ينظر السودان إلى القرار الأمريكي بإزالته من قائمة الدول الراعية للإرهاب والذي دخل حيز التنفيذ في الرابع عشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي كنقطة فارقة في تاريخه السياسي والاقتصادي.

فالقرار الذي صدر عقب سبعة وعشرين عاماً من وجود اسم السودان على القائمة , ساهم بشكل بارز في عدم استغلال البلاد لمواردها الطبيعية والتي تؤهلها إلى أن تكون من ضمن الاقتصاديات المتقدمة بين دول العالم, ومنعته من التعاطي مع المجتمع الدولي وعزلت اقتصاده , فأورثته أزمات متكررة ومستديمة.

أسباب دخول السودان قائمة الإرهاب

دخل السودان قائمة الدول الراعية للإرهاب في العام 1993 على خلفية اتهامات وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية بإيواء الخرطوم في عهد الرئيس السابق عمر البشير , لجماعات متشددة ومتطرفة ومن أهمها مؤسس وزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن , فأدرج اسمه ضمن دول أخرى في القائمة السوداء التي يترتب عليها عقوبات اقتصادية وسياسية تقضي بعدم حصول الدول المدرجة على التمويل الدولي بواسطة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي , وعدم الاستفادة من أي مبادرات دولية من شأنها أن تخفف من وطأة الديون الخارجية التي تثقل كاهل الاقتصاد السوداني منذ سبعينيات القرن الماضي.

قرارات مجمّدة

وقف قرار وجود اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب أمام استفادة السودان من القرار الأمريكي برفع الحصار الاقتصادي والذي أصدره الرئيس الأمريكي الأسبق باراك اوباما في نهاية ولايته في العام 2017, وهو القرار الذي اصدرته واشنطن في العام 1997 بدعوى وجود حملات ابادة جماعية في اقليم دارفور غربي البلاد. وبعد فك الحصار الأمريكي لم تستطع الخرطوم إجراء أي معاملات مصرفية مالية مع أي بنك أو استقبال شركات استثمارية كبرى لاستمرار وجود اسم السودان على القائمة, فاستمرت المخاوف في التعامل التجاري والاقتصادي مع الاقتصاد السوداني.

مساعي الخرطوم للحصول على القرار

بذلت الحكومة الانتقالية  السودانية التي تشكلت في سبتمبر/ أيلول 2019 وهي أول حكومة منذ أن أطاحت ثورة شعبية بحكم الرئيس السابق عمر البشير (1989-2019)  جهودا حثيثة للخروج من قائمة الدول الراعية للإرهاب ،  فتعاطت مع واشنطن في عدد من الملفات التي كانت عاملاً رئيسياً في إدراج اسم البلاد على القائمة لا سيما مجالات مكافحة الإرهاب وزيادة مساحة الحريات الدينية,  بجانب تعويضات عن أحداث تؤكد الولايات المتحدة الأمريكية بان الخرطوم على علاقة بها . وفي شهر فبراير/ شباط من العام الماضي توصلت الخرطوم وواشنطن الى دفع 335 مليون دولار كتعويض مالي عن الهجمات التي شنها تنظيم القاعدة على السفارة الأمريكية في كل من تنزانيا وكينيا في العام 1998 ومحاولة الهجوم على المدمرة يو – إس إس كول في ساحل خليج عدن في العام 2000.  وبموافقة الولايات المتحدة الأمريكية على إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب , يفتح السودان فصلاً جديداً في تاريخه السياسي والاقتصادي, إذ سبق صدور القرار جدل حول إمكانية إلحاق السودان بركب الدول العربية التي بدأت علاقات مع إسرائيل خلال العام الماضي , كشرط وضعته واشنطن لحصول الخرطوم على قرار رفعه من القائمة السوداء. واستقبل السودان في شهر نوفمبر /تشرين الثاني وفدا إِسْرَائِيلِيًّا زار الخرطوم في زيارة غير معلنة التفاصيل, إضافة إلى منح إسرائيل السودان قمحا بقيمة 5 مليون دولار بحسب تغريدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على موقع تويتر في شهر أكتوبر/ تشرين الأول قال فيها نتطلع إلى سلام دافئ مع السودان،  ونرسل بشكل فوري إلى أصدقائنا الجدد هناك طحين القمح بقيمة 5 ملايين دولار. وجاءت التغريدة عقب  إعلان مشترك بين أمريكا وإسرائيل والسودان على التوصل لاتفاق تطبيع بين الخرطوم وتل أبيب.

الأثار الاقتصادية على المواطن السوداني

منذ العام 1993 وجد المواطن السوداني نفسه أمام واقع اقتصادي معزول عن العالم , بعد حرمانه من الاستفادة من خاصية الاندماج وتبادل الخبرات العالمية في القطاعات الإنتاجية والخدمية والتي يمتلك السودان مواردها الخام , ولكن وجوده في القائمة عطل بشكل كامل الاستفادة من هذه الموارد وتحويلها إلى منتجات ذات قيمة مضافة كان يمكنها أن تغزو الأسواق العالمية وتحقق الرفاهية والاستقرار للاقتصاد السوداني الذي يعاني من شح حاد في احتياطياته من النقد الأجنبي,  نجم عنه عجزه في استيراد السلع الأساسية وتسبب في أزمات معيشية متكررة للمواطن السوداني , بجانب منع المصارف العالمية من إجراء أي تحويلات مصرفية بينها وبين المصارف السودانية , ووصل الأمر إلى حد فرض عقوبات على المصارف المخالفة للأمر كما حدث مع مصرف بي أن بي باريبا الفرنسي في العام 2014 , الذي دفع ما يزيد عن ال 8 مليار دولار لسلطات الولايات المتحدة الأمريكية بسبب انتهاكه لنظام العقوبات الأمريكية وإجراء معاملات مع  ثلاث دول من بينها السودان.
بلغت معاناة المواطن السوداني ذروتها عندما تأثر اقتصاده بعدم السماح للشركات العالمية بالدخول في استثمارات مشتركة مع السودان الذي يمتلك رصيداً وافراً من الإمكانيات الزراعية والحيوانية, إضافة إلى احتياطيات مقدرة من النفط والذهب والمعادن. وبحسب إحصائيات حكومية فإن احتياطي النفط في السودان يصل إلى نحو 6 مليار برميل و1550 طن من الذهب, إلا أن هذه الامكانيات ظلت باقية في مكانها بسبب عدم قدرة السودان المالية والفنية على إستغلالها , ومنع الشركات العالمية والغربية من استثمارها. هذه العوامل كلها انعكست على حياة المواطن المعيشية الذي أضحى يعاني من هبوط مستديم في عملته الوطنية أمام العملات الأجنبية على خلفية ضعف صادراته الخارجية واعتماده على الواردات في ظل شح دائم لإحتياطيات النقد الأجنبي تسببت على المدى الطويل في إرتفاع معدلات أسعار السلع مقارنة بمتوسط دخل الفرد, وإرتفاع معدلات التضخم , وسجلت أحدث إحصائيات معدلات التضخم في البلاد إرتفاعا وصل إلى  254. 23% في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي،  مقابل 229. 85% في أكتوبر/تشرين الأول. وأوضح الجهاز المركزي للإحصاء (حكومي) أن معدل التضخم على أساس شهري زاد 24. 49% في نوفمبر/تشرين الثاني،  مقارنة مع أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
ضاق الخناق على الاقتصاد السوداني في سنوات وجوده على قائمة الإرهاب, فمنع التحويلات المصرفية بين البنوك الخارجية والسودانية  ساعد في خلق سوق موازٍ للعملات حيث تتم التحويلات المصرفية بقنوات غير رسمية جعلت احتياطيات النقد الأجنبي في أيادي عدد من الأشخاص بدلا عن وجودها في البنوك, لتصبح تجارة رائجة في السودان تتم تداولاتها بعيدا عن القنوات المصرفية, بما أدى إلى تأكل قيمة الجنيه السوداني أمام سلة العملات الأجنبية, فارتد الأمر بشكل سلبي على المواطن وعلى حياته المعيشية فضلا عن معاناته في الحصول على خدمات جيدة في النقل والصحة والتعليم على خلفية منع كافة المؤسسات الدولية من التعامل مع السودان , بما ساهم  في التأثير على  التركيبة الديموغرافية للسودان على خلفية الهجرة المستمرة من الريف إلى العاصمة الخرطوم , لتمركز الخدمات الصحية والتعليمية بها للتركيز الذي تَحْظَى به الخرطوم من استثمارات القطاع الخاص المحلي لاسيما في مجالي الصحة والتعليم.

 

قائمة الارهاب وديون السودان

بإزالته من قائمة الإرهاب يأمل المواطن السوداني في أن تزاح عن كاهله الديون الخارجية التي تراكمت ووصلت إلى ما يربو ال 60 مليار دولار وأن يستفيد السودان من مبادرة إعفاء الدول المثقلة بالديون (الهيبك) . وتساهم الديون الخارجية في إيقاف الحركة التنموية في البلاد وعدم الحصول على التمويلات والمساعدات الدولية من الصناديق المعنية بالتمويل ومساعدة الاقتصاديات النامية . ومنذ ثمانينات القرن الماضي , أوقف البنك وصندوق النقد الدوليين المساعدات المالية للسودان بسبب تراكم ديونه والاكتفاء بالمساعدات الفنية فقط.

 

إيجابيات الإزالة من القائمة
بعد صدور القرار بدأ السودان  في جني ثماره , فشهدت الخرطوم الأسبوع الماضي زيارة  وزير الخزانة الأمريكي،  ستيفن منوشن الذي وقع مع الحكومة السودانية اتفاقا ( مذكرة تفاهم) لتوفير تسهيلات تمويلية لسداد متأخرات ديون البنك الدولي تتيح له الحصول على أكثر من مليار دولار سنويا. ووفقا لبيان صادر عن الحكومة السودانية في السادس من يناير/ كانون الثاني فإن مذكرة التفاهم التي وقعت بين البلدين بخصوص القرض التفسيري الذي ستقوم الولايات المتحدة الأمريكية بموجبه بسداد متأخرات السودان لمجموعة البنك الدولي. وبموجب هذا القرض سيتمكن السودان من الحصول على مليار دولار سنويا. وأعتبر الشارع السوداني هذا الاتفاق من الثمرات الأولى لقرار إزالة اسم الخرطوم من القائمة لا سيما وان بعد هذا التوقيع بيوم واحد, زارت رئيسة بنك الاستيراد والتصدير الأمريكي كمبرلي ريد،  الخرطوم ووقعت مذكرة تفاهم لدعم وتمويل الصادرات والاستثمارات الأمريكية في السودان بقيمة مليار دولار.
ونصت مذكرة التفاهم على أن يتم التوافق بين الجانبين على تحديد المشاريع التي ستموّل عبر البنك في مجالات البنى التحتية والزراعة والطاقة والتعدين والاتصالات والرعاية الطبية.

تحديات منتظرة

وعلى الرغم من كل هذه التباشير التي ينتظرها المواطن السوداني, إلا أن ثمة تحديات ربما تؤخر الاستفادة الكاملة من القرار الأمريكي, فالحكومة الانتقالية ومع وطأة الأزمات المعيشية المتكررة تتباطأ في تجهيز البيئة الداخلية لاستقبال الاستثمارات الخارجية من حيث تبسيط الإجراءات وسن قانون استثمار جاذب مع المشكلة الكامنة في عدم وجود بنى تحتية من طرق وطاقة تجذب المستثمرين نحو السودان, إضافة إلى مشكلة الاقتصاد السوداني المزمنة في استقرار سعر صرف الجنيه السوداني أمام الدولار , بما يجعل الحكومة التنفيذية تصبّ جلّ اهتمامها في إيجاد معونات خارجية لدعم الخزينة العامة لتحقيق توازن في سعر العملة الوطنية أمام العملة الأجنبية , إضافة  إلى التباطؤ في إقامة شبكة مراسلين خارجيين بين المصارف السودانية والعالمية ربما يؤخر انسياب التحويلات المصرفية من وإلى السودان فترة أخرى. كل هذه العوامل ستساهم في عدم دخول الاقتصاد السوداني في منظومة الاقتصاد العالمي في المستقبل القريب, وسط توقعات بأن تمتد آثار القائمة السوداء على الاقتصاد السوداني عاماً آخر.

تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن