الطب الشخصي.. ثورة تتنبأ بظهور الأمراض وفاعلية الأدوية

  • يركز علم الجينوم على فهم المعلومات الحيوية في الشفرة الوراثية
  • ثورة في عالم تشخيص وعلاج الأمراض المستعصية

 

نداء عاجل أطلقته منظمة الصحة العالمية مؤخرًا، لتسريع الوصول إلى علم الجينوم، لا سيما في البلدان فقيرة الموارد، وضرورة الاستثمار في هذا المجال.

هذا النداء جاء بعد الاستفادة الكبيرة للقطاع الطبي والصحي من علم الجينوم خلال جائحة كورونا، بداية من التشخيص مرورًا باكتشاف طفرات المرض، وانتهاء بتطوير العلاجات واللقاحات المضادة للفيروس وفق News medical life sciences.

المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم جيبريسوس قال: “خلال وباء كوفيد-19، كانت الجينوميات ضرورية للكشف عن الفيروس ابتداءً، والمتحورات الجديدة لاحقًا، كما ساهمت في تطوير الاختبارات والعلاجات واللقاحات. علاوةً على ذلك، لدى الجينوميات إمكانياتٌ هائلة تتجاوز مراقبة العوامل المُمْرضة للإنسان ورصدها، ولقد حان الوقت لكي تستثمر البلدان في البنى التحتية والموارد البشرية في هذا المجال”.

ولكي ندرك مدى أهمية هذا النداء، لابد أن نلقى الضوء على علم الجينوم، ومدى استفادة البشرية من تطبيقاته التي تحدث ثورة في عالم تشخيص وعلاج الأمراض المستعصية.

ببساطة، يركز علم الجينوم على فهم المعلومات الحيوية في الشفرة الوراثية (DNA) للإنسان، واستخدامها في مجال تشخيص الأمراض والتنبؤ بها وتطوير العلاجات الجديدة واللقاحات، ويعد الركيزة الأساسية لتطبيق ما يعرف بـ”الطب الشخصي” أو “الطب الدقيق”.

ثورة الطب الشخصي

مصطلح الطب الشخصي أو “الطب الدقيق” (Personalized medicine) يعتبر جديد نسبيًا في مجال الرعاية الصحية، ويرتكز على جمع بيانات دقيقة عن العوامل الوراثية والبيئية الخاصة بكل فرد، وتصميم استراتيجية للوقاية من المرض، أو خطة للعلاج تتناسب وظروف كل مريض على حدة، لأن العمر وأسلوب الحياة والحالة الصحية، كلها عوامل تؤثر في مدىالاستجابة للأدوية، وكذلك الجينات الخاصة بكل إنسان.

هذا المجال الناشئ، الذي بدأ تطبيقه في بعض الدول، ينسف النظم القديمة في العلاج والتي تعتمد على دواء واحد يصفه الطبيب عادة لكل مريض يشتكي بعرض معين، ويبشّر بثورة في مجال اكتشاف وعلاج الأمراض؛ إذ يمكن من خلاله تحقيق أفضل استجابة علاجية من قبل المريض بأقل تأثيرات جانبية للأدوية، ليس ذلك فحسب، بل وتطوير علاجات جديدة تستهدف المرضى الذين لا يستجيبون للأدوية التقليدية.

كما يهدف الطب الشخصي إلى معرفة احتمال إصابة الشخص بمرض معين قبل حصوله. ومن خلال معرفة الجينات المسببة للأمراض، يمكن بسهولة اكتشاف الأشخاص الذي لديهم استعداد وراثي للإصابة بمرض معين عند الكبر كمرض السكري من النوع الثاني مثلاً، ووضع خطة علاجية مبكرة يمكن أن تسهم في تقليل أثر هذا المرض عليهم في المستقبل، كما تسهم في إيجاد علاجات فعالة لهم.

هذا النوع من الطب يرتكز على حقيقة أن صحة الشخص حصيلة عاملين أساسيين يعملان جنبًا إلى جنب: الأول هو الاستعداد الوراثي الموجود في الشفرة الوراثية أو “DNA”، والآخر هو البيئة المحيطة التي تتضمن الغذاء وأسلوب الحياة والتلوث البيئي والضغوط النفسية وغيرها من العوامل التي تتفاعل مع المادة الوراثية وتسهم في إمكانية إصابتنا بالأمراض أو استجابتنا للأدوية.

أثر هذا النوع من الطب يظهر جليًا في علاج أمراض تكبد المريض آلاف الدولارات كالسرطان على سبيل المثال، ببساطة يمكن أن يشتري المرض دواء باهظ الثمن بناء على وصفة الطبيب، لكن في النهاية لا يحقق هذا الدواء النتائج المرجوة، والسر هنا ليس في الدواء ذاته، لكن في مدى استجابة الجسم له، لأن الدواء الذي يعمل بكفاءة عالية مع بعض المرضى ربما لا يستجيب له آخرون، وفي المقابل، ربما تتسبب بعض الأدوية في آثار جانبية خطيرة لدى البعض دون آخرين، ونفس الشيء يتكرر عند الإصابة ببعض الأمراض ذات الأصل الوراثي مثل السمنة والسكري وغيرها، لأن الجينات يمكن أن تجعل بعض الأشخاص أكثر عرضة للأمراض دون غيرهم.

الصيدلة الوراثية

بقطرة دم واحدة، يمكن من خلال الاختبارات الجينية، تحديد الجرعة المناسبة من الدواء للمريض، بناء على تركيبته الوراثية، ما يضمن أكبر قدر من الفعالية الدوائية، وأقل مستوى من المضاعفات أو الآثار الجانبية التي قد تنتج عن العلاج، كما يمكن أيضا اكتشاف الأمراض ذات الأصل الوراثي وتصميم علاجات دقيقة لها، بناءً على التركيبة الجينية الخاصة بالمرضى.

والاختبارات الجينية هي عبارة عن فحص الحمض النووي (DNA) وهو قاعدة البيانات الكيميائية التي تحمل تعليمات وظائف الجسم، ويمكن أن تكشف هذه الاختبارات، التغييرات (الطفرات) في الجينات التي يمكن أن تتسبب في اضطراب ما أو المرض.

وقد يتساءل البعض، كيف يمكن للأطباء أن يعرفوا أن دواء بعينه يمكن أن يكون فعالاً لدى بعض المرضى بينما لا يحقق النتيجة ذاتها لدى البعض الآخر؟

السر يكمن في علم الصيدلة الوراثية (Pharmacogenomics) وهو مثال مهم على التطبيق الفعال للطب الشخصي؛ فالجينات البشرية تسهم بشكل أساسي في إنتاج بروتينات محددة في الجسم، هذه البروتينات تلعب دورًا محوريًا في العلاج بأي عقار، منها أنها تؤدي دورًا في تحليل مكونات العقار، وتساعد على امتصاصه ونقله إلى أجزاء معينة في الجسم، كما أنها البروتينات تعد أهدافا للعقار، وتؤدي دورًا جزئيًا في الأحداث الجزيئية التي يثيرها العقار.

ببساطة شديدة، يمكن لاختبار الجينات أن يسهم في وضع خطة علاجية مستقلة لكل مريض، وتحديد مدى استفادته من العقار، أو حتى عدم استفادته، كما يحدد المدة المثلى للعلاج للوصول إلى أفضل نتيجة، وهذه الطريقة توفر المال والوقت على المريض، بدلا من الإنفاق على علاج لن يستجيب له جسمه، وقد يسبب له آثارًا جانبية خطيرة دون فائدة علاجية، وتجعله يستفيد بعلاج آخر يحقق له نسب الشفاء المأمولة.

مشاريع الجينوم

ويعود تاريخ إنجاز الجينوم المرجعي البشري إلى 2003، حيث تعاون فريق بحثي دولي من أجل فك شفرة حياة الإنسان وقراءة المحتوى الجيني له بالكامل. المشروع بدأ في 1990، واستغرق إنجازه 13 عامًا، وهو ما مكّن العلماء والباحثين من قراءة المخطط الكامل لطبيعة بناء الكائن البشري، لكن ما ينقص هذا المشروع أنه بُني بالاعتماد الأكبر على أفراد من أصول أوروبية، وهو ما يجعله لا يلائم باقي الشعوب بدرجة كبيرة.

وسعيا وراء إطلاق مشاريع جينوم متخصصة لكل بلد، انطلقت العديد من مشاريع الجينوم السكاني في أوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا وأفريقيا جنوب الصحراء، وفي العالم العربي، انطلقت مجموعة بقوة نحو تنفيذ مشاريع الجينوم الخاصة بها، أبرزها مصر والإمارات والسعودية وقطر، لكن لا تزال الكثير من الدول حول العالم وخاصة في أفريقيا والشرق الأوسط تفتقر إلى وجود مرجع وراثي لشعوبها.

ولكي تحقق أي دولة أقصى استفادة من علم الجينوم، لابد لها أن تطلق مشروع جينوم خاص بها، يبحث في الخصائص الوراثية للأصحاء كمرحلة أولى، يليها دراسة الحالات المرضية ذات الأصل الوراثي، ومقارنتها بالجينوم المرجعي، وبذلك يمكنها الاستفادة من تقنيات الطب الحديث والانطلاق نحو تطبيق الطب الشخصي.

فوائد إطلاق الدول لمشاريع الجينوم

وهنا يسأل البعض، ما فائدة أن تطلق كل دولة مشروع الجينوم الخاص بها ولا تعتمد على مشاريع الجينوم الموجودة بالفعل في عدد من الدول؟

الإجابة ببساطة، أن التركيبة الجينية للبشر تختلف بشكل جزئي من مكان إلى آخر في جميع أنحاء العالم، ولكي تحقق البلدان أقصى استفادة لمواطنيها من تطبيقات علم الجينوم، لابد أن يكون لها مرجع جينوم خاص بها، يدرس طبيعة التركيبة الجينية للشعب، ونوعية ونسب الأمراض الجينية المنتشرة بين المواطنين، وبالتالي تزيد دقة نتائج أبحاث الجينوم فيما يتعلق باكتشاف الأمراض ونتائج العلاجات.

هناك ميزة أخرى لمشاريع الجينوم الخاصة، وهي أنها ستزيد دراسات ما يسمى بالارتباط على نطاق الجينوم (GWAS) وهي دراسات دولية متعلقة بتشخيص الأمراض، تكشف الطفرات التي يمكن أن تكون مرتبطةً بحدوث أمراض وراثية، هذه الدراسات هدفها اكتشاف الطفرات الوراثية المرتبطة بكل شعب على حدة، على سبيل المثال هناك طفرات موجودة بكثرة في أوروبا تسبب مرض باركنسون أو الشلل الرعاش، لكن في المقابل إذا قورنت هذه الطفرات في الشعوب العربية، فإنها تكون موجودة بصورة ضئيلة، وتختلف بشكل كلي عن أوروبا.

كما تهدف هذه الدراسات أيضا إلى تصميم مجموعة بحثية محلية لتحديد متغيرات المخاطر في الأمراض الشائعة مثل السكري وأمراض القلب والأمراض العصبية والسرطان.

لذلك كان نداء منظمة الصحة العالمية عاجلا، وعلى الدول والحكومات الاستجابة لهذا النداء، لأن إمكانيات علم الجينوم الهائلة تتجاوز رصد الأمراض، لتعود بالفائدة على صحة الإنسان، وقد حان الوقت لكي تستثمر البلدان في الهياكل الأساسية والموارد البشرية في هذا المجال.

ختامًا، للعلم أدواته التي تتطور باستمرار وعلى الدول والشعوب مواكبة هذا التطور، فيما يخدم البشرية ويحافظ على صحتها ورفاهها، فلا مكان في هذا العالم لم يتخلف عن الركب.