارات إيرانية عديدة تنم عن استعداد إيراني للحديث مع السعودية لحل كل المشكلات التي تعيق عودة العلاقات بينهما. كما أرسل سفراء إيران في المنطقة إشارات عبر تصريحات صحفية تناولت رغبة طهران في التصالح.
وتحدث سفير إيران في الكويت عن أهمية المملكة العربية السعودية وقال إنها دولة كبيرة ومهمة وان طهران مستعدة للدخول في أي نوع من المحادثات معها بدون أي شروط مسبقة.
كذلك جاءت زيارات وزير الخارجية الإيراني إلى بعض دول مجلس التعاون والعراق لتصب في مصلحة الحوار الإيراني السعودي.
وقد أوضح وزير الخارجية الإيراني في مقال نشرته له مجلة فورين أفيرز الأمريكية أن إيران راغبة في بحث المشكلات مع جيرانها مؤكدا أن أصحاب العلاقة هم الأقدر على ذلك.
كان الجانبان على الدوام يصران على عبارة “المعاملة بالمثل” وربما كانت هذه كلمة السر التي تعني قيام تفاهمات بينهما حول القضايا التي هي في صلب الخلاف وهذه القضايا تتعلق بالدرجة الأولى باليمن والعراق وسوريا وأمن الخليج ولبنان ولابد أن تفضي هذه التفاهمات إلى ترتيبات أمنية متفق عليها.
للوصول إلى نتائج طرح الجانبان مطالبهما كل من الآخر وهي مطالب في حال تنفيذها تعني التهيئة لعودة العلاقات الطبيعية بينهما. ولان حرب اليمن باتت عبئا ثقيلا على الجانبين فقد كان المطلب السعودي الأول هو وقف هجمات الحوثي بالصواريخ والطائرات المسيرة التي تستهدف العمق السعودي. كما تطلب السعودية من إيران أن توقف استفزازات المليشيات الموالية لها في العراق التي تستهدف المصالح السعودية.
أما المطالب الإيرانية التي أكدت السعودية أنها تقبل بها فهي منح الحوثي فرصة المشاركة في الحكم ووقف الدعم للمعارضة السورية (وهذا بدأ فعلا بزيارة وفد سعودي إلى دمشق قبل فترة وجيزة). وان توقف السعودية طلبها من واشنطن بفرض عقوبات جديدة على إيران (وهذا سيتم بعد العودة إلى الاتفاق النووي).
التفاهم الأمريكي الإيراني حول الاتفاق النووي قد يتم خلال أسابيع إذا ما التزمت إيران بما هو مطلوب منها وهذا يبدو تحصيل حاصل. ومعنى ذلك عودة الأرصدة الإيرانية ورفع العقوبات. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية واحتمال سيطرة التيار المحافظ على الحكم في طهران وفي ضوء أن إدارة الرئيس بايدن جعلت الشرق الأوسط في المرتبة الرابعة من أولوياتها بعد آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية يبدو جنوح الرياض وطهران إلى التصالح هدفا إيجابيا يخدم البلدين وقد ينقل الشرق الأوسط إلى مرحلة مختلفة.
بالنظر إلى هذه المعطيات تبدو الأمور متجهة في الاتجاه الصحيح والاتفاق بين الجانبين سيكون في حكم الممكن. وكل من إيران والسعودية قوة إقليمية مهمة ولكل منهما أنصار وحلفاء لا بد أن يتقيدون بما يملى عليهم منهما.
ولأجل أن تنجح هذه الجهود على إيران أن توقف نشاط العناصر المرتبطة بها التي تتعرض لمصالح دول الجوار العربي. فهناك استفزازات يجب أن تتوقف لإثبات حسن النية فلا يكفي القول في المؤتمرات الصحفية أن طهران مستعدة لفتح صفحة جديدة من العلاقات بل يجب أن يصاحب الأقوال أفعال تثبت ذلك حتى يتم استكمال الطريق الإيجابية نحو التفاهم والتوافق ومن ثم التعاون.
لقد كان إجراء المحادثات مع إيران على أي مستوى خطوة كبيرة وهامة من جانب المملكة العربية السعودية ومع ذلك فإن إذابة الجليد بينهما ليست بتلك السهولة والعلاقات إن عادت بين البلدين فستكون حذرة في البداية إلى أن يقتنع الجانبان أن
المصالحة أفضل من الصدام وكلفة التصالح اقل بكثير من كلفة الصراع..
تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن