البابا في زيارته التاريخية للعراق

منذ أن اتخذ لنفسه اسم فرنسيس عند انتخابه بابا ظهرت ملامح بابويته وأدرك المتابعون لشؤون الفاتيكان أن البابا فرنسيس سيقتفي أثار القديس فرنسيس الأسيزي خصوصا في دفاعه عن الفقراء والبسطاء ودعوته إلى السلام وعلاقاته مع العالم الإسلامي. وعلى خطى فرنسيس الأسيزي يأتي البابا فرنسيس إلى العراق لزيارة بلاد الرافدين ليمد يدا نحو المصالحة والسلام وبدء عهد جديد من العلاقات بين اتباع الديانات التوحيدية.

دلائل كثيرة تحملها هذه الزيارة وهي الأولى التي يقوم بها بابا إلى العراق. وقد أصر البابا على القيام بالزيارة رغم التحذيرات العديدة سواء الأمنية منها أو الصحية جراء انتشار كورونا. وفي هذه الزيارة تتمثل جرأة البابا غير العادية في تحدي الظروف وتحدي جائحة كورونا والظروف الأمنية بعد تجدد بعض أعمال العنف في العراق مؤخرا. وتحمل الزيارة أبعادا دينية ومدنية وسياسية وخلقت ظرفا تاريخيا مستجدا في توقيت مهم أيضا وتحت شعار مهم للغاية تتمثل فيه دلالة إنسانية رئيسية تمثلت في الآية الإنجيلية “كلكم أخوة” التي تحاكي عبارة الأمام عليّ الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق. وفي الزيارة التي تأتي في ظروف بالغة الدقة رسالة لكل العراقيين، على مختلف طوائفهم وانتماءاتهم السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية. وهي زيارة تاريخية بكل أبعادها وتجسد معنى اهتمام البابا على المستوى الشخصي والكنيسة الكاثوليكية عموما بالعراق مهد الحضارة العريقة والمذهلة كما يصفها البابا.

في كلمته الأولى في بغداد وصف البابا نفسه بانه الحاج التائب الساعي إلى السلام. والزيارة التي وصفها البابا بانها حج رسولي لم يعد بالإمكان تأجيلها وقد رأى الفاتيكان أن المكاسب الروحية من الزيارة ستفوق المخاطر الممكنة فكانت زيارته رسالة سلام ورجاء انتظرها العراقيون طويلا.

يمكن تلخيص دعوة البابا إلى السلام في عبارته أثناء لقائه بالسفراء والمسؤولين عندما قال: لتصمت الأسلحة وليرتفع صوت السلام وصانعي السلام. يريد البابا أن يقدم دعمه للشعب العراقي عموما والمسيحيين منهم على وجه الخصوص بعد سنوات اتسمت بالعنف والإرهاب.

يأتي البابا إلى العراق بصفته رسول سلام ومحبة وحاجا داعيا إلى المحبة والتآلف والتعاضد بين أبناء البلد الواحد. تعتبر زيارته وفعالياتها التي شاهدها العراقيون والعالم رسالة تشجيع للعراقيين عموما وللمسيحيين بوجه خاص على الصمود والبقاء في بلادهم بما يمثله هذا الصمود من سعي جاد يحافظ على النسيج الوطني المتكامل الذي يتقوى بالتعدد والتنوع. وبهذا يقوم البابا ببناء الجسور بين مختلف مكونات الشعب العراقي. يأتي البابا إلى العراق لتشجيع الجميع على الصمود والبقاء في بلدهم لإعادة بنائه وازدهاره. وبالإضافة إلى ذلك تعزز الزيارة الحوار بين الأديان والأخوة الإنسانية من خلال تشجيع القوى السياسية والاجتماعية على التعاون لخدمة الإنسان وهذا ما تجسد في كلمته الجامعة في الصلاة المشتركة التي أقيمت في بلدة أور الكلدانية التي تعرف أيضا بانها “بيت إبراهيم”.

كذلك كان اللقاء التاريخي مع المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني في النجف الأشرف المحطة الأبرز في زيارة البابا. والسيستاني شخصية شيعية مؤثرة جدا ولقاء البابا مع السيستاني يمثل حوارا حضاريا بين الكنيسة الكاثوليكية ومرجعية النجف الأشرف.

يتلاقى البابا فرنسيس والمرجع الشيعي الأعلى السيستاني في كثير من الصفات أبرزها الزهد في الحياة الدنيا وهذا ربما كان أحد أسباب التوافق والانسجام بينهما كما ظهر في الصور القليلة التي انتشرت بعد اللقاء. يعيش السيستاني في منزل عادي مستأجر في النجف ويعيش حياة الكفاف. كذلك البابا فرنسيس. فقد رفض أن يحمل الصليب الذهبي مكتفيا بحمل الصليب الفضي الذي حمله منذ أن كان أسقفا في الأرجنتين. ورفض أن يسكن في القصر البابوي في الفاتيكان وبقي في النزل الصغير الذي سكن فيه عندما جاء للمشاركة في مجمع الكرادلة لانتخاب البابا.

لا شك أن اللقاء مع الأمام السيستاني سيكون له تأثير على الدفع باتجاه تعزيز الحوار ونبذ العنف. فقد كان لحوزة النجف الأشرف على الدوام دور في تعزيز العيش المشترك وصيانة كرامة الإنسان. والمعروف عن حوزة النجف أنها لا تؤمن بنظرية ولاية الفقيه في الحكم وفي هذا الموقف تعزيز للدولة الوطنية وتأكيد على مبدأ المواطنة من حيث الحقوق الدستورية الثابتة لجميع مواطني العراق. وجاء لقاء البابا بالمرجع الأعلى علامة تقدير واحترام لهذه المرجعية. ويرى بعض المعلقين أن هذا الاجتماع رسخ زعامة النجف للشيعة العرب وربما قضى على أحلام الوصاية الإيرانية عليهم. كما أن هذا اللقاء يمثل بداية عمل وتواصل بين المرجعية الشيعية العربية في النجف والمرجعية الكاثوليكية العالمية في الفاتيكان من أجل قيام دولة المواطنة والدولة المدنية والتعاون الإنساني لمواجهة التحديات الكبرى التي تواجه الإنسانية في هذه المرحلة..

في هذه الزيارة وهذا اللقاء التاريخي غير المسبوق مع السيستاني يتم تعزيز موقع مرجعية النجف في مواجهة مرجعية قم التي حاولت منذ عشرات السنين احتواء مرجعية النجف لترويضها والهيمنة عليها وهذا خلق صراعا صامتا بين المرجعيتين. الخلاف الأساسي بين المرجعيتين يتمثل في الموقف من ما يعرف بولاية الفقيه لكنه في السنوات الأخيرة بدأ يتجاوز مسألة ولاية الفقيه ليطال مسائل سياسية أخرى. مرجعية النجف تقف بصلابة في وجه محاولات التمدد الإيراني في العراق وهذا تمثل بوضوح في فتاوى السيستاني التي كانت على الدوام تصب في مصلحة الشعب العراقي بعيدا عن محاولات مرجعية قم في فرض الوصاية والإملاءات.

من المؤكد أن زيارة البابا للعراق ستفتح صفحة جديدة في علاقات الكنيسة الكاثوليكية مع المشرق الإسلامي وقد يرسخ لقاء البابا مع المرجع السيستاني تقليدا مهما في هذه العلاقات. فهل سيكون لهذا اللقاء تأثيره الفاعل أيضا على علاقة مرجعية النجف بمرجعية قم ويحرر النجف الأشرف من كل ما يربطه بمرجعية الولي الفقيه التي هناك؟

تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن