تصنع بسمة رقاقات الملسوقة بالطريقة التقليدية القيروانية

تنشط خلال شهر رمضان في مدينة القيروان، وسط تونس، مهن موسمية مرتبطة بأجواء الصيام، خصوصًا الأكلات التقليدية والحلويات، فتوفر موارد رزق إضافية لألاف العائلات.
أدت تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد إلى ارتفاع توجه الناس لهذه المهن، لعد أن فقدت أسر كثيرة موارد رزقها، خصوصًا العاملين في القطاع الخاص. وفي سعيهن للمساهمة في موارد مالية إضافية لعائلاتهن، توجهت نساء عديدات للمهن المنزلية التي يمكن لهن إتمامها وهن في كنف المنزل، ومن ثم بيعها للزبائن الراغبين بالمنتوج.

بسمة السبوعي، واحدة من النساء اللاتي فرضت عليهن الظروف الاجتماعية والاقتصادية امتهان صناعة رقائق العجين التي تسمى باللهجة المحلية التونسية “ملسوقة”، وهي قرص من عجين الدقيق الرقيق تستخدم للحشو في أطعمة مطبوخة أشهرها “البريك” التي تسمى السمبوسة، أو في صنع أصناف من الحلويات وأشهرها البقلاوة.

 

مع ساعات الصباح الأولى، ينطلق نشاط بسمة، فتعد طلبات زبائنها الأوفياء، وتتلقى الطلبيات الجديدة المتضاعفة بمناسبة شهر الصيام، فيتحول منزلها بالطابق العلوي بالحي المجاور للمدينة العتيقة، إلى ورشة “ساخنة” بسبب موقدها المشتعل طوال اليوم.

وسط إيقاع الأواني النحاسية التقليدية القيروانية التي تحرص بسمة على استعمالها تماشيًا مع تقاليد أهل المدينة، تحافظ بسمة التي تخطت الخمسين من العمر، على نشاطها الشبابي وروح الكفاح من أجل تحمل مسؤولية ابنائها بعد فقدانهم للأب.
وبالرغم من تمضيتها سنوات في هذه المهنة المنزلية، ما تزال وقفتها أمام الموقد الناري والطبق النحاسي الساخن ومرونة أصابعها مع قطع العجين، هي نفسها كما قبل 18 عامًا. نفس الحركة التي تعلمتها وألفتها وأيضًا نفس التعب والعرق المتصبب من جبينها بسبب حرارة الموقد الذي يرافقها طيلة ساعات باليوم، فألفته وتعودت عليه كونه رفيق حرفتها التي تطعم أسرتها.
في حديثها لمراسلة “تطبيق خبّر” الميدانية في تونس سمية حمدي، قالت بسمة إن صداقة خاصة نشأت بينها وبين حرفتها، فتجمع في صنعتها بين الحرفية والشغف فتبدو كأنها بصدد صناعة تحف فنية متشابهة على إيقاع متشابه وتؤدي تفاصيلها بدقة متناهية.
"الملسوقة" تغني طاولات الإفطار في القيروان بتونس وتوفر موردًا ماليًا للنساء

تصنع بسمة رقاقات الملسوقة بالطريقة التقليدية القيروانية

يبدأ يوم العمل باكرًا من أجل ربح الوقت في إعداد كميات أكبر من تلك الأوراق الرقيقة من عجين الدقيق. بعد التفرغ من شؤون المنزل اليومية، تجهز ما تحتاجه في عملها من مكونات على الطاولة في الفناء الصغير بمنزلها، وهو الركن الحميمي الخاص بها.
تتفقد أن كل ما تحتاجه يحيط بها، من كيس الدقيق والملح والماء وباقي الأدوات وتحديدًا السكين، وتبدأ بعجن عجينتها في ذات الوعاء الذي يرافقها منذ سنوات، فتداعبها وتلاعبها بأصابعها مثل طفل يداعب ألعابه، الى أن تخبرها العجينة أنها استوت كأن هناك حوار يدور بينهما.
 “عندما أتلمسّها بأصابعي تخبرني إن كانت استوت أم تحتاج إلى دعك إضافي”، قالت بسمة وهي تواصل ملامسة العجين اللين بيدها اليمنى فترفعه إلى أعلى وهو ينساب بين أصابعها. وخلال ساعتين تكون بسمة قد حولت خلطة من دقيق القمح والملح والماء إلى كتلة عجين متماسكة ورخوة وجاهزة للتحضير على الموقد.
"الملسوقة" تغني طاولات الإفطار في القيروان بتونس وتوفر موردًا ماليًا للنساء

تعرف بسمة نجاح العجينة من ملمسها

“عندما يستوي العجين أشعل الموقد وأضع هذا الإناء النحاسي نصف كروي وفوق سطحه وأمرر العجين”، هكذا تلخّص بسمة عملية إعداد ورق “الملسوقة”، وهي تمرّر العجين على الطبق لتشكل مساحة دائرية رقيقة منه، تحولها حرارة الطبق إلى رقائق جافة ومتماسكة، في دقة وسرعة لا تتجاوز 20 ثانية وتكرّر هذا العمل عشرات المرات، فتنتج ما معدله 60 ورقة في نصف ساعة.
يقبل التونسيون على هذه الرقائق (تسمى أيضًا الورقة) لاستعمالها في إعداد الأطعمة المالحة والحلويات. وتحرص بسمة طوال اليوم على توفير طلبيات زبائنها خشية فقدانهم بسبب وجود منافسة، إذ يكاد هذا العمل يكون الأكثر انتشارًا بين منازل العائلات القيروانية.
"الملسوقة" تغني طاولات الإفطار في القيروان بتونس وتوفر موردًا ماليًا للنساء

ملسوقة منزلية الصنع جاهزة للبيع

تباع هذه الاوراق على شاكلة مجموعات بين 6 و12 ورقة، وتسمّى ال12 ورقة ب”دزينة” لا يتجاوز ثمنها الدينار الواحد، أي ما يعادل ثلث دولار. وتبيع بسمة منها مئات الأوراق يوميًا.
بفضل سمعتها الجيدة المتأتية من جودة مصنوعاتها، حافظت بسمة على زبائنها الذين تخصص لهم طلبيات يومية، وهم في الغالب جيرانها وأقاربها وأصحاب دكاكين المواد الغذائية.
“بعد وفاة زوجي كان علي أن أضمن قوت أولادي وحاجياتهم من نفقات يومية للمدرسة”، أوضحت بسمة لمراسلة “تطبيق خبّر” وهي تتحدث عن أولادها الذين تخرّج بعضهم بعد الحصول على الماجستير. لم تنته مسؤوليتها بمجرّد تخرّج أبنائها فواصلت تحمّل مسؤولية العائلة في ظلّ عدم حصول ابنها الأوسط على شغل من جهة، ومواصلتها توفير تكاليف دراسة ابنتها الصغرى التي تدرس بالإعدادي من جهة أخرى.
قبل موعد الافطار ببضع ساعات، يتضاعف تردّد الزبائن على منزلها القريب من مقام أبي زمعة البلوي (ضريح الصحابي الجليل). وهي لا تخفي حسرتها على السنوات الماضية من ناحية تحقق الأرباح. إذ أن ربحها من صناعة “الملسوقة” بعد الجائحة تراجع بسبب ارتفاع سعر الدقيق الذي تشتريه بكميات كبيرة وتضطرّ إلى اللجوء للسوق السوداء.
وأشارت إلى أن سعر كيس الدقيق شهد ارتفاعًا في عدّة مناسبات بينما لم يرتفع ثمن الملسوقة إلا قليلًا بسبب تدنّي المقدرة الشرائية للمواطنين، لافتة إلى أن العائلات التونسية تأثرت بدورها بالصعوبات الاقتصادية ما أدّى إلى تقليصها الاستهلاك واعتماد التقشّف في إعداد المأكولات.

مهن النساء المنزلية أبرز ما يؤمن دخلًا إضافيًا للأسر 

تتحمل عديد النساء في تونس مسؤولية إعالة أسرهن في قطاعات صناعة الحلويات والزربية والنسيج والصناعات التقليدية. وفي محافظة القيروان وحدها، هناك حوالى 28 ألف حرفي وحرفية، تقدر نسبة النساء بينهم بأكثر من 60 بالمئة خصوصًا في صناعة الزربية.
في إطار مشروع التمكين الاقتصادي للنساء، نفذت وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن التونسية عدة برامج تهدف إلى توفير موارد رزق للنساء خصوصًا بالأوساط الفقيرة والمناطق الريفية: في قطاعات الفلاحة والصناعات التقليدية التي تتماشى مع التزامات النساء أسريًّا.
من بين المشاريع الموجهة للنساء، تمكين عائلات تعيلها امرأة من مشاريع فلاحية وصناعات تقليدية بقيمة 5 ألاف دينار (حوالى ألفي دولار) لكل عائلة. وإحداث موارد رزق للعائلات في إطار استراتيجية مكافحة الارهاب لحوالى 20 عائلة بالقيروان، وقد استفادت منها بعض العائلات.
"الملسوقة" تغني طاولات الإفطار في القيروان بتونس وتوفر موردًا ماليًا للنساء

بسمة السبوعي وهي تشكل رقاقات الملسوقة

لا تشعر بسمة بالرضا وحسن تقدير مصنوعاتها فقط، بل تعتبر نفسها مثالًا لقصة نجاح ورمزًا للكفاح من أجل أسرتها. ولكنها تحدثت بمرارة عن مشكلة البطالة التي يعاني منها ابنها الاوسط، شأنه شأن كثير من الشباب في تونس.
إذ يواجه الشباب في محافظة القيروان صعوبات كبيرة في الحصول على شغل سواء في القطاع العام أو الخاص في ظل تدنّي مؤشرات التنمية والمؤشرات الاقتصادية. وتعتبر المحافظة من بين المناطق الأشد فقرًا، وتبلغ نسبة الفقر بها 35 بالمئة وتتذيل مؤشرات التنمية بوقوعها أسفل ترتيب المحافظات وفق إحصائيات رسمية.
وتقدر نسبة البطالة على المستوى الوطني خلال الثلث الرابع من سنة 2020، بـ 17.4 بالمئة، مقابل 16.2% خلال الثلث الثالث من نفس السنة. في حين كانت سنة 2017 في حدود 15.3.وفق إحصائية المعهد الوطني للإحصاء.