أخبار الآن | أرمينيا – (نسرين صادق)
إجازة عيد الأضحى المبارك قضيتها والأسرة في أرمينيا .أهل هذه البلاد طيبون ، لكنهم يشعرون بالضيق لعدم قدرتهم على التواصل اللغوي مع السُّيَّاح. فهم إن أجادوا لغة ثانية غير لغتهم الأم فستكون الروسية، أما اللغة الإنكليزية التي أصبحت لغة العالم المعولم فهم لا يكادون يعرفون منها سوى كلمة أو كلمتين ونصف الكلمة ، ولولا قليل من لغة أرمنية ركيكة تعلمته من قبل لكان تواصلي معهم بائسا للغاية . وبالعربية والإنكليزية ، وبضع من كلمات وجمل أرمنية عدت ببضع قصص تروى..
أكثر من اتصلت بهم خلال سفرنا هذا هم سائقو التاكسي، ومنهم السوري الأرمني الأصل فارتان. فارتان المولود في مدينة حلب يتحدث بعربية غير مبينة ، يعتريها ثقل في النطق . سألته منذ متى وهو في أرمينيا. أجابني أنه أكمل سنةً في هذه البلاد التي قدِم إليها من لبنان موطن زوجته الأرمنية الجذور، بعد فرارهم من حلب. قال إنه عاش قرابة سنة مع زوجته وابنه في لبنان، لكن غلاء المعيشة، وغياب الراحة التي كانوا يبحثون عنها، دفعا الأسرة إلى مغادرته. ومما قاله فارتان : " بصراحة لم نرتح ، كنا نأخذ إبننا إلى الحديقة العامة، ثم سرعان ما نخرج، فكلها مسلمون، لذلك قررنا في آخر الأمر الذهاب إلى “بلدنا” ونعيش فيه، وهذا أفضل”!!
****
في المصعد القديم ذي الأصوات الغريبة والمخيفة التقينا، دخلت وحيَّتنا بالأرمنية فتبسمنا لها. وإذ تحرك المصعد من جديد بكل اهتزازته وأصواته قلت لبناتي بتهكم إن علينا أن نوثق بالفيديو رحلةَ المصعد هذه، وإذ بها تقول فرحة وبلهجة سورية: أنتم عرب. أخيرًا.. الحمد لله سمعت أحدًا يتكلم العربية في هذه البلاد، فرددت عليها بفرح مماثل : أليس ذلك جميلا حقا؟ أنت سورية أرمنية؟ أومأت برأسها إيجابا وقالت: “تشرفت بكم. شكرا لقد جعلتم يومي سعيدا. اشتقت إلى سماع العربية.”
لقد جعلت هي نهاري سعيدا من دون أن تدري.
****
في اليوم الثاني من عيد الأضحى المبارك ذهبنا لزيارة كنيسة إيتشميادزين أو الكنيسة الأم، وحضور قداس يوم الأحد. السُّياح كثر، فالكنيسة يعود تاريخ بَدءِ بنائها إلى السنة الأولى من القرن الميلادي الرابع ، واكتمل مبناها الأول بعد سنتين من ذلك التاريخ ، ثم شهدت توسعات وإضافات عبر العصور. وضعت غطاء للرأس ، ودخلت الكنيسة، أشعلت شمعتين ودعوت سرا ، ثم وقفت مع الجموع من مصلين خاشعين وسُيَّاح. وأنا استمتع بترتيل الفرقة الكنسية ومشاهدة طقوس مؤمني الكنيسة الشرقية انطلق تطبيق الصلاة في هاتفي مؤذنا بموعد صلاة الظهر. كتمت صوته على عجل لئلا أثير التساؤلات والتفسيرات المتباينة ، وتبسمت مطولا من هذا الموقف السوريالي.
****
خلال مشوارنا الى النُّصب التَّذكاري لضحايا المجزرة الأرمنية لم يكن سائقنا يعرف أي كلمة انكليزية ، لكنني فهمت سـؤاله لي من أي جنسية أنا ، وما أن قلت لبنانية حتى رفع ذراعه بحركة لم أكن لأتوقعها أبدا ، وهتف وذراعه تلوح بإشارة الدعم” حزب الله حزب الله”!!! هززت رأسي بإيماءة النفي وهتفت: يا الله لا لا.. ففاجأني مرة أخرى بالقول مع إشارة دعم أخرى: رفيق الحريري؟ وهنا كان لا مفر من إطلاق ضَحْكِةٍ مجلجلة . فقد تبين لي أنه يحاول معرفة إلى أي حزب سياسي أنتمي!! حتى أنتِ يا أرمينيا؟!!
بين الشجرات التي غرسها قرب النُّصب التَّذكاري زعماء دول ، ومسؤولون كبار تكريمًا لذكرى الضحايا ثلاثُ شجرات ، واحدة غرسها الرئيس اللبناني السابق إميل لحود ، والثانيةُ رئيس الوزراء" الراحل رفيق الحريري ، والثالثة لأحد رؤساء بلدية بيروت، التقطت صورا ، وجعلت سائق التاكسي يراها حين عدنا إليه.
****
قرب ساحة الجمهورية ، لينين من قبل ، تقع سوق فيرنيساج الشعبية ، حيث يتباهى الباعة بعرض منتجاتهم الفَخَّارية ، وأشغال الإبرة والصنارة والتذكارات، وحتى الأشياء القديمة المستعملة. التقيت بائعًا ذكيا، أخترنا بعض الفَخَّاريات من بضاعته ، لفتت نظري فخارة مدورة الشكل جوانبها مزينة بوجوه ، وفي قعرها ثقوب ، ومعلقة بسلسلة ، رفعتها وسألته ما استخدام هذه ؟ سألني: أنتم مسلمون أليس كذلك؟
أجبته : نعم.
تبين أنها مبخرة تستخدم خلال الصلوات الكنسية، والاحتفالات الدينية الخاصة بهم. بدأ شرح الرموز الدينية ، ووجوه القديسين التي تزينها ، لم أفهم شيئا مما قال، لكنني استمعت له حتى النهاية.
****
في فيرنيساج أيضا سألني أحد الباعة: من أين أنتِ، فأجبته: لبنانية. فقال مستفسرا: هل يعني أنك إسرائيلية؟ اتسعت عيناي وقلت بحدة: من لبنان ! أنا لبنانية! قال : فهمت ولكن هل يعني ذلك أنك إسرائيلية أم عربية؟ أنا عربية. لبنانية، يعني عربية! . لم تسعفني أرمنيتي الضعيفة جدا في شرح أكثر،فضلا عن أنني لم أرد الخوض في التاريخ والاحتلال، وأنا في إجازة في أرمينيا. عائق اللغة قد يصبح مفيدا أحيانًا لتلوذ بالصمت.
****
أول انطباع يتشكل لدى من كان يسمعنا نتحدث أنا وعائلتي بلغتنا العربية هناك هو أننا إيرانيون، ثم يسأل بعد النفي ما إن كنا روسا، إلا سائق التاكسي فيكان الذي سألني ما إن كانت اللغة التي نتحدث بها “أرابيسكي”. نعم إنها “أرابيسكي”. ابتسم مرددا ، نو بروبلم نو بروبلم..
****
أما صديقي الجديد سائق التاكسي هراتش فهو قصة في حد ذاتها. كيف تفاهمنا خلال مدة الإجازة ومشاويرنا ورحلاتنا ، لا أعرف. المهم أنه بين لغة الإشارة والأرمنية التي لا أذكر من إجادتي السابقة لها إلا بقايا جمل وكلمات و”نورمال” و”نو بروبلم” التي لا يعرف هراتش غيرها بالإنكليزية تكونت صداقة إنسانية عززتها معرفته بالجذور الأرمنية لبناتي. فقد أحبنا الرجل وأحببناه ، وشعر بأنه مسؤول عنا هناك ، فكان يجادل عنا في الأسعار ، ومرة أومأ لي بالسكوت ، وقطع لنا تذاكر الدخول إلى الموقع الأثري بسعر الدخول للمواطنين الأرمن. وحين أقلنا الى المطار في رحلة العودة أفهمني أنه سينتظرنا حتى نؤكد له أن أمورنا على ما يرام ، وأن أتصل به مباشرة إن اعترضتني أي مشكلة.
“أيتها الأرمنية” هكذا كان يناديني هراتش يوميًا خلال إجازتي هناك، لم يستطع لفظ إسمي، وجده صعبًا فاكتفى بذلك بالرَّغم من علمه بأنني عربية. عندما ودعته قال لي: أيتها الأرمنية ، في المرة المقبلة حين تزوريننا يجب أن تتحدثي بلغتنا جيدًا.
11-10-2014