أخبار الآن | حماة – سوريا (نجوى بارودي)

 

ازدياد حالات الاكتئاب المرضي كان أمراً متوقعاً في بلد يتعرض منذ خمس سنوات لشتى أنواع وأشكال الموت المجاني. القلق من المستقبل المجهول ضمن الأحداث اليومية الدموية التي تشهدها محافظة حماة؛ شكل لدى شريحة واسعة من الشباب حالة من الإحباط واليأس، لم يكتف النظام بقتل عائلات بعضهم وتشريد آخرين بل جعلهم يتخبطون في تفكيرهم بمستقبل لم تبد ملامحه واضحة إلى الآن، مما دفع بعضهم إلى اللجوء للأدوية المهدئة والنفسية، وفي ظاهرة خطرة جداً، حيث إن تناول هذه الأدوية التي تحتوي على مواد مخدرة ومسكنة للألم المركزي وتشعر متناولها بالنشوة والارتخاء والراحة في النفس لفترة محدودة تدفع الشباب إلى أن يكرر تناولها إلى درجة إدمان تعاطيها بشكل مستمر، وهو ما بات يحدث بالفعل.

بين عنف النظام ويأس الشباب

أثناء تجوالك في شوارع حماة يلفت انتباهك العدد الهائل الذي قد تلتقيه من أشخاص كسكارى يترنحون في ساحة العاصي، شاب في الثلاثينات يصرخ بأعلى صوته وآخر يقهقه وآخر يدب الرعب بهجومه المباغت على الفتيات اللواتي يسرن في الشارع.

يقول "علي" صاحب أحد المحال: "بحكم تواجدي الدائم هنا، لفت نظرنا شبان بعمر صغير فقدوا عقلهم كلياً، نحاول أنا وأصحاب المحال الأخرى محاولة معرفة أماكن سكنهم ولكننا نفاجئ أن القسم الأكبر منهم نزح من الريف الحموي والذي يشهد يومياً قصفا متواصل من النظام" .

ويضيف: قمنا باللجوء إلى مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل علهم يقومون بمساعدة هؤلاء ولكن كانت السخرية هي أسلوبهم في الرد علينا لذلك لا يسعنا سوى مشاهدتهم والدعاء لهم لا أكثر ولا أقل .

يقول الدكتور "سميح" أخصائي الطب النفسي: "ممارسات العنف التي شهدها الشباب السوري في السنوات الأخيرة وقسوة الظروف التي يعيشونها، دفعتهم للقيام بردود فعل غير متوازنة، فالحروب لا تترك وراءها فقط الهدم والدمار، بل يمتد أثرها ليصيب بشكل خاص الأطفال والشباب، فتجعلهم ضحية الأمراض النفسية والصحية، ليصبحوا بذلك أرواح كاهلة في أجساد صغيرة".

الحرب والاعتقال والشخصية غير المتوازنة

وعلى الرغم من صعوبة إجراء مسح دقيق لتفشي الأمراض النفسية، إلا أن الحد الأدنى المتعارف عليه عالميا هو إصابة 40 % من اللاجئين من اضطرابات ما بعد الصدمة.

يقول الدكتور "سميح": "الكثير ممن حولنا يتخبط في اتخاذ قرارات كانت بسيطة وواضحة في وقت سابق، كأن يقع في الحيرة بين أن يسافر أو يبقى في الوطن، وبين أن ينتقل لممارسة عمل آخر، وبين أن يتزوج أو لا يتزوج على الإطلاق، كما يعاني اليوم الكثير من الشباب السوري من مشاكل دراسية أو عاطفية أو عائلية ويجدون أنفسهم عاجزين عن حلها، تفسير هذا أن أدمغتنا بحاجة إلى مدة كافية لتتكيف مع الظروف المتذبذبة، وتختلف هذه المدة من إنسان إلى آخر، خلال هذه المدة يعاني التفكير الواعي في أدمغتنا من عبء ليتكيف مع هذه الظروف، لذلك النسب الأكبر من حالات الاكتئاب هي من الفئات الشابة، إضافة إلى أن غالبيتهم تعرض للاعتقال أكثر من مرة واستخدم معه شتى وسائل التعذيب التي يتقنها النظام المجرم والتي لم تعد خافية على أحد" .

ومشكلات الأطفال النفسية والصحية

في حين قد تكون تأثيرات الحرب على نمو الطفل واضحة جدا، من خلال إصابته بـ "التوحد" والإعاقات الذهنية وسلس البول، وقد يصاب البعض بالصرع، كما أن غالبية الاطفال الآن يعانون من الكوابيس، ويزداد ارتباطهم بوالديهم، ويخافون من الانفصال عنهم، كما تظهر لديهم صعوبة في التركيز والتعلم، وقد يقوم بعضهم بعزل أنفسهم عن الآخرين!.

وتعتبر هذه المشاكل ردود فعل، لتتطور لدى البعض على شكل التبول المزمن في الفراش مثلا،

روت "بيداء" الطفلة ذات العشر سنوات مخاوفها من الابتعاد عن والدتها بعد أن شهدت مقتل والدها على أيدي الشبيحة: "لن أنام دون والدتي فالشبيحة في كل مكان سيحاولون قتلنا" وتقول والدتها أن بيداء تعاني من السلس البولي والقلق الدائم وتدني مستواها الدراسي .

تلك الحالات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الدمار الذي سببته الحرب في سوريا تجاوز كثيرا ميدان القتال، وليس أدل على ذلك من الحالات النفسية والاضطرابات العقلية التي تشكل فصلا آخر قاسيا من فصول وحشية النظام السوري.