ساحة الرأي | أخبار الآن (ياسر الأطرش)

ليس من الواقعي القول إن سوريا كانت في عهدٍ من عهود الدول التي تعاقبت على حكمها، مستقرةً على المستوى الدينيِّ، فواقع الحال الآن ما هو إلا حصيلةٌ تاريخيةٌ تعبِّر بصدقية عما ساد خلال قرون من تناحرٍ دينيّ وطائفيّ ومذهبيّ وجّهته السياسة من خلال دين الحاكم أو توجهه الفكري وانتمائه المذهبي.

سوريا التي كانت مهداً لكثير من الديانات القديمة والتي عرفت التوحيد قبل غيرها بآلاف السنين، عزز مكانتها الدينية أنها مهد السيد المسيح، وتوطدت مكانتها الدينية أكثر مع اختيار دمشق عاصمة للدولة الأموية التي كادت تسود العالم وتجعل دمشق عاصمة قراره.

إلا أن التاريخ لا يشفع للحاضر ولا يقي شر تبعاته، فمع خفوت سلطة الخلافة العباسية في بغداد، وظهور الملوك والأمراء وتفردهم بحكم إقطاعاتٍ من "دولة الخلافة"، غرقت سوريا أكثر من غيرها في لجج التجاذبات والحروب الدينية والطائفية، ويقول لنا التاريخ بوضوح إن أكثر الناس من العامة كانوا يتقون شرَّ السيف الطائفي بالدخول في دين الغالب أو يمالئونه على الأقل، فلا يمكننا الآن تفسير وجود أقليات شيعية في مناطق من حلب وإدلب شمال سوريا، إلا إذا ربطناها تاريخياً بوجود حكم "شيعي" سيطر على المنطقة لعقود "الدولة الحمدانية"، وينسحب هذا على الأقلية الدرزية إذا ما علمنا أنهم تواجدوا بشكل كبير في شمال سوريا وأنطاكيا قبل وخلال حكم الفاطميين في مصر وامتداد سطوتهم إلى حلب أيام الدولة المرداسية.. أما عن وجود أكثرية هذه الأقليات في مناطق مختلفة تاريخياً عن معاقل أسلافهم، فالأمر يتعلق هنا أيضاً ببُعد ديني طائفي، وهو سيطرة العثمانيين على هذه المناطق لقرون، وإعادة ترتيب المنطقة سياسياً ودينياً.

آل الأسد والطائفية

عاشت سوريا حالة استقرار ديني لا بأس به خلال العهد الوطني، ساعدت الحريات السياسية والدينية على ذلك، ولم تبدِ معظم الطوائف مظلومية تُذكر آنذاك، إلى أن وصل حافظ الأسد إلى الحكم بعد انقلابه في العام 1970، ممتطياً صهوة القومية العربية التي كانت في أوج مدّها، فكانت غطاءً خبأ تحته انتماءه الطائفي، الذي سرعان ما ظهر عندما تحالف مع إيران ضد أبناء قوميته أجمعين، ودخل حليفاً مكيناً لها في حربها مع العراق على تبعية أرضٍ يعلم حافظ الأسد "القومي" أن اسمها "عربستان"، إلا أن التحالف الطائفي كان هو المتحكم في العلاقة، فكان بإرادته جزاً أصيلاً من المخطط المبكر لتصدير مايسمى "الثورة الإسلامية" في إيران.

ومع وصول ابنه إلى الحكم في العام ألفين، بعد أن ورث حكم الجمهورية عن والده، رأت إيران في الخليفة الضعيف خاصرة رخوة يمكن من خلالها النفوذ علانية إلى فضاء سوريا الرحب، فالحكم قد استتبَّ لآل الأسد، ما يجعل "التبشير" بالشيعية أمراً يسيراً تغطيه سلطات الأسد إعلامياً وأمنياً، وهذا ما تمَّ فعلياً، فبدأ المبشرون ينتشرون في أركان سوريا مستغلين الفقر والحاجة والجهل "منتجات حكم الأسد"، وضجّ المجتمع السوري بالحديث عن موجات تشيِّع طالت حتى المناطق النائية في الرقة وريف دير الزور وريف إدلب ناهيك عن مناطق سيطرتهم في "السيدة زينت" وما حولها بدمشق، وأدى مفتي آل الأسد الشيخ أحمد حسون دوراً محورياً في اللعبة حتى اتُهم بالتشيع منذ العام 2006.

الأزمة السورية.. التبشير والتكفير

لا يبدو الوضع السوري هنا متفرداً عن غيره، فالتبشير الديني يعتبر مناطق النزاعات والحروب تربة خصبة وحاضنة غنية لنشاطه، وفي ظل بحث الإنسان عن البقاء وانحيازه لشرط استمراره وحسب، تضيق الخيارات بمن لا يجد لقمة تؤمن بقاء أطفاله على قيد الحياة، فيقبل مستسلماً وشاكراً سلة غذائية دُسَّ فيها "الكتاب المقدس"، يبرر لنفسه بالقول: نحن نؤمن بجميع رسل الله.. ولكن نشاط الهيئات التبشيرية التي تتخفى بزي منظمات إنسانية إغاثية، لا يتوقف هنا، بل يطارده ليغسل قدميه، ويطريه بحديث معسول عن الحب والمحبة في زمن الحرب، وإنها وصفة مجربةٌ لاقت نجاحاً ورواجاً في عدة بلدان مأزومة وفقيرة تأتي السودان على رأسها، حيث أصبح التبشير هناك أمراً يؤرق المجتمع وأزمة تُضاف إلى أزماته الكثيرة.. وفي المشهد السوري تم رصد حالات ليست بالقليلة في الأردن ولبنان وتركيا من خلال مؤسسات إنسانية أوربية منها ما هو معروف بنشاطه التبشيري.

هذا في الخارج، أما في الداخل السوري فيأخذ التبشير أبعاداً أكثر وأخطر، وهنا لا نتحدث عن تبشير ديني، بل طائفي وفكري، والتبشير هنا اسم مرفوض، بل يجب علينا أن نقول "الدعوة"، فقد حرصت المجموعات الغريبة المتشددة على طرح نفسها "دعوياً" قبل أن تفرض وجودها بقوة السلاح، فـ"المكتب الدعوي" أول مكتب يجب أن تفتتحه الجماعات في مناطق تواجدها، فهدفهم الرئيس هو دعوة الناس إلى الله، ومن أجل هذا جاؤوا من أقاصي الأرض، وكل جماعة تحمل كتابها بيد والسيف بالأخرى، وكتابهم ليس "القرآن الكريم" بحال من الأحوال، بل فهم مشايخهم ومنظريهم للقرآن، وإلا لما كان الناس يُقتلون لاتّباعهم جماعة أخرى، فكل من ليس منخرطاً في فكرهم فهو مرتد، وهكذا أصبح السوري المسلم ذاته، مسلماً عند هؤلاء ومرتداً عند هؤلاء، وربما لا يحول بين كفره وإيمانه إلا بضع أمتار تفصل بين رايتين لجماعتين مكتوب على كليهما: "لا إله إلا الله"!.

وغير بعيدٍ عن هؤلاء، تتمدد سلطة "الولي الفقيه"، وتُبنى الحُسينيات، ويبارك الأئمة قتل الناس بمنح أسمائهم للكتائب القاتلة، ويُلطم في الجامع الأموي، بينما تُحزُّ رقاب "المرتدين" في رقة الرشيد، وكلُّ هذا يتم باسم الله ودفاعاً عنه!.

وبقراءة متأنية أو حتى متعجلة لتاريخ المنطقة، يمكن الوثوق بأن الأمر سيكون له تأثيره الكبير في المستقبل، فالانتماءات الطارئة لا تزول تلقائياً بزوال مسبباتها، خاصة وأنها جميعها تدعو إلى التطرف وتجعل من القتل منهجاً وطريق تقرب من الله، وتؤدي إلى انغلاق عقلي وفكري يستحيل معه دمج المتورطين في مجتمع تعددي متنوع.. ما يدعونا –إذا ما وعينا هذه الحقيقة وأدركنا أخطارها- إلى أخذها بالحسبان كواحدة من أهم القضايا التي يجب التعامل معها إذا ما أردنا فتح ملف "بناء الإنسان" قبل أو بالتزامن مع ملف "إعادة الإعمار" الذي تدأب عليه دولٌ، ويعطل مساراته أفراد بفكر عقيم.