أخبار الآن | دبي – الإمارات العربية المتحدة – (نسرين صادق)
كنت في الثامنة من عمري حين سمعت بمرض السرطان واختطافه أحباءنا. كانت مادلين صديقتي المفضلة، ونحن في الصف الثالث الابتدائي في مدرستنا الصغيرة في قرية وادعة في منطقة إقليم الخروب في الشوف. استرجع ذكرى تلك الأيام بين حين وآخر..
تغيبت مادلين أسبوعًا كاملا عن المدرسة، تساءلنا عن سبب غيابها، فأخبرتنا المعلمة بأنها مريضة بمرض شديد اسمه السرطان يلزمها الفراش. طال غياب مادلين.. طال كثيرًا جدًا.. فقررنا أنا وزميلة أخرى، لم تُعني الذاكرة على تذكر إسمها، أن نزورها في البيت، فقد اشتقنا إلى مادلين كثيرًا جدًا. يستوقفني دائما قرارنا هذا ونحن في ذلك العمر.. أتعجب من جرأتنا في الذهاب إلى "ناظر" المدرسة ليسمح لنا بالخروج منها لزيارة مادلين في بيتها القريب خلال الاستراحة، وأتعجب من سماحه بذلك، ولعله كان سعيدا برغبتنا..
خرجنا فرحتين بأننا سنرى مادلين.. وفي ذلك اليوم الربيعي الجميل قطفنا لها أزهار النرجس والحميضة التي تملأ الحقول.. وأسرعنا الخُطى.. طرقنا الباب، كل منا في يدها باقة من الزهر.. فتحت الباب لنا أختها الكبيرة إيفلين .. كانت تبدو طويلة القامة وضخمة مقارنةً بقامتينا في ذلك الوقت.. فحين سألتنا ماذا نريد رفعنا رأسنا إلى أعلى لنخبرها بأننا أتينا لزيارة مادلين. لكن إيفلين صدتنا ورفضت دخولنا المنزل، و قالت إن مادلين لا تريد أن ترانا.. توسلنا إليها، وهي تقف في الباب وتسده، بأن تسمح لنا بدقائق نُهدي فيها إلى مادلين الأزهار التي قطفناها لها.. ولكننا عدنا أدراجنا وفي يد كل منا باقة زهر من النرجس والحميضة..
في اليوم التالي جاءت الراهبة المسؤولة إلى "صفنا".. حكت لنا قصة عن الخلاص ، ثم قالت إن مادلين الطفلة ذهبت للقاء الرب. ماتت مادلين بمرض سرطان الدم (اللوكيميا) ، في ذلك اليوم عرفت لأول مرة ألمَ خسارة شخصٍ غالٍ وحبيب، لكن طفولتي لم تفقه لماذا وكيف "أكلها" السرطان… وكبرنا.. وتخرجنا في المدرسة الوطنية الإنجيلية التي كانت مخصصة للمرحلة المتوسطة فقط.. وتوجهنا الى بيروت للدراسة الثانوية… في تلك الأيام بدأت في منطقتنا حرب من الحروب الأهلية والطائفية المتعددة التي عصفت بلبنان، وفرقت أهله . لم يُفلح الزعماء الحزبيون المتناحرون في دفع أهالي القرى المسلمة والمسيحية هناك إلى التقاتل، فما كان منهم إلا استقدام مقاتلين من مناطق لبنانية أخرى، مسلحين غرباء عن أبناء المنطقة.. وكان الدم.. وجاءت الطائفية.. فذُبح مدنيون عُزْلٌ في مسجد إحدى القرى.. وفي قرية أخرى هُدِمت مدرستي والكنيسةُ التي تتوسطُ ملعبها..
يوم وقفت – أنا المسلمة – على أنقاض مدرستي والكنيسة التي كنت أدخلها صباح كل يوم دراسيٍّ على مدى سبع سنين مرت أمامي كل ضحكاتنا، وجرينا، وكل الألعاب التي لعبناها، والليمون الحامض الكبير الحجم والثخين القشرة الذي كنا نأكله مع الملح في مجموعات ترن ضحكاتها في ساحة الملعب.. معارض الكتب السنوية وزميلي الذي كان يبيع " مناقيش" الصعتر والجبن في الاستراحة، وعرفت أنه حمل السلاح في الحرب ، منضمًا الى جموع الطائفيين.. النشيد الوطني صباحًا، وتراتيل عيد الميلاد.. شجرة الخروب الكبيرة التي كنا نستظل بأغصانها الوارفة.. رفاق الطفولة جورج وأحمد ومنى وزينة وضومط ومصطفى، وماري التي سألتني يوما ببراءة الطفولة إن كنت بنت الرب فنفيت ذلك ببراءة الطفولة لأجيبها بأنني إبنة أبي وأمي.. هنا كنيسة هدمت انتقاما، وهناك مدنيون ذُبحوا في مسجد لجأوا إليه.. يومها عرفت سرطانًا آخرَ غير الذي أخذ منا مادلين.. سرطانَ الطائفية الذي بدأ ينتشر من مناطقَ أخرى إلى بلدات منطقتي وقراها.. سرطان بدأ سرقةَ ذكريات طفولتنا، وذبحها، وهدمها.. حينذاك كنت في السادسةَ عشْرةَ من العمر.. واليومَ وأنا في أربعينياته، استفحل السرطان ليولد أنواعًا جديدة من أفظع السرطانات، وأشدها فتكا، تنهشنا من المحيط الى الخليج.. سرطانات اللإنسانية ، والفساد، والإرهاب، والتمسح بالدين، والتكفير، وعدم التسامح.. سرطانات تصنيف الناس وفق ألوانهم، وأديانهم، وأعراقهم.. واجتاحنا السرطان الأكبر.. سرطان داعش.. وإن كنت لم أفقه في طفولتي كيف "أكل" السرطان مادلين، فإنني اليوم عاجزة عن فهم كيفية مداواة سرطان داعش الذي يأكلنا يوميا!
حين رأيت صورة رأس صبية باسم الوجه تتدلى منه ضفيرة طويلة بيد داعشي لئيم بعد نحره عنق الصبية تذكرت مادلين.. لا أدري لماذا.. ولكن الضفيرة، وأزهار النرجس، ومادلين صرن يأتينني كل ليلة.. وكل ليلة أشعر بأننا ما عدنا نساءً، وما عاد هناك رجال.. يا مادلين.. لا يزال النرجس فضلى أزهاري، ولا يزال الأصفر مع الأحمر أفضل ألواني .
ويا مادلين.. لروحك البريئة السلام، ولصاحبة الضفيرة ذات الوجه الباسم ألف رحمة ورحمة، ولسرطان داعش ألف لعنة ولعنة..
وادعي لنا أن يرأف بنا الرب حيث ذهبت.